شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

دماء على جدار القلعة
تخلص أمين بك برفق من عناق زوجته سلمى وهي تحاول أن تثنيه عن الخروج بدعوى أنها على وشك الوضع، وتردد قليلا حين رودها مضطربة بسبب حلم أزعجها، ولكنه عاد ليمتطي صهوة جواده المطهم للانطلاق إلى القلعة تلبية للدعوة التي تلقاها الأمراء المماليك للمشاركة في الاحتفال الذي دعا إليه محمد علي باشا وإلى مصر بمناسبة سفر ابنه طوسون على رأس قواته الذاهبة إلى الحجاز، وكان تبرير أمين بك لزوجته بضرورة تلبية الدعوة أن عمه الألفي بك كبير الأمراء المماليك قد اعتذر عن عدم الحضور لوجوده في الصعيد ولم يعد من اللائق أن يغيب هو أيضا.

دخل أمين بك من باب الغرب المفتوح للمدعوين وانطلق جواده في جهد وعناء على الطريق الوعر المعرج المنحوت في الصخر والصاعد إلى رحبة القلعة حيث قصر الجوهرة.

كان الوالي يتصدر قاعة الاحتفالات وإلى جواره طوسون وكبار رجال الدولة وأعيانها وقادة جند الأرناؤود، وعلى الجنبين الممتدين بطول البهو كان البكوات المماليك يجلسون على الكنبات الطويلة المتساندة على الجدران وهم في حلل التشريفة المملوكية، واتخذ أمين بك مكانه بين رفاقه البكوات الأربعة والسبعين يحيط بهم أربعمائة عن الكشاف والأبناء والأتباع.

تلقى الوالي ضيوفه بالبشر والترحاب وهو يشكرهم لتلبية دعوته وإسعاده بأن يسيروا مع ابنه طوسون في موكبه خلال شوارع المدينة وحتى معسكر الحملة في قبة الغرب، وإذ اعتذر البكوات عن تخلف بقية إخوانهـم الذين مازالوا في الصعيد أعرب الباشا عن تجاوزه عن ذلك وحسن مقاصده للمتخلفين، ثم ما لبث أن أذن مؤذن الرحيل فقرعت الطبول وصدحت الموسيقى إعلانا بالتأهب لتحرك المركب.

الممر حتى باب العزب

نهض أمين بك ورفاقه من الأمراء وقوفا وساروا إلى حيث يأخذون مكانهم في الموكب الفخم، وبدأت المسيرة منحدرة من قصر الجزيرة على النحو المرسوم وتقدمت طليعة الفرسان الدلاة يقودهم آمرهم أوزون علي، يتبعها والي الشرطة والأغا محافظ المدينة والمحتسب. وتليهم كوكبة من الجنود الأرناؤود، وجاء بعدهم المماليك يتقدمهم سليمان بك البواب ومن ورائهم كشافوهم وأبناؤهم، وجاء بعد ذلك بقية الجنود الأرناؤود فرسانا ومشاة. وندت نظرة إلى الخلف ممن أمين بك وهو في آخر طابور المماليك فوجد أن كوكبة الجنود الأرناؤود قد تأخروا قليلا في السير عند مبارحتهم قاعة الاحتفالات. ولاحظ أنهم ينحنون على الكنبات الممتدة على جوانب القاعة التي كان يجلس عليهـا البكوات خلال الاحتفال. وتصور أنهم يرتبونها قبل المغادرة ولكن تسربت إلى سمعه قعقعة سيوف وبنادق كانوا يأخذونهـا من داخل الكنبات وإذ لم يهتم بتلك الملاحظة باعتبارهم حراس الموكب، فقد استمر في طريقه، ولفت نظره أن كبار المدعوين وأرباب المناصب لم يتجاوزوا باب القاعة بعد صفوف الأرناؤود ولم يغادروها بينما أقفل الباب بقوة وبالمزاليج الحديدية. واستشعر أمين بك القلق حين تنبه إلى أن جنود المؤخرة قد تحولوا عن الطريق في صمت وسكون وبدأوا يتسلقون الصخور الجانبية للممر والجدران المشرفة عليه. وأطل وأمين بك أمامه فإذا مقدمة الموكب تواصل سيرها وتخرج من باب العزب قبل أن يصل طابور المماليك الذين كانوا يواصلون سيرهم متجهين نحو الباب فى نهاية الممر، وأطل بعيداً فإذا بجنود الأرناؤود في المقدمة قد أرتجوا الباب الضخم وأقفلوه إقفالا محكماً قبل أن يجتازه الطابور المملوكي الذي أصبح محصورا داخل الممر الصخري الضيق بين باب الخروج المغلق في الأمام وبين باب القصر المغلق من الخلف. وفجأة دوت طلقات نارية من نافذة إحدى الثكنات. ولم تمض هنيهة حتى انهالت طلقات الرصاص تدوي في الفضاء دفعة واحدة من جنود الأرناؤود الذين كانوا قد اعتلوا الجدران ليحصروا المماليك في كل اتجاه. كان أول من انتبه لما حدث وهو في آخر الصفوف. وحين رأى الرصاص ينهال على زملائه طلب النجاة فقفز بجواده صاعدا إلى المكان المشرف على الطريق. وبلغ سور القلعة ولم يجد أمامه إلا أن يرمي بنفسه إلى خارج القلعة من أعلى السير البالغ ارتفاعه ستين مترا، فلكز جواده قافزا به مترديا، ولما صار على مقربة من الأرض قفز هو مترجلا تاركا جواده يتلقى الصدمة ويتهـشم لفوره.

كان أمين بك أو الوحيد الذي نجا من الموت من بين أربعمائة وسبعين من المماليك ورجالهم الذين جاءوا إلى الحفل دون بنادق ولا رصاص عدا السيوف التي لم تستطع أن تفعل شيئا في مواجهة الرصاص المنهال عليهم من فوقهم ومن ورائهم، وكانت السيوف تتلقف كل من حاول منهم تسلق الجدران التي تلطخت بدماء المماليك الذين استلقت جثثهم على أرض الممر.

أما أمين بك فقد انقض على أول جواد صادفه بعد أن أسقط صاحبه، وانطلق ينهب الأرض نهبا إلى داره التي ترك فيها زوجته سلمى ليأخذها معه في طريق الهرب. ولكنه لم يكد يقترب من الباب حتى وجدها مذبوحة أمام الباب، وإلى جوارها الوليد آخر من بقي حيا من أبناء الأمراء المماليك. ولم يجد أمامه بدا من الهـرب وحده دون أن يدري أن ما جرى لزوجته ووليده كان بعض ما صدرت به أوامر الباشا بانطلاق جنود الأرناؤود قاصدين بيوت المماليك في أنحاء القاهرة ليقتحموها ويفتكوا بكل من يجدونه فيها من الأتباع والأبناء، يتهبون بيوتهم ويغتصبون نساءهم حتى بلغ من قتل من المماليك في أنحاء القاهرة والمديريات في تلك الأيام الرهيبة أكثر من ألف من الأمراء والأجناد والمماليك.

سر المذبحة

بينما كان الجواد منطلقا بسرعة رهيبة حاملا فوقه أمين بك، كانت هناك دوامة تدور برأسه، لماذا جرى هذا الغدر الدموي من محمد على ضد المماليك؟ هل كان ذلك دفاعا عن النفس بسبب ما قيل له في تآمر الأمراء للفتك به عند عودته من السويس بعد توديع الحملة؟ أم أنه كان نتيجة تفكير عميق أوحى إليه القضاء عليهم حتى لاينقضوا عليه بعد رحيل قواته مع ولده؟ أم أن هذه الضربة كانت تنفيذا لأوامر الباب العالي السرية للقضاء على النفوذ المملوكي؟ أم أن الوالي كان يستهدف غرس الرهبة في قلوب أبناء الشعب الذين دبت فيهم روح الحياة والديمقراطية بعد أن تمكنوا من تنصيبه بأنفسهم على كرسي الحكم؟

لم تستطع الدوامة في رأسه أن تصل إلى سر المذبحة، وإن لم يجد بدا من أن يخلط كل هذه الأفكار معا ويلقي بها بعيدا حتى يستطيع الوصول إلى بلاد الشام ليختفي إلى الأبد.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مذبحة المماليك بين جدران القلعة