تلك الحلقة الجوهرية. في استمرار الحياة، تشكل لدى التأمل أعجوبة من أَعَاجِيب الحياة.

يحتوي جهاز المناعة لدى الإنسان على أنواع عديدة من الخلايا شأنه في ذلك شأن الأعضاء الأخرى مثل الكبد والكليتين والمخ.

وكذلك الحال بالنسبة لوظيفته: " الوقاية من الأمراض، فهي لا تعتمد على تدخل عائلة واحدة من الخلايا، بل على تعاونها جميعاً.

وعلى الرغم من اختلاف أعضاء الإنسان فإن جهاز المناعة ليس جهازاً قائما بذاته، فخلاياه تنتشرفي جميع أنحاء الجسم، والكثير منها يتحرك بشكل مستمر. وكونها متجولة فإنها تقوم بمهمتها بداخل العضو عن طريق رصد وملاحقة العدو المتمثل هنا بالبكتيريا والسموم والطفيليات أو الخلايا السرطانية. إن خلايا جهاز المناعة تطرد كل ما من شأنه أن يمثل تهديدا للصحة وتسيطر عليها وغالباً ما يكون ذلك عن طريق التخلص منها.

وفي هذا السياق يعتبر الحمل لغزاً محيراً فيما يتعلق بالمناعة، فخلال تسعة شهور ترتبط أنسجة كائنين مختلفين وراثياً مع بعضها البعض برباط وثيق ، كما هي الحال بالنسبة لمرسل ومستقبل الطعم، إلا أنه في حالة الحمل لا ترفض الأم جنينها، على الرغم من أن الجنين يمثل بالنسبة لها جسما غريبا إذا ما علمنا أن نصف الجينات المكون منها مصدرها الأب.

والباحث الإنجليزي السير " بيتر ميدوار"- الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1960- هو أول من صاغ هذا التناقض "عام 1953" ومنذ ذلك الحين لم يتوقف المتخصصون فى علم المناعة عن السعي لمعرفة أسباب انفلات الحمل من يقظة جهاز المناعة.

في الواقع إن جهاز المناعة يميز بين الخلايا "الصديقة" والخلايا "العدوة" بفضل جهاز يتحد مع لوحة إشارات ويرسل مجموعة متنوعة من الإشارات ، وتعمل الأخيرة على تدخل مجموعة من مضادات التوافق النسيجي التي تحتوي على مضادات أساسية تنتمي للجهاز H.L.A الامر الذي ينتج عنه انتشار ما يشيه الأعلام الصغيرة على سطح جميع خلايا الجسم. هذه "الأعلام" الوراثية لبعض العوامل الوراثية تسمح بتمييز مجموعتين من الخلايا في الأعضاء: الخلايا التي تنتمي للذات، والخلايا المنتمية لغير الذات. إذن كيف يمكن للجنين الذي يختلف وراثيا عن أمه أن يفلت من هذه الرقابة شديدة الفاعلية؟

تحويل رد الفعل

في الحقيقة إن المشيمة التي تربط الجنين بجدار الرحم ، وتساعده على الاستمرار في الحياة لا تحتوي إلا على طبقة واحدة من الخلايا الجنينية متصلة مباشرة بدماء الأم إنها الطبقة الوحيدة المقبولة بشكل مباشرة لدى جهاز المناعة الموجود لدى الأم. في تلك الحالة يصبح سطح هذه الطبقة مجردا من الجزيئيات (HLA) القادرة على تحديد صفتها الوراثية، وهذا ما يفسرعدم وضوح الخلايا الجنينية النسبة لجهاز المناعة.

ولا تعتبر المشيمة حاجزاً محايدا مائة بالمائة بين الجنين وأمه، حيث إن الحد الخارجي للمشيمة يخفي طبقة أخرى من الخلايا الجنينية لاتتصل بدماء الأم بل برحمها، ويحتوي سطح تلك الطبقة على علامات محددة للذات "مولدات المضادات HLA وهي التي تكون ظاهرة. وهنا أيضا يتعلق الأمر بنظام المصلحة الذاتية فبدلاً من توجيه جهاز المناعة لدى الأم ضد الجنين تقوم مولدات المضادات الجنينية (HLA) بحصر وتحويل رد فعل جهاز المناعة لصالح الجنين وفقا للحالات التي لم تفهم بعد.

وبدلا من أن يتصرف الجنين كعابر خفي فإنه يظهر وجوده. ألا يمكن أن يعرض هذا حياة الجنين للخطر ؟ إن الجنين من خلال تجنبه مواجهة جهاز المناعة لدى الأم إنما يقوم في الحقيقة بتنبيه الأم وتغذيه .

إن العديد من العلماء يعتبرون أن هذه الاستعدادات تتطلب تدخل جهاز المناعة بشكل دقيق، حيث يستمر اكتشاف أنواع جديدة من خلايا جهاز المناعة التي تتدخل بشكل خاص في الرحم خلال فترة الحمل، والتي ربما تساهم في استمراره، كما أن بعض العلماء يشيرون إلى أن الةلادة تكون ناتجة عن مهاجمة جهاز المناعة للمشيمة.

مغامرة مشتركة

هذه الصداقة الغريبة بين الخلايا الجنينية والمضادات، والتي ينتج عنها صداقة بين الأم وجنينها خلال فترة الحمل لا تزال مبهمة إلى اليوم. وعلى الرغم من عشرات الأبحاث حول هذه الظاهرة فإنها تبقى ظاهرة غامضة، إلى حد بدأ معه الكثير من المنخصصين في دراسة هذه المناعة يستاءلون ما إذا أعطي الاهتمام المطلوب لمن يعترف بالخلايا كعوامل منتمية إلى غير الذات في جهاز المناعة أو إذا ما كانت الدراسة قد عانت- فيما يتعلق بالمناعة أثناء الحمل- من التقارب الذي أوجده " ميدوار" بين الجنين وأداة الطعم.

وهل يمكن اعتبار الجهود التي بذلت في هذا الصدد تبديدا للوقت تماما كما فعلت أخنا سندريللا في محاولة ارتداء حذاء لا يناسب حجم قدميهما؟ لو كانت هي تلك الحالة فقد آن الأوان لقلب الهدف واعتبار أن جهاز المناعة يتعاون مع الجنين للقيام بمغامرة مشتركة ويجري الإعداد لها بتمهل وعلى مر الشهور لكي تحقق في "نهاية " المطاف فائدة لكل من الأم والطفل على السواء.