رسالة إلي

الحقيقة خير

سيدي:

* ليتك تكف عن تكرار ذلك الحديث السمج الممل، الذي لم يعد أحد يطيق سماعه، والذي ما أظن أنك في داخلك تصدق كلمة واحدة منه. ليتك تكف عن وصف نفسك بأنك رجل موضوعي في كل مواقفك وتصرفاتك، فالناس جميعا من هو قريب منك ومن هو بعيد عنك، من يحبك- إن جاز أن أحدا يحبك - ومن لا يحبك، الذين هم أكبر منك والذين هم أصغر منك - إن جاز أن أحدا يمكن أن يكون أصغر منك- الناس جميعا يعلمون يقينا أنه لا صلة بينك وبين ما يقال له " موضوعية " أو اتزان أو سلامة رأي، وأنك أكثر الناس إمعانا في الشخصية والذاتية والبعد عن الموضوعية.

* إنك تدور حول نفسك لا ترى إلا إياها من يمين أو يسار أو أمام أو خلف، وإنك مع ذلك تملأ الدنيا صياحا بالحديث عن المعايير والمبادئ والقواعد، والناس تسمعك وتضرب كفا بكف، لأنهم يعلمون جميعا مدى بعدك عن المعايير والمبادئ والقواعد، حتى لكأن هذه المعاني تنتمي إلى عالم لا يعرفك ولا تعرفه من قريب أو بعيد.

* لم يسمعك أحد مرة واحدة تقول رأيا في أمر من الأمور العامة أو الأمور الخاصة إلا أدرك على الفور أن وراء رأيك هذا الذي تقول غرضا أو هوى أو صالحا خاصا، ولم يصدق أحد يوما من الأيام أنك قلت مرة واحدة شيئا تبتغي به وجه الله ووجه الحق، حتى وإن أقسمت على ذلك أغلظ الأيمان وأوثقها.

* واحتار الصحاب في أمرك، بماذا يعللون ذلك الجنوح الغريب والعوج الواضح الذي تأبى إلا أن تدافع عنه مستميتا، لا تريد أن تتزحزح عنه قيد أنملة.

* قال البعض إنك شرير في أعماقك، لأن بغض الحقيقة على النحو الذي تبغضها به لا يكون إلا صادرا عن شرير لا يعرف الخير.

الحقيقة خير.

*وأكاد أجزم بحكم العشرة الطويلة أنك لست شريرا، وأن ما فيك من شر لا يزيد كثيرا على ما يوجد لدى الناس جميعا، والناس يجمعون في جوانبهم بين الخير والشر، يميلون أحيانا ناحية الخير ويميلون أحيانا ناحية الشر، هكذا خلق الله النفس البشرية وأسكنها الخير والشر جميعا، ولعل الذين يفسرون أمرك على هذا النحو إنما راعهم منك ذلك " اللدد " الغريب الذي يملك عليك أقطار نفسك جميعا عندما تقوم بينك وبين أحد خصومة، أو ما يهيأ لك أنها خصومة. إنك عندئذ تنسى كل شيء ولا ترعى لشيء وقارا، وتمضي مندفعا لا تلوي على شيء، ولا تجد حرجا ولا وازعا في أن تستعمل كل سلاح رديئا كان ذلك السلاح أو غير رديء.

* لقد خيل لبعض لداتك أن كلمة " اللدد " لم توجد في اللغة العربية إلا لكي تصف سلوكك عند الغضب، وما هم على صواب على كل حال، فهذه الظاهرة السيئة التي تبعد الإنسان عن العقل والحكمة والموضوعية- ظاهرة " اللدد "- معروفة منذ كان الإنسان ومنذ كان هناك انحراف في طبيعة النفس البشرية، كذلك الانحراف الذي يملأ عليك نفسك ويحيد بها عن جادة الصواب دائما وفي كل حين.

* هذا " اللدد " هو الذي دفع بعض رفاقك إلى أن يصفوك بالشر، وإلى أن يعتبروك شريرا، وإلى أن يفسروا سلوكك كله على هذا الأساس. وأشهد الله أنني رأيتك أحيانا متلبسا ببعض الخير في بعض تصرفاتك، وعلى ذلك فإن اتهامك بالشر المحض هو نوع من " اللدد " الذي أنت به جدير.

* وقد سألني الصحاب: وبماذا إذن تفسر تصرفات تلك النفس الغريبة التي تعيش حبيسة انفعالاتها وأوهامها وتختلق الخصومات إن لم تجد خصومات، ولا تستطيع أن تعيش إلا في " المشاكل " من كل نوع مصبحة وممسية وبين الإصباح والإمساء.

* وأنا لا أنكر يا صاحبي ذلك " اللدد " المقيت الذي يدعو الناس جميعا إلى النفور منك وإلى تحاشيك بكل سبيل. أنا لا أنكر أبدا تلك الصفة المقيتة فيك، بل إنني واحد ممن عانوا من هذا اللدد معاناة غير هينة ولا قليلة، ولكنني مع ذلك أجدني أكثر ميلا إلى أن أجد هذا " اللدد"، وهذا الإغراق في الذاتية، وهذا البعد عن الموضوعية، وهذا الانحراف الشديد في الرأي كلما طلب منك أحد- إذا تصورنا أن يطلب منك أحد - رأيا، أنا أرى يا صاحبي أن ذلك كله إنما هو تعبير عما تعانيه من " صغر " النفس والقلب جميعا.

* مشكلتك الحقيقية أنك " صغير "، وأنك تتصرف تصرفات " الصغار "، ولا تستطيع أبدا أن تكون " كبيرا".

* أنت صغير النفس، ولذلك فأنت تتصرف تصرفات " الصغار "، والصغار هم أكثر خلق الله عنادا. وهذا هو أصل " اللدد " عندك ومصدره البعيد.

* وأنت صغير القلب، ولذلك فأنت لا ترى إلا نفسك، ولا تحس بأحد حولك، ولا يستطيع قلبك الصغير أن يمتلىء بغير ذاتك، ولا يستطيع أن يضم بين جنباته أحدا سواك، وهذا هو الذي يجعلك تغرق في الذاتية، ويباعد بينك وبين " الموضوعية " بعد السماء عن الأرض حتى وإن ملأت الدنيا أيمانأ مغلظة على ما تدعيه من موضوعية.

* ولعلك لاحظت أنني وصفتك بأنك صغير النفس صغير القلب، ولم أصفك بأنك صغير العقل، ذلك أنك في الواقع لست كذلك، والكل يعرف أنك عندما تقبل على الكتابة في " مادة تخصصك " فإنك تحسن الكتابة إلى مدى غير قليل. ولكن المشاكل النفسية التي تعيش فيها مصبحا وممسيا وذلك اللدد الذي يملك عليك أقطار قلبك يصرفانك صرفا عنيفا عن كل عمل منتج، ويدفعانك دفعا إلى هذا الصغار الصغير الذي اشتهرت به بين اللدات جميعا.

* ليتك ياصاحبي تقلع عن استعمال كلمة " الموضوعية "، فإنها لو استطاعت أن تنطق لأعلنت نفورها منك وبعدها عنك وعدم معرفتها بك.

* وليتك تدرك صغارك الصغير وتتعايش معه في عقلك كما تتعايش معه في الواقع، وكما يعرفه عنك الصحاب جميعا، من لم يزل منهم على صلة بك، وفي آثر أن يذهب بعيدا عنك إلى حيث يلقى أناسا فيهم خير وفيهم شر وفيهم موضوعية وفيهم ذاتية، ولكنهم أبرياء من ذلك اللدد الصغير الذي يملأ جوانحك ويعنتك ويعنت كل من حولك.

* والله وحده يغفر لنا ولك إن كان إلى غفران من سبيل.