أرقام

أرقام

الأطفال يتناقصون!
البداية: يونانية، لكن القضية ذات طابع عالمي.
ففي أواخر عام 1998، لاحظت هيئة الإحصاء في اليونان أن أعداد در المسنين تفوقت على أعداد مستشفيات الولادة والأطفال، حاولت أن تجد تفسيرا فقالت: نعم.. عدد المواليد وعدد الأطفال يقلان، بينما يزيد عدد المسنين، وبينما بلغ حجم الشريحة السكانية من عمر شهـر إلى 14 عاما "16.4% " من السكان عام 96، فإنه من المتوقع أن يتراجع هذا الحجم عام 2020 ليصل إلى 14.9%.

الأطفال ينقصون، لكن كبار السن يتزايدون في بلد يقل عدد سكانه عن 11 مليون نسمة، وتسجل الزيادة السكانية فيه وابتداء من الثمانينيات- زيادة طفيفة لاتزيد على نصف بالمائة؟

إحصاءات البنك الدولي تؤيد هذه الحقائق وتقول إن نسبة وفيات الأطفال حتى الخامسة تراجعت وأصبحت "9" بالألف، ومع ذلك فالميزان يميل ناحية "العواجيز"، أما متوسط العمر المتوقع لليوناني عند المولد فهو "75" عاما للذكور و"81" عاما للإناث.

إنها نظرية الهرم المقلوب إذن: الصغار يحتلون قمة الهرم بأهمية نسبية متناقصة، والكبار يحتلون القاعدة بأعداد متزايدة، والنتائج تحتاج إلى فحص وتدقيق، إنه مجتمع جديد ذو صفات مختلفة.

هرم مقلوب

حالة اليونان ليست حالة فريدة، فالخريطة السكانية في العالم تتغير.

في البدء، كانت هناك قاعدتان تحكمان الأوضاع السكانية؟ القاعدة الأولي: أن هناك زيادة سكانية مطردة فى العالم، وأن تحسن مستويات المعيشة والرعاية الصحية خلقا وضعا قفز معه عدد السكان، لم يعد الأطفال يموتون مبكرا كما كان شائغا، ولم تعد أعمار الكبار تتوقف عند الخمسين أو الستين، زحفت المجتمعات البشرية، وحقق البعض منها نسبة نمو سنوي تفوق "3%".

القاعدة الثانية، ومع تدفق في الانجاب فإن الزيادة السكانية كانت في شريحة الأطفال والشباب بدرجة أكبر والذين كانوا يمثلون قاعدة الهرم ومعظم بنية المجتمع.

ولكن مع تفاقم المشكلة السكانية، ومع الخوف من ندرة الموارد الاقتصادية طرحت الهيئات الدولية والسلطات المحلية فكرة تثبيت عدد السكان؟ بمعنى أن يتدخل العلم ويمارس الطب فنونه لكي "تلد النساء، ولايزيد العالم"، أى أن الإنجاب مسموح، ولكن بقدر لايزيد على، معدل الوفيات.

وانتشرت برامج واسعة في هذا النطاق، وانخفضت نسبة الخصوبة- في اليونان على سبيل المثال- من "2.2%" عام 1980 إلى "1.4%" عام 96.

وسجلت بعض البلدان تناقصا في عدد السكان وليس مجرد تثييت له، وكانت معظم هذه البلدان في أوربا الشرقية حيث كان النمو في السنوات الأخيرة- وطبقاً لتقرير البنك الدولي عام 98- بالسالب، كان ذلك واضحاً في الاتحاد الروسي، وأوكرانيا، وورمانيا، وبلغاريا، والمجر، ولتوانيا، ولاتفيا، ومن، جمهوريات آسيا الوسطى، كازاخستان.

ونتيجة لذلك كانت هناك هذه الظاهرة، ظاهرة تراجع شريحة الأطفال، وبما يعني أن شريحة الشباب قد أصبحت مهـددة، وأن تركيب المجتمعات سوف يميل نسبيا لشكل جديد تزداد فيه الأهمية النسبية لكبار السن.

و.. وفقا لإحصاءات البنك الدولي أيضا فقد فاق متوسط العمرالمتوقع للكثيرمن البلدان الثمانين عاما يحدث ذلك في اليابان وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وفنلندا وكندا وهونج كونج وأستراليا وذلك بالنسبة للنساء، أما بالنسبة للذكور فكثير من البلدان يزيد فيها متوسط العمر المتوقع للذكور على الخامسة والسبعين.

نحن إذن أمام هرم مقلوب فلماذا يحتل فيه القاعدة كما قلت- كبار السن فوق الـ "65" ويحتل أجزاءه العليا الأطفال وصغار السن!

السؤال: ماهي النتاثج المترتبة على هذا التطور المهم؟

الحذر القاتل

يثير البعض "مشكلة" كبار السن من زاوية تزايد الأعباء على ميزانيات التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية، في وقت يتراجع فيه دور الدولة وتنكمش قدرتها على الإنفاق في كثير من أنحاء العالم.

ويثير البعض قضية الأعباء المترتبة على المعاشات والتأمينات الاجتماعية مع تزايد أعداد الكبار (خارج سن العمل).

ويقولون- كما يحدث في اليونان- إن المشكلة في الحاجة الى أعداد أكبر من المسنين.

والقضية على هذا النحو خاطئة، صحيح أن العواجيز يخرجون- طبقاً للتعريفات الحالية- من قوة العمل التي اصطلح العالم على حصرها فيما بين "15- 64" عاما، وصحيح أن قوانين التأمين الاجتماعي والمعاشات جرى تصميمها على هذا النحو فجعل الستين أو الخامسة والستين سنا للتقاعد، بل إن دولاً تعاني من انكماش فرص العمل جعلت التقاعد مفتوحاً لمن يرغب في سن الخامسة والخمسين.

كل ذلك صحيح لكن الصحيح أيضا أن هناك عمراً إضافيا استطاعت المجتمعات أن تحققه لأفرادها وأنه بات لازما تحديد طريقة مثلى للتعامل معه.

لم يعد مقبولاً أن تكون هناك شريحة واسعة من السكان قادرة على العمل، وراغبة فيه، لكنها لا تجد فرصة عمل!

لم يعد مقبولاً أن ينضم أصحاء قادرون إلى طابور العاطلين، وأن يقضي البعض عشؤين عاماً أو أكثر من حياته معتزلاً الحياة العملية يمضغ الوحدة، أو تقتصر برامجه- إن كان قادرا- على الترفيه والسياحة، وهو ما يفضله البعض في السنين الأخيرة من حياتهـم.

العالم يزحف ولابد من التعامل مع ظاهرة "الكبار" ليس ببيوت المسنين وإنما بالنظر في تنظيم المجتمع وسوق العمل.

ولاتقل أهمية عن ذلك قضية تناقص المواليد إلى حد يهدد وجود أجيال شابة صاعدة تمثل عصب المجتمع، وعصب الانتاج.

أخشى أن يؤدي الحرص على حجم السكان إلى حذر قاتل فتنشأ مجتمعات تفتقد الحجم الأمثل للشباب، بينما تنوء بحمل أعباء كبار السن.

ليست القضية بيوتا للمسنين، ولكن القضية مكان في المجتمع.

وليست القضية نقصا في عدد مستشفيات الولادة والأطفال، لكن القضية: وماذا بعد؟.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات