جمال العربية

جمال العربية

شخصيات في مرايا الشعر والنثر
الأدب الصادق في مختلف الأزمة والأمكنة مرآة صادقة تعكس الصورة التي تشد انتباه الأديب، ولعل الشخصيات في الكتابات النثرية لا يقل تناولها أهمية عن الشخصيات التي تصدرت دواوين الشعر، فكيف صور الكتاب في النثر والشعراء في قصائدهم هذه الشخصيات وكيف عكستها مراياهم لنا؟

سطور من " السحاب الأحمر":

و"السحاب الأحمر" كتاب جميل من تأليف الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، فيه ما في لغة صاحبه من تدفق وحيوية ونفاذ تأثير، وفيه ما في وجدان صاحبه من حرارة وشاعرية ورهافة شعور، وفيه هذه المعادلة الفريدة بين انتماء حميم للموررث الثقافي، وانطلاق إبداعي نحو آفاق جديدة ورحبة من تجليات البيان، تلك التي جعلت من أسلوب الرافعي في الكتابة مدرسة متميزة الملامح والسمات.

يقول الرافعي في الفصل الأخير من كتابه "السحاب الأحمر" وهو يقدم هذه اللوحة القلمية البديعة للإمام محمد عبده:

"وشق سحابي عن جلال رائع يضطرب القلب له، أذكرني روعة السحابة التي يهبط فيها ملك الوحي، ليست في نفسها آية ولكن الآية فيها.

وظهر لي وجه الشيخ، وما أدراك من الشيخ؟ ثم ما أدراك من هو؟ رجل كان في تركيب العالم الإسلامي أشبه بالجبهة من جسم المؤمن: هي مجلى نور الإيمان وأعلى ما يرتفع للأعين، ولكنها مع ذلك أول ما يسجد لله من هذا الجسم كله.
خلق فصيحا مبين اللهجة، لأن لسانه أعد لتفسير معجزة الدنيا في هذه اللغة، فكان لسانه- ولا غرو- معجزة في الألسنة، وكان له بيان ينبث من طبعه المصقول كالشعاع الذي توامضك به المرآة إذا انقدحت جمرة الفلك عليها.

وكان له عقل لو وزن في رجحانه لعد يين العقول من موازين التاري، وقلب إن يكن في جنبيه كالقلوب التي وضعت على منحدر المعاني الأرضية فإنه كان دون القلوب على مهبط السماوات.

رجل لم يخلق من قبل زمنه، لأن الأقدار المصرفة ذخرته للقرن الرابع عشر تجعله وأصحابه النهضة الثالثة في الإسلام، وكتبت له أن يكون الكنز الثمين الذي يفجأ العالم بانكشافه، ليعود القديم المبدع الذي كاد ينسى فيتمكن في الأرض بأسلوب جديد. وما يدريك، لعل هذا الحكيم الفذ في علمه وعمله وذكائه وإصلاحه سيكون التمثال العقلي المشرف على الأجيال يفصل في تاريخ الإسلام بين ثلاثة عشر قرنا مضت وثلاثة عشر قرنا تأتي.

ولقد كان في تفسير كتاب الله رجلا وحده، على بعد عصره من فجر الإسلام، فكان يحمل في رأسه ذهنا كآلة اللاسلكي، تهبط عليه من أقاصي الدهر شرارة النبوة، فإذا تكلم فى آية رأيت كأنما تتكلم الآية نفسها على ملأ العقل بين مشارق الأرض ومغاربها.

ولست أدري على أي روح نبت هذا الرجل، ولكن الذي أعرفه أنه حين أثمر فنضج فحلا، أذاق الناس من ثمره طعم معجزة الفكر العربي ".

وكلمات من " الرسالة العذراء ":

و" الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة" كتبهـا أبو اليسر إبراهيم بن محمد المدير ، لتكون دستورا يستهدي به الكاتب والأديب والشاعر والمبدع ويقدم له ما يتزود به من أدوات وما يحتشد به من عدة ، منطلقا به كتابات السابقين وإبداعاتهم، مستمدا منها المعايير، ومستخلصا منها الدروس والمقاييس.

يقول ابن المدبر:

ارتصد لكتابك فراغ قلبك، وساعة نشاطك فتجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف، لأن سماحة النفس بمكنونها، وجود الأذهان بمخزونها إنما هو مع الشهوة المفرطة في الشر، والمحبة الغالبة فيه، أو الغضب الباعث منه ذلك .

وقيل لبعضهم: لم لا تقول الشعر؟ قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب.

وهذا كله إن جريت من البلاغة على عرق ، وظهرت منها على حظ. فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك، ولا واقعة شهوتك عليها، فلا تنض مطيتك في التماسها، ولا تتعب بدنك في ابتغائهـا، واصرف عنانك عنها، ولا تطمع فيهـا باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم فإن ذلك غير مثمر لك، لا مجد عليك.

ومن كان مرجعه فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم، والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه، ونتائج ذهنه، الكلام الحر والمعنى الجزل، فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.

ثم يقول ابن المدبر في "رسالته العذراء":

على أن كلام العظماء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين ، على كل حال، مما يفتق اللسان، ويوسع المنطق، ويشحذ الطبع، ويستثير كوامنه، إن كانت فيه سجية.

قال العتابي: ما رأينا فيما تصرفنا فيه من فنون العلم، وجرينا فيه من صنوف الآداب ، شيئا أصعب مراما ، ولا أوعر مسلكا، ولا أدل على نقص الرجال ورجاحتهم، وأصالة الرأى وحسن التمييز منه واختياره من الصناعة التي خطبتها، والمعنى الذي طلبته، وليس شئ أصعب من اختيار الألفاظ، وقصدك بها إلى موضعها، لأن اللفظة تكون أخت اللفظة، وقسيمتها في الفصاحة والحسن، ولا تحسن في مكان غيرها. وبتمييز هذه المعاني، ومناسبة طبائع جهابذتها، ومشاكلة أرواحهم، جعلوا الكتابة نسبا وقرابة، وأوجبوا على أهلها حفظها.

ومن أقوال الحسن بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت فى أبدان مفترقة، ومن لم يعرف فضلها وجهل أهلها، وتعدى بهم رتبهم التي وضعهم الله بها، فإنه ليس من الإنسانية في شئ.

من شعر الغربة والموت:

من شعر الشاعر الفارس محمود سامي البارودي- صاحب معجزة إحياء الشعر العربي في مطلع العصر الحديث وتجديد تقاليده- قصيدة أبداعها وهو بعيد عن الوطن، منفي في جزيرة سرنديب- سريلانكا الآن- عندما توفيت زوجته وهى بعيدة عنه فى مصر، مخلفة وراءها أطفالا صغارا يبكون في رحيلها غيبة الأم واغتراب الأب بعيدا في منفاه. والقصيدة تكشف عن النفس الشعرى الأصيل للبارودى ، وتمثله لمسيرة الشعر العربي فى أروع نماذجه وأبدع ذراه وأكبر شعرائه، واتكائه على لغة شعرية شديدة القوة ، ويتراوح تأثيراها ونفاذها بين قصائد الفخر والبطولة والتأمل والحكمة والشكوى والبكاء لكنها- فى كل تجليات إبداعه الشعرى- تمثل صحوة الشعر العربى بعد عصر طويل من الركاكة والضعف والانهيار.

يقول البارودى:

أيد المنون قدحت أي زناد

 

وأطرت أية شعلة بفؤادى

أوهنت عزمي وهو حملة فيلق

 

وحطمت عودى وهو رمح طراد

لم أدر هل خطب ألم بساحتى

 

فأناخ، أم سهم أصاب سوادي

أقذى العيون فأسبلت بمدامع

 

تجرى على الخدين كالفرصاد

ما كنت أحسبنى أراع لحادث

 

حتى منيت به فأوهن أدي

أبلتني الحسرات حتى لم يكد

 

جسمي يلوح لأعين العواد

أستنجد الزفرات وهي لوافح

 

واسفه العبرات وهي بوادي

لا لوعتي تدع الفؤاد، ولا يدي

 

تقوى على رد الحبيب ولا يدي

يا دهر فيم فجعنى بحليلة

 

كانت خلاصة عدتى وعتادي

إن كن ت لم ترحم ضناي لفقدها

 

أفلا رحمت من الأسى أولادى

أفردتهم فلم ينمن توجعا

 

قرحى العيون رواجف الأكباد

ألقين در عقودهن، وصغن

 

من در الدموع قلائد الأجياد

يبكين من وله فراق حفية

 

كانت لهن كثيرة الإسعاد

فخدودهن من الدموع ندية

 

وقلوبهن من الهموم صوادى

أسليلة القمرين أى فجيعة

 

حلت لفقدك بين هذا النادي

أعزز على بأن أراك رهينة

 

فى جوف أغبر قاتم الأسداد

أو أن تبيني عن قراراة منزل

 

كنت الضياء له بكل سواد

لو كان هذا الدهر يقبل فدية

 

بالنفس عنك، لكنت أول فادي

أو كان يرهب صوله من فاتك

 

لفعلت فعل الحارث بن عباد

لكنها الأقدار ليس بناجح

 

فيها سوى التسليم والإخلاد

فبأى مقدرة أرد يد الأسى

 

عنى وقد ملكت عنان رشادي

أفأستعين الصبر وهو قساوة؟

 

أم أصحب السلوان وهو تعادي

جزع الفتى سمة الوفاء، وصبره

 

غدر يدل به على الأحقاد

ومن البلبة أن يسام أخو الأسى

 

ترعى التجلد وهو غير جماد

هيهات بعدك أن تقر جوانحى

 

أسفا لبعدك أو يلين سهادي

ولهي عليك مصاحب لمسيرتي

 

والدمع فيك ملازم لوسادي

فإذا انتبهت فأنت أول ذكرتى

 

وإذا أويت فأنت آخر زادي

نختتم هذه السطوريات بكلمات الشاعر محمد عفيفى مطر عن شعر البارودي في منفاه- من بين صفحات كتابة الجميل عن محمود سامى البارودى الذي صدر له ضمن سلسلة الشعر والشعراء لدار الفتى العربى- وهو يقول:

"ويعد شعر البارودى في منفاه انجازه الأعظم، فقد توفر بكل جهد وإرادته على تراث الشعر القديم، ومنح مهمته الكبرى في إحياء اللغة العربية وفنها الشعرى العظيم كل همته. فقد أصبحت اللغة والشعر وطنه الباقى وحياته الممكنة الوحيدة . وإن كان البارودى قد نفي من وطنه وجرد من ماله وألقابه، فقد كان يسترد الوطن وتعلو قامته فى سماء الأمة، فأصبحت قصائده تعمل عملها العجيب فى بعث اللغة بعد موات الدهور، وبعث الشعر العربي بتراثه الخالد، مما أسهم فى إعطاء قرائه ومحبي شعره فى زمنه وطناً آخر يعيشون أمجاده وقيمه وتراثه، هو وطن اللغة الجامعة المعبرة عن جوهر المواطنة والانتماء القومي والحضاري.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات