طبيب أطفال .. يتذكر

طبيب أطفال .. يتذكر

ذاكرة الأطباء عندما تستدعي صورة العمل ترسل شعاعا يضيء مآزق شتى ومنها مآزق مرضى الأطفال

في هذه الأيام لم نعد نرى إلا نادرا أطفالاً مصابين بالحصبة، وذلك نتيجة شيوع التلقيح الواقي منها ، الذي ينصح بإعطائه للطفل مرتين على الأقل أو ثلاثا.

على أن الحصبة في الماضي القريب كانت من الأمراض الكثيرة الشيوع. ولأنها مرض خطير فقد كانت ترتبط في الأذهان بكثير من المفاهيم الخاطئو والأوهام المرفوضة.

من ذلك مثلا أنه لايجوز إعطاء الطفل المصاب أية سوائل ، وأنه يجب تدفئته وتغطيته بالأغطية السميكة الثقيلة، بغض النظر عن حرارة الجو المحيط بالطفل ، ومن ذلك مثلا إلباسه الثياب الصوفية الحمراء.

وأذكر بهذه المناسبة أنهم في إيران- كما ذكر لي زبائن إيرانيون- يطعمون الطفل المصاب بطيخا أحمر الأمر الذي يوفر للطفل السوائل اللازمة. ويحقق للأهل اللون الأحمر الذي يبدو أنه يجلب إليهم السرور.

ومن المفاهيم الخاطئة أيضاً أنه لا ينبغي إعطاء الطفل المصاب أيا من المسكنات وخافضات الحرارة. مع أنها دواء يجلب للطفل كثيرا من الراحة ويخفف عنه الأعراض الشديدة.

في الماضي كان يأتي على رأس خافضات الحرارة دواءان هما الإسبرين والنوفالجين، وكلاهما لم يعد يوصف للأطفال "سواء أكانوا مصابين بالحصبة أم لا ".

على أنه قبل ظهور الباراسيتامول والإيبوبروفين كان الإسبرين والنوفالجين هما الدوائين الشائعين لتخفيض الحرارة وتسكين الألم.

ونظرا لرسوخ الاعتقاد لدى كثير من الناس بأنه لا يجوز إعطاء الطفل خافضات الحرارة فقد كان الأطباء ينقسمون قسمين.

منهم من يشرح للأهل أن من اللازم والضروري إعطاء هذه الأدوية عند اللزوم. ومنهم من يساير الأهل فيقول لهم: إن إعطاء خافضات الحرارة لا يجوز.

ولذلك سأصف دواء يساعد على الاندفاعات آلجلدية، "وثمة اعتقاد أنه اذا لم تظهـر الاندفاعات الجلدية فسوف تبقى غائرة في الجسم وتسبب أذى كبيرا" ثم يصف الطبيب دواء خافضا للحرارة أحمر اللون كان اسمه "إريترا" وهي كلمة لاتينية معناها أحمر.

حتى صار لدى الناس اعتقاد أن "إريترا" هي الدواء الفعال والنوعي لمعالجة الحصية. مع أنه في واقع الحال دواء خافض للحرارة .

خلع ورك

يراجعني في عيادتي عدد من غير العرب لمداوة أطفالهم. منهم من يجيد اللغة العربية إجادة تامة أو قريبة عن التامة، فيكون التقاهم معه سهلا ميسورا، ومنهم من لا يعرف من اللغة العربية إلا القليل فيكون التفاهم معه إما باللغة الانجليزية أو بواسطه مترجم مرافق.

أما المشكلة الكبرى فتحصل عندما يظن الأجنبي غير العربي- واهما- أنه يتقن اللغة العربية أو الإنجليزية، فيحدثني بإحداهـما فلا أفهم منه إلا القليل، ولست أدري ما الذي يفهمه هو مني. وكنت أحسب ذلك أمرا يسيرا حتى حدثت معي القصة التالية:

جاءني مرة أب غيرعربي يعمل دبلوماسيا، في إحدى السفارات لتلقيح طفلته ، وأثناء فحصها شككت باحتمال وجود خلع ورك خلقي لديها، فنصحته بإجراء صورة شعاعية للحوض وجلب الصورة إليّ.

وكما يحصل كثيرا لم يراجعني ذلك الأب حتى حل موعد التلقيح الثاني بعد شهرين من الزيارة الأولى. وعندما قرأت في اضبارة الطفلة أنني طلبت إجراء تصوير شعاعي للحوض وسألته عن ذلك قال لي إنه أجرى التصويروكانت النتيجة طبيعية.

وعندما أعدت فحص الحوض بدا لي غير طبيعي. فأصررت على الأب أن يجلب إلي الصورة الشعاعية كي أراها وأتأكد بنفسي. وجلبها كما هو متوقع بعد شهرين آخرين، عندما حل موعد التلقيح الجديد. فإذا بالصورة تظهر بوضوح وجلاء وجود خلع ورك خلقي. وقد ورد ذكر ذلك في التقرير الشعاعي المرافق للصورة.

عندما ذكرت للأب أنه يوجد خلع ورك واضح لدى طفلته وأن ذلك مكتوب في التقرير، قال لي ، لقد قرأت التقرير فلم أر فيه ما يدل على وجود خلع.

لحسن الطالع كان التأخير في بدء العلاج غير كبير، وحولت الطفلة إلى مختص بأمراض العظام والمفاصل، فوضع لها جهـازاً خاصا فكان أن تحسنت ثم شفيت.

والمعروف أن خلع الورك الخلقي كلما شخص مبكرا كان علاجه أسهل وأفضل. ولذلك فإننا نقوم بفحص الحوض لدى كل طفل تحت السنة الأولى من العمر في كل زيارة.

لو كان ذلك الأب عرض علي الصورة والتقرير منذ البداية لكنت نصحته ببدء العلاج فورا ، لكنه جمع إلى الإهمال في تنفيذ التعليمات الطبية الجهل باللغة العربية، في الوقت الذي كان يحسب فيه نفسه خبيرا بهدة اللغة. ضليعا فيها، حتى إنه اكتفى بقراءة التقرير بنفسه دون عرضه على طبيب، أو على شخص آخر يجيد اللغة العربية . ربما لسبب بسيط وهو أنه يظن أنه لا يوجد من يتقن اللغة العربية أكثر منه .

الأكل على قدر المحبة

يعد نقص الشهية عند الأطفال الشكوى الأكثر شيةعأ في طب الأطفال ، إذ قل من الأهل من يرضى عن كمية الطعام التي يتناولها أطفاله. وأبرز أسباب ذلك وجود مفاهيم خاطنة لدى الوالدين والأهل عن تغذية الأطفال. كما أن كثيرا من الأهل يترجم المحبة والحنان إلى طعام. وثمة قول مأثور: الأكل على قدر المحبة. وهو قول مردرد إذ تذكر كتب الأدب العربي أن العشاق والمحبين كانوا شديدي النحول ذائبي الشحم ضامري اللحم مع أن حبهم كان كبيرا جدا.

من أولئك الأطفال الذين لم يرض أهلهم عن طعامهم ، ذلك الطفل الذى كان وحيد والديه وجديه وجدتيه، فعبر هؤلاء جميعا عن حبهم له وفرحتهم به بإطعامه باستمرار، على الرغم من معارضته ورفضه. وفي كل زيارة كانوا يقومون بها إلى عيادتي كنت أحذرهم من ازدياد وزنه ازديادا مجاوزا للحدود الطبيعية ، وأنصحهم بعدم إجباره على تناول الطعام قسرا.

فكانت جدته لأمه تقول لي: إنه لايأكل إلا القليل، وكانت جدته، لأبيه تقول إنه "بذرة بلدية"، ولذلك يزيد وزنه زيادة كبيرة ، بل إنها جلبت معها مرة قصاصة من صحيفة نشرت أن الطفل يتغذى على الحنان ، كما يتغذى على الطعام. ولذلك فإن زيادة وزن طفلهم ناجمة عن فرط الحب والحنان ، وليست عن الإفراط في الأكل والطعام.

ومرت، الأيام، وغدا ذلك الطفل يافعا شديد البدانة. وصار أهله يراجعونني كي أصف له حمية موافقه تؤدي إلى تخفيف وزنه. ويطلبون منى أن أنصحه بالإقلال من تناول الطعام، لأنه يصغي إلى نصيحتي. وحتى لاتخطر ببال القارئ الخواطر أذكر- أن ما كانوا يطلبونه هو أن أنصحه بانقاص عدد علب المشروبات الغازية التي بتناولها أثناء مشاهدة التلفاز من خمس علب إلى اثنتين كل ليلة. وإنقاص مقدار "الشوكولا والبسكويت" التي يتسلى بها يوميا بمقدار النصف. فضلا عن نصحه بالإقلال من تناول الخبز والاقتصاد على بضعة أرغفة يومياً، إلى آخر ذلك. وسواء استمع هذا اليافع إلى نصيحتي أم لا ، فإن ازدياد وزنه ظل مستمرا. مما دفع أهله إلى عرضه على أطباء في الخارج، حيث مكث شهورا في دورة علاجية مكثفة ، نقص وزنه خلالهاعشرة كيلوغرامات أو أكثر قليلا، لكنه عندما عاد استرد ذلك النقص خلال بضعة أسابيع وأخذ يزيد عليه.

كيف نستطيع أن ننقص وزن يافع حنان أهله كبير، وشعارهم الأكل على قدر المحبة؟

وطفل آخر كانت هواية أمه بل كان شغلهل الشاغل- أن تطعمه في كل وقت وآن حتى صار بدينا ، زائد الوزن جدا. وكنت كلما نصحتها بالإقلال من إطعامه بالقوة وعلى الرغم منه قالت لي : مسكين إنه لايأكل إلا القليل. وقد ذكرت لي حماة تلك الأم- وتجمعني بها قرابة وجوار- أن كنتها تطعم هذا الطفل وهو ابن سنة من الكوسا المحشي ثلاثة أو أربعة في الوجية الواحدة ، ورجتني أن طلب منها أن تترفق بطفلها، لأنها لا تستطيع وهي الحماة أن تقول ذلك لها لأن كلام الحماة ثقيل.

وبديهي أن تلك الأم لم تستجب لنصيحتي، واستمر طفلها في اكتساب مزيد من البدانة. فكنت أقول لأمه إذا سألك أحد عن اسم طبيب الأطفال الذي تعالجين طفلك لديه ، فأرجوك أرجوك ألا تزكري اسمي .

هل تصدقون- وأعذركم إذا لم تصدقوا- أن هذه الأم جاءتنى مرة تشكو من نقص الشهية لدى طفلها ؟

 

غسان حتاحت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات