جمال العربية

جمال العربية

عن الشعر والشاعر

عبدالرحمن شكري أحد الثلاثة الكبار الذين كان لهم فضل إبداع حركة شعرية تجديدية، في الشعر المصري والعربي الحديث ، هؤلاء الثلاثة هم العقاد والمازني وشكري ، وقد استأثر كل من العقاد والمازني بشهرة ذائعة صاحبت كتاباتهما الشعرية والنثرية، بينما ظل عبدالرحمن شكري في دائرة الظل، لا يتجه إليه ضوء ولا يعني بتراثه الشعري أحد.

ولد عبدالرحمن شكري في مدينة بورسعيد في الثاني عشر من أكتوبر عام ألف وثمانمائة وستة وثمانين، وكانت وفاته في القاهرة في الخامس عشر من ديسمبر عام ألف وتسعمائه وثمانية وخمسين. وبين المكانين والزمانين رحلة إبداعية حافلة أنجز خلالها شكري مشروعة الشعري الكبير الذي تمثل في ثمانية دواوين نشر أولها عام ألف وتسعمائة وتسعة، وعشرة كتب نثرية تتضمن دراسات ومقالات وكتابات قصصية .

يقول شكري في تقديمه لديوانه " زهر الربيع " وهو يتحدث عن الشعر والشاعر : " إن وظيفة الشاعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره، والشعر يرجع إلى طبيعة التأليف بين الحقائق ، ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الشاعر بعيد النظرة ، غير آخذ برواء المظاهر، مأخذه نور الحق، فيميز بين معاني الحياة التي تعرفها العامة وأهل الغفلة ، ومعاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد، وكل شاعر عبقري خليق بأن يدعى متنبئا ، أليس هو الذي يرمي مجاهل الأبد بعين الصقر، فيكتشف عنها غطاء الظلام، ويُرينا من الأسرار الجليلة ما يهابه الناس، فتغري به أهل القسوة والجهل؟

كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله ، والشاعر أبلغ قصائده".

ثم يقول شكري : "الشاعر هو الذي لا يعيش مثل أكثر الناس مقبورا في الأحوال التي تحوطه، هو الذي إذا عاش كان له من شاعريته وقاء من عداء قتلى المظاهر ، فإذا مات كانت الشهرة زهرة على قبره فإذا لم تسعده الشهرة هبطت روح الطبيعة على قبره ، تظلله بجناحها، وتفرخ فوقه أبناءها الشعراء. تلك الأرواح التي تستمد الوحي من عظامه ، وتسقيه من دموع الرحمة والحب والحنان.

فالشعر هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم ، فأصوله ثلاثة متزاوجة ، فمن كان ضئيل الخيال أتى شعره ضئيل الشأن ، ومن كان ضعيف العواطف أتي شعره ميتا لا حياة له، فإن حياة الشاعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف ، وقوته مستخرجة من قوتها وجلاله من جلالها، ومن كان سقيم الذوق أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة".

طائر الفردوس

وقد ذاع من شعر شكري بيت من الشعراء، أصبح شعاراً لجماعة "الديوان" ونزعتها الجديدية ، وهي الجماعة التي أخذت اسمها من كتاب "الديوان" للعقاد والمازني.

وبالرغم من أن شكري لم يشارك في تأليفه فإنه أصبح القطب الثالث في مدار هذه الجماعة لا تفاقه مع صاحبيه ثقافة وفكراً ونظرة إلى الإبداع الشعري وإيمانا بضرورة التجديد وحتميته ، هذا البيت هو :

ألا يا طائر الفردوس

 

إن الشعر وجدان

وهو من قصيدة لشكري عنوانها "عصفور الجنة" إحدى قصائد ديوانه "أناشيد الصبا" وفيها يقول:

ألا يا طائر الفردوس

قلبي لك بستانُ

ففيه الزهر والماء

وفيه الغصن فينانُ

فغرد فيه ما شئت

فإن الحب مرنانُ

وفيه منك أنغام وفيه

منك ألحانُ

وللأشجار أوتار

ونايات وعيدانُ

ألا ياطائر الفردوس

إن الشع وجدانُ

وفي شدوك شعر النفس

لا زور وبهتانُ

فلا تعتد بالناس

فما في الخلق إنسانُ

وجد لي منك بالشعر

فإنا فيه إخوانُ

ألا يا طائر الفردوس

قلبي منك ولهانُ

فهل تأنف من روضي

وما في الروض ثعبانُ

وهل تفرق من جوّي

وما في الجو عقبانُ

وهل تنفر من قلبي

كأن القلب خوانُ

فما لي منك إسعادا

ولا لي منك لُقيانُ

ألا يا طائر الفردوس

إن الدهر ألوانُ

وللأقدار أحكام

وللمخلوق إذعانُ

إرى الأحداث إسرارا

ستُمس وهي إعلانُ

ويهفو بك ريبُ الدهر

إن الدهر طعانُ

فلا حس ولا شدو

ولا زهر وأغصان

سيبقى لك في قلبي

مودات وتحنانُ

فإن ملك أحباب

وإن عقك إخوانُ

وإن ربك من عيشك

لوعات وأحزان

وإن باعدك الحسن

وثوب الحسين خلقانُ

فجرب عندها قلبي

فقلبي منك ملآنُ

إذن تعرفُ أن القلب

من حبك نشوانُ

فعشش فيه في أمن

فقلبي بك جذلان

واسمعني من الشعر

فأنا فيه خلانُ

وهل تفهم ما أعني

وهل للطير أذهان؟

قل .. ولا تقل

كان أستاذنا في النحو المرحوم عباس حسن- عضو مجمع اللغة العربية- يحذرنا من أن نقع في المحظور ونقول للناس : قولوا ولا تقولوا، لأنه كان يرى أن كثيراً مما يخطئه العلماء وتأباه قواعد اللغة، يمكن أن يُلتمس له من الشواهد والبراهين ما يجعله صحيحا وفصيحا.

وبالرغم من هذا التحذير ، فمازال الباب المأثور : "قل ولا تقل" ذائعا ومعمولاً به بين الناس

تقول اللغة :

قل: أحتاج إلى كذا أو يعوزني كذا، ولا تقل : يلزمني كذا " فمعنى يلزمني يبقى ملازما لي" .

قل : جمادى الأولى وجمادى الآخرة،

ولا تقل : جماد الأول وجماد الثاني .

قل : حار ، ولا تقل : احتار .

قل : ضحى بنفسه، ولا تقل : ضحى نفسه.

قل : المتوَّفي " للميت، ولا تقل : المتوفَّي " لأن المتوفي هو الله".

قل : النضج ، ولا تقل : النضوج.

قل : وحده ، ولا تقل : لوحده.

قل : ينعَى، ولا تقل ينعي .

قل وفَيات، ولا تقل : الوحدة.

قل : وجه صبيح، ولاتقل : وجه صبوح "لان الصبوح عند العرب هو شراب الصباح".

قل: تعود الأمر ، ولا تقل : تعود على الأمر.

قل : إرْباً إرْباً، ولا تقل : إرَباً إربَاً .

قل : يجب ألا تفعل، ولا تقل : لا يجب أن تفعل.

قل : لن أحضر مادمت مريضا، ولا تقل: لن أحضر طالما أنا مريض "لأن طالما معناها طال وكثُر واستمر وقته".

ولمن شاء مزيدا من هذه النماذج أن يرجع إلى العديد من دراسات علمائنا وباحثينا اللغويين المعاصرين فضلا عن علماء تراثنا العربي وباحثيه.

نص قديم جديد:

لا أعتقد أن التعريف المأثور للكلام البليغ هو أنه الكلام الذي إذا استمع إليه الجاهل ظن أنه يحسن مثله، ينطبق على آثار أحد من البلغاء قد انطباقه على ابن المقفع، ولقد اشتهر عبدالله بن المقفع بترجمته البديعة لكتاب " كليلة ودمنة" عن الأدب الفارسي ولم يعُن كثيرون بتأمل أسلوبه السهل الممتنع وثقافته الغنية الواسعة وبلاغته العذبة الآسرة- مما يجعل منه كاتبا قديما وجديدا وتراثيا عصريا يخاطب قارئه الآن بفكره المتجدد ونظراته النافذة وحكمته العميقة- في كتاباته الأدبية الأخرى: الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة ويتيمة السلطان.

يقول ابن المقفع في سطور من " يتيمة السلطان" : " إن الأعمال لايُستعان عليها إلا بالصبر ، ولا يتم الصبر إلا بالعقل ، وإنما يتم العقل مع التجربة، ويحفظه ويجمعه الاجتهاد والتقدم.

وعقل الرجل يستبين في ثماني خصال : الأولى الرفق واللطف، والثانية حفظ الرجل لنفسه ومعرفته بها، والثالثة طاعة الملوك والتحري لمرضاتهم ، والرابعة معرفة الرجل موضع سره وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه ، والخامسة أن يكون أديباً حمولاً والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً، والسابعة أن يكون على لسانه قادرا محتاطا مقسطا ، والثامنة أن يكون إذا كان في محفل لا يجيب عما لا يسأل عنه، ولا يقول مالا يستيقن ، ولا يظهر مايندم عليه".

ثم يقول أبن المقفع : " إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لا يدركها إلا بأربعة أشياء، أما الثلاثة التي يطلب: فالسعة في المعيشة، والمنزلة في الناس والزاد في الآخرة ، وأما الأربعة التي يحتاج إليها لدرك الثلاثة : فاكتساب المال من أحسن وجه، ثم القيام بحسن التدبير على ما اكتسبه منه، ثم التثمير، ثم الإنفاق له فيما يصلح المعيشة ورضى الأهل والإخوان ويعود في الآخرة نفعه. فمن أضاع شيئا من هذه الخلال الأربع لم يدرك ما أراد، فإن هو لم يكتسب لم يكن له مايعيش به، وإن كان ذا مال واكتساب ثم لم يحسن القيام عليه أوشك أن يفنى أو يبقى بغير مال ، وإن هو أنفقه ولم يُثمره لم تمنعه قلة إنفاقه من سرعة ذهابة، كالكحل الذي لم يؤخذ منه إلا مثل الغبار وهو مع ذلك سريع النفاد، وإن هو اكتسب وأصلح وثمر ثم أمسك عن الإنفاق في أبوابه ومواضعه كان ممن يعد فقيراً ليس له مال، ثم لا يمنع ذلك ماله أن يفارقه ويذهب حيث لا يدرك، كحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصب فيه، فإذا لم يكن له مخرج ومفيض يخرج منه بالقدر الذي ينبغي ، تحلّب وسال من نواح كثيرة، وربما انبثق الشق العظيم فذهب الماء ضياعاً ".

ويقول ابن المقفع :"إنما يؤتي السلطان من قبل ست خلال : الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق. فأما الحرمان أن يُحرم الإخوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، فيفقد بعض من هو كذلك، وأما الفتنة فوقوع الحرب، وأما الهوى فالغرام بالنساء والحديث والشراب والصيد وما أشبه ذلك، وأما الفظاظة فإفراط الشدة حتى يجمع اللسان بالشتم واليد بالبطش يف غير موضعه، وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموتان ونقص الثمرات والغرق، وما أشبه ذلك ، وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة.

والرجال ثلاثة : حازمان وعاجز، فأحد الحازمين من إذا نزل به البلاء لم يدهش ولم يذهب قلبه ولا عقله ولم يعي برأيه وحيلته ومكيدته التي يرجو بها المخرج، وأحزم منه من عرف الأمر قبل وقوعه فيحتال له لئلا يبتلي به ، ويحسم الداء قبل حدوثه، والعاجز لا يزال مترددا حائرا لا يهتم بالأمر قبل نزوله ، ولا إذا نزل به، إلى أن يهلك".

وأخيرا يقول ابن المقفع:
" في الناس من هو يحسن القول ولا يحسن العمل ولا خير فيه، فإنه يقال : لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء ، ولا في العفة إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في السعة إلا مع السرور".

إن اللغة التي كتب بها ابن المقفع لغة عصرية بالقياس إلى زماننا نحن، ومعنى هذا أنه استطاع بعبقريته الفذة في التعبير وقدرته على الكتابة السهلة المظهر، العميقة الجوهر، أن يُغري كثيرين بمحاكاته ومحاولة تقليده ، ولكن هيهات ونحن نعود إلى كتاباته اليوم في كل ماتركه من آثار قلمية بديعة وبليغة لنقدم للقارئ نموذجاً لسحر البساطة وروعة الجدة التي تخاطب كل عصر وأوان.

 

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات