مكان للمحبة

مكان للمحبة

قصة قصيرة

أتأمل حروف ورقة (الفاكس) دون أن أستطيع قراءتها بوضوح, خط صديقي (سعيد الكفراوي) الذي أحفظه جيدا يبدو غامضا, وصل (الفاكس) بعد أن انصرف الجميع عن العمل, وظل موجودا على الماكينة الباردة لمدة يومين دون أن يقرأه أحد, كان في انتظاري عندما وصلت مبكرا إلى العمل في اليوم الثالث, تقول كلماته الأولى (مات والدنا جميعا), يعني والدي أنا وحدي, أنهار جالسا إلى مكتبي دون أن أجرؤ على إكمال بقية الكلمات, لا دموع في عيني ولكن لا أستطع الرؤية بوضوح, مكتبي مفتوح على بقية مكاتب المجلة, ومن السخف البكاء في مكتب مفتوح, يحضر لي زميلي (محمد المخزنجي) كوبا من الماء, فآخذ منه بضع رشفات, ولكن غصة حلقي تظل باقية, أسمع صوته وهو يقول لي:

ـ يمكنك أن تنصرف الآن وسوف أقـوم عنك بالعمل.

كيف يمكنني الانصراف وأنا لم أكمل قراءة بقية (الفاكس)? أقرأ سطراً آخر, (كان يوما عنيف المطر, وظللنا نخوض في الأوحال ونحن في طريقنا إلى المقبرة), أليس من المدهش أن يموت مثل ذلك الرجل السهل وسط ذلك الجو الصعب, تحت وطأة طبيعة غاضبة وهو الذي لم يترك للغضب سبيلا إلى نفسه, يواصل المخزنجي القول:

ـ سأقوم ببقية الإجراءات الضرورية, اذهب الآن لتستعد للسفر .

يبدأ بقية الزملاء في التجمع حولي فأدرك أنني لن أستطيع إخفاء صوت بكاء الطفل النائم في داخلي طويلا, أنهض منصرفا متمتما ببعض الكلمات التي لا معنى لها وأظل أتعثر في الدرج حتى أصبح في الخارج.

أقود سيارتي بمحض غريزة التعود, تأخذني الطرق المتداخلة في متاهة الإسفلت الأسود, أركز عيني على الخطوط البيضاء المتقطعة وهي تتتابع بلا نهاية, على المقعد المجاور يرقد (الفاكس) الذي لم أستكمل سطوره بعد, أتوقف بالسيارة على جانب من الطريق لأعاود القراءة, ولكن العادم المتطاير من السيارات يملأ عيني بالدموع, في هذه اللحظة كرهت خط (سعيد), كرهت معاودة قراءة تلك الحروف الكبيرة الحادة الزوايا, أكتشف أنني متوقف منذ فترة, أمامي بناية عالية أشبه بالبرج, مكتوب عليها بحروف مضيئة أرقاما توضح الوقت ودرجة الحرارة, تتوالى أرقام الوقت وأمامي الكثير مما يتوجب فعله, كل شئ قد تأخر إلى حد مروع, حجز التذكرة, السفر, مجرد تعبير عن ندم زائف, أقول ذلك لزوجتي (أماني) حين أمر عليها وآخذها من العمل فتقول لي :

ـ ولكنك يجب أن تسافر يا محمد, أنت خائف وتحس بالذنب لأنك لم تره قبل موته, مع علمك أنه سيموت, ولكن هذا لم يكن ليؤخر موته, كانت هذه الرؤية ستريحك فقط بعض الشيء, سافر الآن, افعل أي شئ حتى ولو جاء ذلك متأخرا, هذا أفضل من أن لا تفعل شيئا على الإطلاق .

حادّة وصادقة كالعهد بها, اكتشفت خوفي من العيون التي ستتهمني بالتواطؤ على موته, من الأماكن التي مازالت تحمل رائحته, من سماء بلدتنا الرمادية المثيرة للأسى في هذا الشتاء, من طرقات الذكريات الموحلة, من المدى الضيق الذي وضعني فيه موته, تناولت (أماني) الفاكس وأخذت تقرأ لي كل التفاصيل بلا تمهل, أتذكر شهقة أمي بالبكاء, إحساسها الفاجع بالوحدة بعد أن تخلى عنها الرجلان الوحيدان التي عرفتهما طوال عمرها, أنا وأبي, قالت (أماني), وهي تضع الفاكس في حجرها:

ـ أنت خائف منها, ومن لومها لك, مهما كان الأمر فحاجتها إليك أكبر من اللوم, إذا جاء الغد سافر إليها .

في الغد كانت حقيبة سفري صغيرة, وحيدا في مطار خال, أرتدي ثيابي الكاملة وتوشك ربطة العنق أن تخنقني, الطائرة أيضا شبه خالية, أرفض الشراب الذي عرضته علي المضيفة فلم يعد أحد يأبه بي, فور أن تصعد الطائرة تختفي الأرض فجأة وأجد نفسي بين السحب, أمواج رمادية متكاثفة لا تنقطع, ولا تخف كثافتها, كأنها تقف في انتظارنا دون أن تدفعها الريح أو تمزقها الرعود, صحراء قاحلة من السحب, قمم من تلال معتمة ووديان غائرة, تحتوي الطائرة في قبضة واحدة فيبدو كأن لا شئ يتحرك, ننقطع عن كل ما هو واقعي وصلب, ينخلع قلبي وأنا أشاهد طائرا رماديا متدثرا بالضباب يمرق كومضة قدرية داخلا إلى جوف محرك الطائرة دون عودة, يتم ذلك في صمت الأضاحي القديمة وبلا تراتيل, يتواصل اللون الرمادي الأشهب دون أن تتناثر فيه ولو قطرات ضئيلة من الدم, أدخل أنا وأبي في متاهة من جبال القطن المنتوف, كانت هذه هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى عمله الجديد في عنبر (حلج الأقطان), تحيط بنا سحب أرضية هشة, يمسك أبي بيدي الصغيرة وهو خائف علي من التوهان, أرى الدواليب الضخمة وهي تشرع أسنتها الحديدية اللامعة ثم تغوص بها في أنسجة القطن المستكينة, تفصلها عن البذور الداكنة, تحول نسيج القطن المتماسك إلى كتل هشة شديدة الشفافية والشحوب, أسمع صوت سعال العاملات قبل أن ألمح أشكالهن, لا يتوقفن عن الحركة وهن يحملن أكوام القطن الخام ويلقين بها في جوف الدواليب التي لا تشبع, بنات صغيرات و عذارى لم يمسسهن الرجال, هذا هو الشرط حتى يظل القطن نقيا دون دنس, يشبعن رغبة الأنصال اللامعة التي لا تتوقف عن التهام القطن, وأحيانا تغافلهن هذه الأنصال وتبتر شيئا من أطرافهن, إصبعا أو ذراعاً. قربان غامض آخر, أسمع صوت أبي وهو يقول :

ـ لا يخدعنك مشهد القطن يا محمد, فخلف هذا النسيج الرقيق توجد دائما قسوة

فماذا تخبئ لنا تلك السحب التي أسري فيها وحيدا, وكيف أعرف طريقي في يوم غائم يليق بالموت كهذا اليـوم?

تهبط الطائرة دون أن أرى شيئا من معالم الأرض, لا يلتفت أحد إلي وأنا أسير في الطرقة الطويلة حاملا حقيبتي, أتوقف أمام ضابط الجوازات الذي يبحث بلا اهتمام عن سجلي داخل جهاز الكومبيوتر, ألمح بطرف عيني الحروف الخضراء على الشاشة (لا شئ), كأن السحب مازالت تحيط بي وتحولني إلى لاشيء, أواصل عبور الحواجز كلها دون كلمة ترحيب أو تعزية أو تعاطف دون أن أكون مرئيا من أحد, كل من حولي يتعانقون, تطفر الدموع من أعينهم فلا تطفـر من عيني دمعة واحدة, يجب ألا أرثي نفسي أكثر من ذلك, فالمدينة التي غادرتها وأنا شاب يجب أن تستقبلني شيخا صلب العود, أقول لسائق سيارة الأجرة :

ـ أريد الذهاب إلى موقف الحافلات الذاهبة إلى (المحلة).

يقول لي : وما حاجتك إلى الحافلة, أستطيع أن أقودك إلى بلدتك مباشرة, كن سخيا وأرح نفسك .

عبثا أن أقول له إنني حزين لدرجة لا أحتمل فيها السفر وحيدا, أصرخ فيه أن يأخذني إلى الموقف وإلا سعيت إلى غيره, يقودني بروح من العداء طوال الطريق, أطلب منه أن يطفئ سيجارته فيرفض, أكتشف أن زجاج النافذة مقفول ومعطل, أصبحت بلا سند في هذا الكون الواسع, فهل كان من المحتم عليه الرحيل ?

تتحرك بي الحافلة مع غروب الشمس, بعد أن تصبح المدينة أكثر ازدحاما وحزنا, تمتلئ الحافلة بوجوه متعبة وصامتة أنهكها تجوال اليوم الطويل, يشبهون أناسا أعرفهم ولكني لا أعرفهم, أرى مياه النيل وقد تلونت باللون الأحمر فيرتجف قلبي في حنين آسيان, أخرج من المدينة ومازالت بقايا الشمس خلف الأشجار, لا أرتاح إلا عندما يغرق كل شئ في الظلام, أغمض عيني دون نوم .

أضواء (المحلة) الذائبة في الماء ترسل الرعدة في نفسي, أحاول عبثا أن أقنع إحدى سيارات الأجرة حتى تحملني إلي بيتنا القديم , كل الطرقات التي تؤدي إليه كانت متكسرة وموحلة في هذا الوقت من العام, يوافق أحد السائقين مقابل ثلاثة أضعاف الأجر, ما أن تبدأ السيارة في السير حتى يرتد الزمن بي, تستيقظ الأصوات وتصعد الروائح القديمة مشبعة بالطين والمطر, تضيق حولنا الطرقات حتى توشك السيارة أن تحف بالجدران المتشققة, ننفذ أخيرا إلى الشارع الطويل المؤدي لبيتنا .

أهبط وسط برد الليل, المسجد مغلق, وكذلك المقهى, ولا أحد في الطريق, لا أحد من الناس الذين كانوا في دخولي وخروجي يقولون لي : طالت غيبتك يا محمد, كأنني كنت موجودا ولم أكن في حالة دائمة من الغياب, بعدت حتى تناءيت, تكاثرت مشاكل وجودي في هذا العالم حتى أصبحت أضيق بهذا الوجود, أحمل حقيبتي الصغيرة وأخطو وسط الأوحال, أخشى الانزلاق ولا أستطيع أن أرى ما حولي بوضوح, يزحف الوحل من حذائي حتى أطراف بنطلوني, وأصل إلى باب البيت في صعوبة, أقف أمام عتبات السلم المظلم وأنا غير مصدق, المرة الأولى التي أجد فيها مصباح السلم غير مضاء, كان أبي يحرص على إضاءتها كل يوم من السادسة إلى الثانية عشرة ويبقيها طوال الليل إذا كنت موجودا فقد كان يعرف أنني أهوى التجوال ليلا, أنادي بصوت عـال:

ـ يا أمي أنا هنا, فليشعل لي أحد المصباح .

لا أحد يرد علي, لا أحد يتوقع قدومي, أنادي على أختي (نادية)التي تسكن في الدور العلوي دون جدوى, العتمة مخيفة, أصعد الدرج وأنا استند إلي الحائط, أحس بالنشع البارد يتسلل إلى عروقي, أخاف أن أتعثر أو أن أدوس على قطة ضالة, أصل إلى باب الشقة وأبدأ في الدق عليه, يا أمي أنا متعب وبردان, لا أحد يرد, سافرت من الصباح البارد وهأنذا أقترب من منتصف الليل دون مأوى, أعرف أن العزاء قد انتهى, ولكن ثمة مكاناً لي, فليس هذا هو العقاب الأخير, مازال هناك المزيد من الأخطاء التي سوف ترتكب, ومازال هناك مزيد من العقوبات في انتظارنا .

ينفتح الباب تحت إلحاح دقي المتوالي, ذهب الحرص بعد ذهابه, كيف يمكن لأمي العجوز أن تواصل حياتها دون الحماية التي كان يوفرها لها, أدخل إلى الصالة المظلمة, يشع ضوء شاحب من الغرفة التي تعود على الجلوس بها , أقترب في بط ء دون أن أجرؤ على إصدار أي صوت, أراه جالسا على السرير كما تعودت أن أراه, يدير رأسه نحوي ويقول بهدوء من طال انتظاره :

ـ جئت أخيرا يا محمد ?

بلا تذمر ولا بنبرة من لوم أو عتاب, نفس الاستقبال الهادئ المليء بالمؤانسة, أتقدم منه وأنا أكتم عبراتي واعتذاراتي, وأهتف :

ـ يا لله يا أبي, قالوا لي إنك قد .. رحلت .

يبتسم ابتسامة شاحبة تحت الضوء الشاحب :

ـ وهل كان يمكن أن أرحل قبل أن أراك .

أجلس أمامه على حافة الفراش, أتأمل بريق عينيه الخابيتين, وجنتيه البارزتين وأرقب ابتسامته الواهنة لعلها تسطع على وجهه, يحاول هو أيضا أن يرى خلف ملامحي ذلك الطفل الذي حمله على ذراعيه ذات يوم قبل أن يتساقط شعره وتصفر أسنانه وتملأ البثور وجهه, يفاجئني بالسؤال:

ـ ما الذي يؤلمك يا محمد ?

ببساطة ينفذ إلي أعماقي, يطيح بأسئلتي عن لحظات الغياب ويختصر كل العتابات والاعتذارات, ومن المستحيل أن أقنعه بإجابة عائمة, أوشك أن أجهش بالبكاء حزنا على نفسي هذه المرة, أقول له مندفعا وغير قادر على إخفاء مشاعري :

ـ متعب يا أبي, ولا أدري لماذا تلح علي فكرة الانتحار, أحاول أن أبعدها عن ذهني باستمرار ولكنها لا تكف عن معاودتي .

يقول في إشفاق :

ـ أستغفرك ربي وأتوب إليك إني كنت من الظالمين, اهدأ يا محمد, ما يؤلمك هي نفسك المنقسمة يا محمد, والأكثر إيلاما أنها مستعصية عن الالتئام, كبرت وكبرت همومك .

ومن قال يا أبي إن الكون حين عشنا لحظة تكوينه كان قابلا للعطب, وأن تلك النفس الواحدة تتسع لكل هذه المرارات, أتعرف السبب يا أبي, أتعرف السبب يا محمد, لقد تباعدنا, فقدنا ذلك النجم الهادي الذي كان يقودنا عبر شوارع (المحلة) حتى في أيام الرزق الضيقة ولحظات الفرح القليلة, أحيانا أسير بجانبه, أحيانا أسير خلفه دون أن يراني, يحدث هذا في اللحظات التي يكون فيها متضايقا ويرفض فيها أن يصحبني معه, أقف بعيدا وأنا أشاهده جالسا في المقهى يضحك مع أصحابه وهو يشرب فنجان (القهوة المضبوط), كنت أحب أن أراه وهو يضحك ولكني أصاب بالملل حين يبدأ في لعب (الدومينو) معهم, أحاول أن أعود وحدي إلى المنزل, ولكن دون نجم هاد آخذ في التخبط في حواري بلدتنا الضيقة, أبكي من شدة التعب فيسألونني (ابن من ?) فأعطيهم إجابات خاطئة, ثم أنام بجانب حائط, أو على باب مسجد, حتى يأتي هو, الوحيد الذي له القدرة على معرفة مكاني, أستيقظ ثم أتظاهر بالنوم لأظل على كتفه حتى نعود إلى المنزل, أقول له : كيف كنت تعرف مكاني ? فيقول لي : كنت أشم رائحتك .

نتبادل ضحكة هادئة, يسر لأنني تخلصت من هذه البداية الكئيبة, كان يسعد دائما عندما أسترد جزءا من طفولتي, ويعود هو أبي الذي ضيع علي (شقا) عمره, يقول :

ـ خذ راحتك, تمدد على الفراش, ولكن اخلع حذاءك أولا, فأنت كالعادة قد لطخته بالطين .

معا وسط الطين, نجتاز الشارع الضيق الذي يقع منزلنا في آخره, بعد ليلة طويلة ممطرة لا يوجد أي مكان جاف, يقول لي : دعني أخطُ أنا أولا ثم اتبعني, كنت أرتعد, دائما ما يأتي الشتاء وأنا لا أملك الثياب الملائمة لمواجهته, كان أشد الفصول كراهية إلى نفسي لأنه يكشف كل ما حاولت أن أخفيه طوال العام, يقول أبي : هانت يا محمد خذ بالك وسوف نصل نظيفين إن شاء الله. المارة الذين رأوا ثيابي النظيفة نسبيا وحرص أبي الزائد الـتصقوا بالجدران وتركونا نمر دون رذاذ, نصل أخيرا إلى نهاية الشارع, نستند إلي جدران المسجد, ويقدم لي أبي الحذاء النظيف الذي كان يحمله طوال الوقت وهو يقول : اخلع حذاءك المتسخ والبس هذا الحذاء, الآن تستطيع الذهاب إلى الكلية دون مشاكل, مع السلامة يا محمد .

يقول مبتسما وهو يفسح لي مكانا في السرير مقابله:

ـ ألم أقل لك, كنا دائما معا, في الصحو والغيم كما يقولون, لعن الله المسافات التي تفرق بين القلوب المتحابة وجزى الله الحنين .

أريد أن أقول له إنني أكثر من يعاني من اتساع المسافات, وأن العالم قد تباعد من حولي بطريقة تثير الأسى, تباعدت الأشجار التي كنت أعرفها والبيوت التي كنت أزورها والأشخاص الذين أحن إليهم, فكيف تريد مني يا أبي أن أعيش بنفس غير منقسمة ? يقول أبي :

ـ أنت مخطئ يا محمد, الأرواح تحتل فراغ هذا العالم من حولنا إنها قريبة منا وإن كنا لا نراها, لولاها لكنا متنا من الوحشة والافتقاد .

يصمت قليلا ثم يتأمل حقيبة سفري الصغيرة جدا, تم يقول وعلى وجهه ابتسامة معابثة :

ـ ماذا أحضرت لنا معك .

أقول معتذرا :

ـ كنت مفاجأ ومتعجلا فلم أحضر شيئا.

يقول : على الأقل أحضرت كتابا نقرأه معا.

معا في ظلمة القاعة الرطبة التي تحتوي على الأنوال الخشبية التي ينسج عليها خيوط الحرير, سوف يظل إيقاع هذه الأنوال وهي تدق اللحمة في السداة في وجيب قلبي حتى أموت, أجلس بجانبه وهو منكفئ على النول يقذف (المكوك) خلال مجرى خيوط الحرير ليلقفه باليد الأخرى, أرقبه مخلوب اللب وهو يحركه في براعة لا تعرف الكلل, أنتهز فرصة ابتعاده عن النول فأحاول تقليده ولكن المكوك يقع مني والخيوط الحريرية تتمزق, أراه بعد ذلك وهو منكب عليها يعيد عقدها من جديد, تسرح يده الضخمة الخشنة بنعومة بين الخيوط الرقيقة بينما تتمزق عند أي لمسة من يدي الصغيرة, ويقول هو ضاحكا : الحرير كالنساء يا محمد لا يحسن التعامل معهن إلا من يفهمهن, ولم أفهم ولم أحسن التعامل لا مع الحرير ولا مع النساء, يقول أبي : لأنك تجلس وحيدا وتقضي ساعات طويلة في القراءة, ما رأيك لو جئت بكتبك إلى القاعة وتجلس لتقرأ معي, وهكذا بدأنا رحلتنا معا بين الصفحات القديمة لكتاب الجيب والمسامرات والقصص العالمية, أمتع الرحلات التي سافرنا فيها معا, ضحكنا لأيام متوالية على المقالب التي يقوم بها (أرسين لوبين) ليقع فيها المفتش (تيل), وساعدنا (روكامبول) على الاختباء في قاعتنا الباردة هربا من الشرطة, وارتدى (الصنايعية) من أصحاب أبي شارات الثورة الفرنسية المثلثة الألوان ورفعوا مع (دارتنيان) الملفات الخشبية التي يلفون عليها الحرير وهم يهتفون الكل للواحد, تحولت كل الحصر الملونة إلى سجاجيد سحرية طارت بنا إلى مدن النحاس والسحرة, بكينا معا و (فيرتر) يبعث برسائله ويموت محسورا دون جدوى, و(غادة الكاميليا) تضحي بحبها وتبصق نفثات صدرها, ورحلت سفينة القبطان (إيهاب) فوق بحر من خيوط الحرير, فشربنا كئوس الروم وطاردنا الحوت الأبيض دون جدوى, يعلق أبي قائلا إنه أيضا قد أضاع كل الفرص وأن حيتان البحر لا تختلف كثيرا عن حيتان البر, تراكمت الرمال على آثار (قطر الندي حتى فقدت دروب العودة, خرج الجني من قمقمه وسألنا عما نتمنى فهتفنا معا:) قاعة أقل رطوبة وحرير أقل تلفا, شربنا حساء (الكرنب) في ليالي الشتاء وانفتحت الحارة الضيقة عن سهوب شاسعة من الثلج الأبيض تجري عليها عربات تجرها ثلاثة من الخيول الروسية, أصاب أنا وأبي بالفزع ونحن نشاهد صراع الإخوة (كرامازوف) تباغتنا مشاعرهم العنيفة عشقا وبغضا وهم يشربون حتى الثما لة ويتبارزون حتى الموت, ازدحمت القاعة بخيول الفرسان والملوك وقطاع الطرق والمطالبين بالعرش والقراصنة والغواني ذوات التيه والشعراء المطاردين, خيوط من الكلمات والنزوات تربط بين الأب المنكفئ على نول الحرير وذلك الابن الذي يمسك كتابا ممزق الأوراق, يضحكان معا ويتأوهان في نفس الوقت, ذات لحظة نادرة لم نعد وحيدين ولم نعد في حاجة إلى الكون المشعث البائس في الخارج, وفي النهاية عندما أفعمت صدورنا بكل أنواع الكلمات كنا نجلس متجاورين صامتين تماما نفكر تقريبا في نفس الشيء, يقول لي أبي مبتسما :

ـ فيما تفكر يا محمد

فأقول له دعابتنا الشهيرة : في الشيء نفسه,

أنهض من مكاني على حافة السرير وأحتضن جسده الذي أصبح شديد النحافة والوهن, أعتذر له عن التباعد بسبب كثرة الأسفار فيقول لي :

ـ كم أخشى عليك من تلك الطائرات, الأرواح فقط هي التي تقدر على الابتعاد عن الأرض, لا بد لكل واحد من أرض يلامسها وإلا ضاع الأمان .

يغمض عينيه ويرجع بظهره إلى الوراء, أشعر بالخوف وبالوحدة من أن يتم الرحيل بغتة, أستحضر في داخلي صمت قاعة الأنوال ورطوبتها, أصبح ذلك الطفل الصغير الممسك بكتاب ممزق, أحاول أن أقول له شيئا مسليا كما كنت أفعل في السابق, شيئا يعيد ربطه بلحمة الحياة وسداها فأقول له :

ـ افتح عينيك يا أبي وأستمع إلى ما أقوله عن سفرتي الأخيرة, في مدينة أصفهان التي يقولون عليها إنها (نصف جيهان) أي نصف العالم, هناك قصر بناه شاه قديم من خشب الورد, كان مليئا بالغرف والقاعات, وأهم ما فيه أنه جعل هناك فراغاً أجوف بين كل جدار وآخر, بحيث أصبح القصر كله أشبه بصندوق رنان, وكان الشاه يجلس مع زوجاته ومحظياته في إحدى الغرف بينما تجلس الفرقة الموسيقية للعزف في غرفة أخرى, وتنساب الموسيقى من خلال الجدران الجوفاء إلى كل مكان في القصر, وحتى بعد أن تتوقف الفرقة الموسيقية عن العزف يظل خشب الورد يشع بالموسيقى, إن تجاويف الجدران التي امتلأت بالموسيقى تجعلها تسري بنعومة ثم تخفت تدريجيا ولا تنتهي إلا بعد ساعات طويلة .

أفرح لأنني قد جذبته بعيدا عن بوابة الغياب, يفتح عينيه ويحدق في طويلا كأنه يحاول أن يحفظ آخر ما بقي من ملامحي ثم يقول :

ـ إنها روح الموسيقى, الأرواح هي التي تبقى ولا تتبدد, ألم أقل لك, دون الأرواح كان يمكن للعالم أن يكون على شاكلة قصـرك, غرف خالية وجدران جوفاء.

أتوسل إليه : بالله عليك يا أبي لا تكثر من الحديث عن الأرواح, فهذا يشعرني بالوحدة والخوف .

يقول وقد بدا الإرهاق في صوته :

ـ أنت الذي اخترت أن تكون وحيدا متفردا يا محمد.

ثم يبدأ المطر في الهطول, يشتد صوت الريح تعلن عن مقدمه, ثم تدق قطراته فوق السقف والأبواب الخشبية كأنها عشرات الأرواح المرتجفة تطلب الدخول, يغمض عينيه مرة أخرى وترتخي ملامحه ويبدو عليه الراحة, كان قد صارع الدنيا كثيرا وتلقى سهامها ببدن لا يعرف الكلل ونفس لم تذق المتعة, أصيح باسمه في رهبة وخشية فلا يرد علي,ّ, تزداد دقات المطر, وتدوي دقات أخرى على الباب, لابد أنها أمي وقد عادت, أو أختي وقد أحست بوجودي, عادتا في الوقت المناسب بعد أن استنفدت كل طاقتي في محاولة إبقائه متيقظا .

افتح الباب فلا أجد أيا منهما, يقف أمامي ثلاثة من الرجال, وجوههم غير حليقة, وعلى رءوسهم عمائم متسخة تتساقط منها قطرات الماء المتسخ, ويفوح منهم رائحة من العطن الخفي, أحدق في وجوههم ويحدقون في وجهي, كأن أحداً منا لم يكن يتوقع وجود الآخر في هذا المكان, يصيح أحدهم في وجهي : وحدوووه, فأتراجع مذعورا, أنظر عاجزا إلى أبي الراقد على الفراش خائفاً من أن يزعجه وجودهم, ولكنهم لا يبالون, يدخل أحدهم ويرفع المزلاج حتى يفتح الباب على مصراعيه, ويتقدم الثاني وهو يحمل طاولة خشبية بينما يحمل الثالث صندوق الموتى, يشعلون كل أضواء الصالة فيصبح المكان ساطعا ومثيرا للرعب, أتراجع حتى أجلس منهارا على أحد المقاعد, ويبدؤون هم في التحرك في كل مكان بلا شفقة ولامبالاة, يحضرون الماء والصابون والأواني والمناشف ومساحيق الأعشاب العطرية, يعملون بدقة كأنهم قد تدربوا على تأدية هذا المشهد في هذا المكان عشرات المرات, لا يرونني, لا يطلبون مني شيئا, ولا حتى التحرك من مكاني, يدخل أحدهم الغرفة ويحمل أبي من الفراش فينخلع قلبي, أكتشف أن جسده قد أعد نفسه لهذه اللحظة منذ زمن فنحف وشف وجفت منه مادة الحياة, أراه وهو يسجى فوق المنضدة الخشبية وهم ينزعون ثيابه فيبدو جسده شاحبا مائلا للزرقة, فمه مفتوح وفاغر كأنه مندهش مثلي من حضورهم المباغت, يعدل أحد الرجال من وضع يديه ويغلق فمه ويتأكد من إسدال جفنيه, ثم ترتفع أصواتهم فجأة بالأدعية وهم يرشون الماء على جسده :

(وتطهر يا عبدالله فإن الجنة لا يدخلها غير المطهرين, وقل لهم يا عبدالله إنك شربت شرابا طهورا وأكلت طعـاما طهورا وعشت عيشا طهورا وكان الإسلام دينك ومحمد نبيك والله الحي الواحد القيوم ربك الذي لا إله إلا هو ..).

تنساب قطرات الماء من على جسده الشاحب فتأخذ شيئا من شحوبه, وصوت المطر مازال متواصلا, ووجه أبي متجه إلى أعلى بحيث لا يراني, تخلى عني أخيرا, لم يعد يبالي بإكمال حديثنا الذي مازال ناقصا, مستسلم لتدفق الماء والصابون والأدعية المتواصلة كتواصل المطر :

(وأخبرهم يا عبدالله أنك قد أقمت الليل عابدا وقضيت النهار ساعيا وعشت العمر قانتا واستقبلت الموت راضيا, وسوف يكون مثواك الجنة مع العابدين والصديقين).

يخرجون الأثواب البيضاء ويبدأون في لفه بها, تفوح رائحة الشيح والزعفران التي ينثرونها بين طيات القماش, تتوقف الأدعية وتتحول كلماتهم إلى تعليمات موجزة, (أطو هذه), (خذ بالك من أطراف الأصابع), (ارخ قليلا), يبدأ في الاختفاء التدريجي عن ناظري وعن عالمي, عن كل الأشياء التي ربطتنا معا, يتحول إلى لفة بيضاء ضئيلة الحجم وغير واضحة المعالم, ينتمي إلى عالم لست فيه, يحملونه ويضعونه في الصندوق ثم يغطون كل شيء برداء أخضر, أنهض واقفا, لو أن المطر يتوقف قليلا لتكون رحلته سهلة, يحملونه على أكتافهم, لا يدعونني للمشاركة في حمله, ولكن أحدهم يلتفت إليّ, يحدق في وجهـي كأـنه يراني للمرة الأولى ثم يهتف بي:

ـ تشهد يا ولد.

أحدق في المرآة فأجد جسمي قد تضاءل وملامحي قد صغرت, ذهبت التجاعيد والبثور والشعيرات البيضاء فأهتف في حرقة من لا يقدر على استعادة ما ضاع :

ـ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله و إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

محمد المنسي قنديل