البحث عن اليقين المراوغ

البحث عن اليقين المراوغ

قراءة في قصص يوسف إدريس لفاروق عبدالقادر
هذا النوع من النقد ضروري لحياتنا الأدبية وسوف يشكل معالم النقد العربي مستقبلا.

لا أتذكر على وجه التحديد- متى لفتت نظري كتابات فاروق عبد القادر، ولكنني أتذكر كيف أصبحت من قرائه الدائمين حين كان يكتب في مجلة "الطليعة"، قبل احتجابها الدرامي أواخر السبعينيات، ومما تعلمته من هذه القراءة كيفية الصبرعلى نهج لايتقق ونهجك الخاص، لأنك واجد فيه كثيراً مما تطمح نفسك إلى تعلمه، مما لاخلاف عليه بين العربية أحد من الناس: الأسلحة المشرعة الناضجة في فن الكتابة، والقلب المملوء حماسة وشغفا بالمعرفة، وبذل النفس بسخاء في سبيل الوصول بالتعبير إلى أقصى مايمكن أن يتوقعه القارئ المتطلع من كاتبه المكترث.

فلما جاءنى كتابه عن يوسف إدريس: "البحث عن اليقين المراوغ" زادني به علما في الناحيتين: وفائه التام لاتجاهه الذي يخالف اتجاهي في تحليل النص الأدبي، وبلوغه الغاية في استكمال عدتة الكتابية، ولا أكتم القارئ مافي نفسي، فأقول له- في بداية القول- إن كتاب فاروق عبدالقادر يسهم في تحسين ظني بنوع من الكتابة، كنت أراه في صدر حياتي- ونظرا لأن دربتي أكاديمية خالصة- غير جدير بحسن الظن. ويمكن أن أطلق على هذا النوع من الكتابة: "النقد الصحفي"، دون أن أحمل هذه التسمية أي قدر من الإقلال من شأنه. لقد أكد لي هذا الكتاب أن هذا النوع من النقد ضروري لحياتنا الثقافية، وينبغي أن يشكل مع نوع آخر مناسب من "النقد الأكاديمي" صورة النقد العربي- بعمومه- في المستقبل. ولست أقول إن كل نقد أكاديمي مفيد، ولكنني أردت أن أقول إن مافي هذا الكتاب هو "النقد الصحفي، الجدير بتلك التسمية، لاتلك " الأعمدة" و"الصفحات" التي تظهر في الصحف، والتي تنشغل بتصفية الحسابات، أو تذكي نار النميمة، أو تعمد إلى الترغيب والترهيب، أو تتوخى تبادل المنافع ، حاملة في كل ذلك علم "النقد الصحفي"!

يقتصر الكتاب على جانب واحد من جوانب الإبداع الأدبي عند يوسف إدريس، وهو جانب القصة القصيرة تاركا بذلك جانبين مهمين هما جانبا الرواية والمسرحية في بداية الكتاب مراوحة في الكلام على يوسف إدريس الشخصي، ويوسف إدريس الكاتب، غيبوبته الطويلة حتى مات، وموهبته الإبداعية الكييرة، ثم تركيز على عمله الإبداعي وبخاصة في مجال القصة القصيرة. هنا يظفر القارئ بمجموعة من المقاييس النقدية التي يفترض أن المؤلف سيوظفها في تحليل المادة القصصية سيتناولها. من هذه المقاييس قوله إن يوسف إدريس أدبه "لايرفع صوته بالصخب أو الدعاوى الفجة الشعارات الخاوية "، وقوله: "من هـنا تبقى أعمال الإبداعية وحدها هي الدالة عليه، المعبرة تماما عن رؤاه ومواقفه".

وقوله: "ويبقى استنطاق أعماله الإبداعية وحدها هو العمل الوحيد المجدي، فهذه الأعمال ذاتها هي كل ما بقي لنا منه"، وقوله: نحن لانحكم على النوايا، بل على الأفعال".

مفهوم لفن القصة القصيرة

غير أننا ما نكاد نتقدم في الدراسة حتى نرى مقاييس أخرى مخالفة تتسرب إلى محيط العمل ، فتزاحم المقاييس السابقة، وفي أحيان ثانية تزحمها، وفي أحيان ثالثة تحل محلها كلية. وأمثل للحالات الأولى بحديث المؤلف عن تطلع يوسف إدريس إلى التعاون مع السلطة، وللحالات الثانية بترك النص فى منتصف الطريق من تحليل فني رائق-، والتحول إلى أقوال من مثل: "فقط لايجب أن ننسى أن منتصف السيتينات لم تكن قد شهدت بعد تحطم الحلم بالاشتراكية وتناثره"، وللحالات الثالثة بالكلام المطول- التي يبدو مقصودا لذاته- عن أعوان النظام من ضباط المخابرات الذين يسميهم المؤلف بالاسم، أو عودة محمود العالم من لقاء غير ناجح مع أنور السادات ، ماشيا على رجليه، من الهرم إلي وسط المدينة- في هذه الحالات الأخيرة يصبح التوفيق صعبا بين ما نراه هنأ، وماسبق أن قرأناه من أن استنطاق الأعمال الابداعية وحدها هو العمل الوحيد المجدى!

وفي غضون ذلك يقدم المؤلف مفهومه لفن القصيرة، وهو مفهوم يشتمل على قدر كبير من الصواب "حسبما تخبرنا معارفنا وقراءاتنا، ولكنة يشتمل كذلك قدر كبير من التعميم، ثم إنه كما هو مفهوم ومتوقع - لايمكن أن يكون "جامعاً مانعاً". يقول: " هو فن اقتناص اللحظة، الخاطرة، الصورة، فن طيع لأقصى حدود الطواعية، منوع لاحد لتتوعه ولاضفاف". وأود أن أتناول هذا التعريف بتقديم عدة أسئلة: هل هذه الكلمات- أو المصطلحات الثلاثة- اللحظة- الخاطرة- الصورة"- مترادفة أو متباينة المعاني؟ وهل تعبر القصة القصرة عنها مجتمعه أو بالتبادل؟ ثم ما الذي تعنيه العبارة الأخيرة من التعريف على وجه الدقة؟ إنني أفهم معنى أن فن القصة القصيرة فن طيع، وأنه متنوع، ولكنني لا أفهم معنى كون هذا لا حد له ولا ضفاف، وذلك أننا سلمنا بما يعطيه ظاهر الكلام نكون على خطر من التضحية بهوية هذا الفن ذاتها، وسيصبح التساؤل عن مدى كونه نوعا أدبيا- أصلا- تساؤلا مشروعا.

لكن المؤلف سرعان ما يعوضنا عن القلق الناشئ من هذا التعبير الفضفاض عن مفهوم القصة القصيرة بحديث سلس غاية السلاسة عن نوع الجماعات التي تحتفي بها قصص يوسف إدريس، وهي جماعات تقف على قدم المساواة مع تلك الجماعات المغمورة التي تحدث عنها فرانك أوكونور في كتابه "الصوت المنفرد"، والتي تعج بها أعمال تشيكوف، وجويس، وكاترين مانسفيلد، ولورنس، وهمنجواي، وميزي ليفين. يقول فاروق عبدالقادر: حفلت قصص يوسف إدريس بحشد هائل من الأبطال الذين دخلوا إلى التعبير الأدبي في القصة المصرية للمرة الأولى، حشد هائل من الفلاحين الفقراء والعاملين العاطلين والعاملين الهامشيين وعمال التراحيل والموظفين الصغار وشيوخ القرى وأبناء الليل ومالكي الفدان أو أقل، والذين لايملكون إلا عافيتهم وفئوسهم، مرضى الأجساد والعقول في البيوت الطينية أو على أسرة المستشفيات، أطفال وصبية ومراهقين في المدارس والحقول وأماكن العمل وشوارع المدينة، نساء في البيوت ونساء بلا بيوت، مساجين وعسكر داخل الأسوار العالية التي تعزل الجميع عن الحياة فيجعلون لأنفسهـم حياة أخرى بديلة، وفي أعماله الأخيرة أضيف لهؤلاء جميعا أبطال آخرون أساتذة في الجامعات وأطباء كبار ومسئولون بين أيديهم الحل والعقد". تللك هي الجماعات المغمورة التي تكافح من أجل بقاء الحياة، ومن أجل مكان متواضع جدا تحت الشمس. ولي الفقر وحده هو الذي يجعل منها جماعات مغمورة، وإن كان أبرز سماتها في نظر أوكونور، وبكلام فاروق عبدالقادر أيضا، ولكن المهم أيضا أنها تطور لنفسها "حياة بديلة" فتحيا على هامش المجتمع مع أنها من صميمه، وقد تتسع رقعتها باستمرار تبعا لدرجة غوص المجتمع في المستنقع، ولذا لانستغرب أن الأطباء وأساتذة الجامعات يكونون جماعاتهم المغمورة عند يوسف إدريس، كما كان الحال مع الأطباء والمدرسين عند تشيكوف. أما المسئولون الذين بأيديهم الحل والعقد فلا أعلم لهم مكانا بين هذه الجماعات، وهذه هي المرة الأولى التي أراهم يعدون مع هؤلاء، اللهم إلا إذا كان الأمر أمر مواجهة بين الضحية والجلاد، أو أمر مفارقة فلسفية، لم يشرحها فاروق عبدالقادر على كل حال. يزاوج المنهج الذي يتبناه المؤلف في الكتاب بين أهمية المضمون وأهمية الأسلوب. وأبادر إلى القول بأن هذا ليس منهجي في تناول النص الأدبي، فأنا من ال مؤمنين بأن الأسلوب هو الذي يخلق المضمون، ومن ثم يخلع عليه أهمية، أو يبقيه حيث هو محايدا، ومع ذلك فلا أجد في نفسي سوى الإعجاب بالجهد الخارق الذي يبذله المؤلف في سبيل التعبير عما يجد في نفسه، وما يؤمن به، ثم الحماسة الشديدة المعتقدة، والمحاولة المستميتة لإقناع قارئيه به. غير أن هذا الذي أعجب به هو نفسه الذي يدفع المؤلف أحيانا كثيرة إلى التعميم فى الحكم، وإبداء الإعجاب دون تحفظ، وهما أمران لا أدري كيف يسهمان في تحقيق غرضه.

علاقة الفن والواقع

إن منهج فاروق عبدالقادر يهتم بالمضمون وحده، ومن الزاوية التي يراها هو جديرة بالنظر. و يجعلني هذا أعود من جديد إلي ما أومن به في هذه الناحية فأقول مرة أخري إن التناول هو الذى يخلق أهمية- أوعدم أهمية- المضمون، ولايوجد مضمون مهم بذاته قبل الدخول إلى حوزة الفن، وتبقى القضايا سواء في الخارج، منتظرة من يخلع عليها أهميتهآ على طريق حميّا المعالجة الفنية. ولا أرى حرجا- على الإطلاق في أن. أعيد هنا أمام القارئ مقولة الجاحظ الشهيرة، وهي أن المعاني مطروحة في الطريق. إن قصته مثل قصة "نظرة" وقد وضعها المؤلف في "المنظومات الصغرى" تفوق عندي في قيمتها كثيرا مما صنف في خانة "المنظومات الكبرى"، فهي تحفل بكمية هائلة من الشقاء البشري، المتمثل في إلقاء المجتمع القاسي تلك المسئولية البشعة، من حجم العمل ومسئولياته، على أكتاف ورأس وسيقان طفلة هزيلة، مكانها الطبيعي في حلقات اللعب البريء، أو فصول الدراسة، لا الشارع العاري، الذي تروح فيه وتغدو، حاملة صاجات الكعك المتراكبة، ومشاركة بالنظر فحسب والتلكؤ عند ساحات اللعب المصطخبة بالأطفال، إنني أتتبعها في مشيتها الواهنة المضطربة، تحت حملها المتوازن الثقيل، بسيقان عارية تشبه الخيوط، وأمنحها كل عطفي، وأراها بطلة عملاقة بمعنى الكلمة، وأعجب لفاروق عبدالقادر كيف خصها فحسب ببعض جمل من الإعجاب، ولم يفسح لها مكانا في "منظوماته الكبرى"، في حين اتسعت هذه "المنظومات " للرجال الجوف، من المتصارعين على السلطة، والمنظرين للفساد؟

لفت نظر المؤلف غياب قضية فلسطين من اهتمامات يوسف إدريس، ومن قبل ذلك لفتت النقطة ذاتها نظر بعض من كتبوا عن نجيب محفوظ، وأتذكر أن نجيب محفوظ انتقد بسبب ذلك، ولكن كلام فاروق عبدالقادر هنا لايحمل القدر ذاته من النبرة اللوّامة، وإن كانت الملاحظة ذاتها تحمل من الإيحاءات مايستحق التعليق. وهذه القضية متصلة بسؤال كبير هو: من صاحب القرار في تحديد الموضوعات التي يختارها الكاتب، ويجعلها مجالا لإبداعه؟ أليس هو الكاتب نفسه في نهاية المطاف؟ وإذا لم نكن على استعداد لمنحه هذا القدر من الحرية فكيف يمكن أن نفتح نفوسنا لتلقي عطائه والتعلم منه؟ وأليس في ذلك نوع من الوصاية يرفضها جوهر الفن ذاته؟ على أننى أرى أن هذه النقطة متصلة أعظم اتصال بما أثرته من قبل من ترتيب الموضوعات الجديرة بالتناول في منهج فاروق عبدالقادر، وما ترتب على ذلك من "منظومات كبرى " وأخرى " صغرى ". وأميل- في جميع الأحوال- إلى تخصيص الجهد كله في فحص ما اختار المبدع تقديمه لي، ولا أشغل نفسي بما لم يفعل، بل بما فعل، ولكنني أعلم- في مجال التماس العذر- أن قدراً كبيرا جداً من الجهود النقدية يبذل في نواح من مثل: لماذا لم ينح هذا المنحى بدل هذا المنحى؟ ولو فعل الكاتب كذا لكان أفضل.. إلخ. أليس الموضوع هو "النقد" على كل حال!

ومع كل ما قدمته من اعتراض على فاروق عبدالقادر هنا، فإنني أفعل مع كتابه الشيء ذاته، وأسجل غياب نقطة أرى غيابها نقصا واضحا في العمل، وهي نقطة غياب تناول لغة القصة القصيرة عند يوسف إدريس.

وأزعم لنفسي أن هناك فرقا بين ما أعترض عليه هناك وما أفعله هنا، وأرجو أن يكون الفرق واضحا لقارئي، فرؤيته هي الفيصل في جميع الأحوال. في كتاب فاروق عبدالقادر إشارة إلى إحدى القصص المكتوبة كلها باللغة العامية، فكيف يمكن تجاهل هذا الاختيار وعدم الاهتمام بفحصه وتقديره؟ وأنا على يقين من أن فاروق عبد القادر يرى مثلي أن لغة العمل الأدبي جزء لايتجزأ من هذا العمل "وقد يخالفني في درجة أهمية هذا الجزء، ولكنه لايمكن أن يذهب إلى عدم أهميته " ويظل كتاب فاروق عبدالقادر: "البحث عن اليقين المراوغ " واحدا من الكتب القليلة، التي تجد طريقها- دون إذن- إلى نفس القارئ، بكل ما فيها من حميمية وتألق، وبكل ما فيها من رصيد ثقافي وأسلوبي. وهو واحد من الكتب القليلة التي لاتستطيع أن تفارقه لمجرد أنه لايستخدم المنهج الذي تراه جديراً بالاتباع، بل إنه- لهذا السبب نفسه- نموذج يعلمنا كيف نستفيد من مخالفينا في الاتجاه.

 

محمود الربيعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات