الدبلوماسية في عصر الأقمار الصناعية محمد صلاح عبود

الدبلوماسية في عصر الأقمار الصناعية

تعتبر الدبلوماسية من أقدم المهن الإنسانية حيث ترجع بجذورها الأولى إلى قبل ما نسميه بـ "فجر التاريخ". فقد أدرك الإنسان الأول ساكن الكهوف أنه من المصلحة المشتركة لجماعته أن تتفاهم مع المجموعات البشرية المشابهة والمجاورة حول حدود الأراضي التي تزاول فيها كل منها حقوق الصيد. وبمرور الزمن وزيادة التجربة الإنسانية أدرك الإنسان أنه لا يمكن التوصل إلى هذا التفاهم إذا استمرت المجموعات على قتل المبعوث الموفد إليها من مجموعة أخرى للتفاوض. وكان اطراد هذا الموقف هو البذرة الأولى لظهور مفهوم الحصانة الدبلوماسية فيما بعد.

وبرغم قدم المهنة الدبلوماسية والدور الذي قامت به، كفن التفاوض بين الأمم والدول قديمها وحديثها، فلم تسلم المهنة في كثير من عصورها من قدر غير قليل من سوء الفهم وسوء التقدير. إن جزءا كبيرا من هذه الظنون مرجعه طابع الكتمان وعدم العلنية الذي تتسم به أغلب الأعمال الدبلوماسية، كذلك لنزوع سفراء عدد من القوى الكبرى القديمة إلى التدخل في الشئون الداخلية للدول المعتمدين لديها. وظلت سمعة المهنة على هذه الحال حتى مؤتمر فيينا عام 1815 فأصبحت لأول مرة ذات مكانة عالمية محترمة. ومع ذلك لم تسلم المهنة من النقد حتى في الأزمنة الحديثة كل ما في الأمر أن الشكوك حولها جاءت - كالعادة دائما - مرتدية ثياب عصرها.

ففي بداية القرن السابع عشر يصف سير "هنري ووتون" السفير بأنه رجل شريف يوفد إلى الخارج ليكذب من أجل بلاده. وفي فرنسا يكتب أحد الكتاب عام 1777 يصف الدبلوماسية بأنها "فن غامض يتخفى في طي الخديعة ويؤمن بأن لا حياة إلا في ظلام الأسرار". ويجئ القرن العشرون ليكتب أشهر مؤرخ دبلوماسي بريطاني حديث A.J.P. Taylor من عشرين عاما فقط قائلا: "إن الدبلوماسيين هم جماعة ذات نظام كهنوتي مقطوعو الصلة ببلادهم لوجودهم في الخارج ومقطوعو الصلة بالخارج لانتمائهم إلى بلادهم، فكيف نتقبل آراءهم في الشئون الدولية؟".

ويضيف إنهم "يترجمون الحقائق المؤلمة غير السارة إلى صيغ صناعية ثم يخطئون في فهم هذه الصيغ على أنها حقائق. والدبلوماسية هي مهنة تجذب المختلين عصبيا وتصنعهم في آن واحد. لكن للدبلوماسيين فائدتهم ما دمنا قد اعتبرناهم نصحاء وخبراء لا صانعي سياسات".

أما في الآونة الأخيرة فقد أدت الثورة التكنولوجية التي نعيشها اليوم وما أحدثته من تطور هائل في وسائل الاتصالات إلى توجيهه تهمة كبرى إلى المهنة. فهناك من يعتقد أن هذه الثورة وما استحدثته من أجهزة حديثة مثل الفاكس والاتصالات التليفونية المأمونة وكل ما نتج عن استخدامات الأقمار الصناعية قد أفقدت السفير المعاصر جزءا مهما من استقلاليته القديمة عندما يعتمد على اتخاذه المبادرة في التصرف حيث كان اتصاله ببلده يحتاج إلى أسابيع أو أشهر. كذلك ففي عالم اليوم الذي تحول إلى قرية إليكترونية تذاع فيه الأنباء فور وقوعها في جميع أنحاء المعمورة فقد السفير المعاصر احتكاره القديم في الإبلاغ بالمعلومات لحكومته. وأخطر من كل ذلك فإن انتشار اللجوء إلى عقد مؤتمرات القمة بين زعماء الدول في الآونة الحالية قد أدى - في رأي البعض - إلى فقد السفير المعاصر جزءا مهما من صفته الأساسية كمبعوث مفوض بسبب هذا الاتجاه الحديث في المزج بين رجل السياسة ورجل الدبلوماسية ومزاحمة رؤساء الدول في مهمة التفاوض.

مثل هذه التهم إن صحت تكون قاتلة للمهنة والقائمين عليها، فماذا يتبقى لهم إن فقدوا بالفعل المبادرة واختصاصهم الأصيل والسبب الحقيقي لوجودهم كأصحاب مهنة؟ إن هذه الدعاوي تعطي الانطباع بأن الدبلوماسية لم تعد مهمة جدا أو ضرورية جدا. لكن إن صح ذلك فكيف نفسر استمرار الدبلوماسية في أن تجذب إليها ألوف النابهين في مجتمعاتهم وتكريسهم كل حياتهم لها؟ ولماذا إذن - وهو الأهم - تستمر الأمم كبيرة وصغيرها في الاعتماد عليهم في إدارة علاقاتها الدولية وتنفيذ سياساتها الخارجية؟

صورة لسفير معاصر

إذا كانت ثورة الاتصالات قد غيرت شيئا من أساليب العمل الدبلوماسي - وهو قليل - فهل تستطع أن تغير من جوهره وهو التفاوض. والتفاوض - بأحد تعريفاته - هو فن اكتشاف مصالح لتدعيم الروابط وتنمية المصالح المشتركة بين دولتين، وهذا جهد مستمر لا ينقطع لا تنال منه سرعة الاتصالات أو بطؤها. وإذا كانت وسائل الاتصالات الحديثة أصبحت أسرع من إذاعة الخبر، فقد زاد هذا الأمر ذاته من مهمة الدبلوماسية في التدقيق من المعلومة وتقويمها والتعليق عليها بما يلاحق سرعة وصول الخبر ذاته. وليس في ذلك أي تخفيف في أعباء السفير المعاصر، وربما العكس. كذلك فمن الضروري أن نبين إلى أي حد تغيرت طبيعة العلاقات الدولية الحديثة عنها في الماضي وأثر ذلك في الجهد المنتظر من الدبلوماسية المعاصرة. فالعلاقات الدولية في الماضي كانت تدار بتحريك عدد قليل من القطع علي رقعة الشطرنج السياسية فوق المائدة السياسية، وكانت أوربية إلى حد كبير. كانت المشاكل الدولية تحل في كثير من الحالات إما بتحريك الجيوش أو عقد التحالفات للمحافظة على التوازن أو بالمصاهرة بين العروش. كذلك كانت العلاقات بين القوى الكبرى ومستعمراتها أو محمياتها تقوم أساسا على إصدار الأمر من طرف والصدوع به من الطرف الآخر. أما اليوم فقد تغير الكثير من كل ذلك. ومع الزيادة الضخمة في عدد الدول تغير الكثير من كل ذلك. ومع الزيادة الضخمة في عدد الدول التي استقلت في إفريقيا وآسيا خاصة في الأربعين عاما الأخيرة، وتفكك الاتحاد السوفييتي القديم وانحلال الدولة اليوغسلافية، أدى ذلك كله إلى أن حلت إجراءات التفاوض الصعبة بين الدول على أساس المساواة القانونية لشخصياتها الدولية، محل العلاقات الدولية القديمة. واللافت للنظر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية القدرة التي استطاعت بها دول متوسطة أو صغيرة تنفيذ سياساتها الخارجية بدرجة كبيرة من النجاح بما يتعدى أحيانا حجمها الدولي بفضل عناصر دبلوماسية أحسن اختيارها ودعمها. فأحسن المراقبين الدبلوماسيين ليس حكرا على الدول الكبرى.

من ناحية أخرى،في الماضي كان السفير محصورا إلى حد كبير في الأمور السياسية والتجارية بين البلدين، أما الآن فهناك عدد كبير من الموضوعات الأخرى التي تشغل باله بجانب الميادين التقليدية، أمور وقضايا أفرزها مجتمع دولي حديث شديد التشابك والتعقيد. من أهم هذه الأمور قضايا حقوق الإنسان، الأقليات، الحركات المتطرفة والعنف، حماية البيئة، تبادل المجرمين والتعاون في مواجهة التهديدات الخطرة، تبادل المعلومات حول المخدرات وذلك بالإضافة إلى زيادة الاهتمام بمبادئ قديمة مثل تشجيع السياحة، والمعارض الصناعية والتجارية، والندوات العلمية والأعمال الخيرية. بهذا الوصف لم يعد السفير المعاصر مجرد شخص على علم بالسياسة ودروبها والاقتصاد وحيله، بل أيضا مروج لسلع بلده، رجل دعاية وعلاقات عامة، يستخدم الثقافة - عند اللزوم - لأهداف سياسية ويروج الفنون لأهداف فكرية ومالية. وبمقارنة الحاضر بالماضي، فواقع الأمر أن مسئوليات السفير المعاصر لم تقل عما قبل وإنما زادت. أما زوجة الدبلوماسي التي تشاركه زيادة هذا العبء داخل البيت أو خارجه، فهي زوجة الموظف الرسمي الوحيدة التي لا تتقاضى أجرا عن جهدها. أما إذا كان المنصب الدبلوماسي - في نظر البعض - قد فقد بعض مظهرية قديمة كانت له فهذا تغيير من الاتجاه الصحيح بعد أن زادت المسئولية عمقا واتساعا.

أما بالنسبة لهذه القدرة على اتخاذ المبادرات التي كان يوعز بها إلى السفراء في الماضي فقد بولغ فيها كثيرا. فالمعروف أنه في الأحوال التي كان يستلزم فيها مرور شهر أو أكثر حتى يتلقى السفير رد بلاده، كانت الحكومة المعتمد لديها تدرك ضرورة انتظار تلك المدة. ولا ننس أن السفراء في الماضي كانوا يمثلون في الغالب ملوكا وأباطرة وسلاطين، وسياستهم معروفة ومحصورة غالبا في السياسات الدولية. أما في الحالات التي كان يمكن لتصرف السفير أن يلزم حكومته بحيث يمكن أن يؤدي إلى أزمة كبيرة أو حرب فقد كان في أغلب الأحيان حريصا على الابتعاد عن أي مخاطرة ويعمل على تهدئة الأمور.

ومن المهم أن نتبين أن سهولة الاتصالات بين الحكومة وسفرائها إن كانت قد شجعت على كثرة الاتصالات، فقد أدت بنفس القدر إلى زيادة الفرص أمام السفراء بالتأثير في مواقف الدولة في كثير من الأمور من خلال النصائح والتعليقات التي يبعثون بها ردا على كل حالة. والواقع أن سهولة الاتصالات شجعت العواصم على طلب المزيد من المعلومات والتقديرات والآراء، خاصة بالنسبة لبعض المشاكل أو المواقف التي تتطور يوما عن يوم بل من ساعة لأخرى.

الصحافة والدبلوماسية

لا شك أن وكالات الأنباء وقنوات التلفزيون العالمية أسبق في تطيير الخبر من أي جهة أخرى. وعندما يصل تقرير السفير إلى وزارته تكون هناك عدة تقارير صحفية وإعلامية أخرى قد سبقته. ولا بد من الاعتراف بأن برقيات مراسلي الصحف يمكن أن تكون متكاملة وعميقة ومفيدة مثل أي تقرير دبلوماسي، بل كثير ا ما تعتمد على معرفة أوسع وخبرة أعمق بالبلد إن كان المراسل قد أمضى زمنا طويلا في البلاد. لكن من الضروري أن نتذكر أن مهمة الصحفي غير مهمة الدبلوماسي.

فالصحافة تهتم بإيراد الخبر كقيمة صحفية. وهدفها المباشر التأثير في القارئ أي الرأي العام. والصحافة تكتب تحت ضغط الظروف وتأثير اللحظة. كما أنها تغطي أحداث الدول التي تبدو لها مهمة في الأنباء، فلا بد أن تجئ التغطية غير متوازنة. وإذا تناسينا أثر الاعتبارات المالية في اتجاهاتها وتأثير الإعلانات فيها، فما البال بالاتجاهات الخاصة لمالكها ورئيس تحريرها؟

كذلك فالصحافة - بشكل عام - تعيش على الإثارة ولفت الأنظار، في حين تهتم الدبلوماسية بتخفيف التوتر وتقريب الفوارق. الصحافة تعيش على الصراعات والخلافات العلنية، على خلاف الدبلوماسية فنجاحها غير معلن وغير معروف، مصداقا لقول تولستوي "العائلات السعيدة ليس لها تاريخ".

والجدير بالذكر ما عرف عن السفارات الفرنسية في العواصم المهمة من انتظارها لتعرف ما قالته صحيفة "لوموند" بالذات حول أمر ما قبل أن تبعث برأيها فيه إلى الخارجية الفرنسية. وذلك لأمرين: لتصحح أولا ما يرد في الصحيفة من أخطاء، ولتزيد ثانيا من تفصيلات الموضوع، وغالبا يكون تقريرها أكثر شمولا ودقة من "لوموند".

ويجب ألا ننسى أن ما قد تصرح به الحكومات وتتسابق الصحف في نشره قد لا يكون هو نفس الشيء الذي صرح به المسئولون الرسميون في الخفاء. كذلك فإن الصحافة لا يمكن أن تدعي معرفتها بكل ما يجري من مباحثات واتصالات سرية بين الحكومات المختلفة إلا نادرا، وأحيانا بسبب الرغبة في تسريب خبر ما في ظروف معينة. وهكذا، فالقول بأن ثورة الاتصالات قد أضعفت من مكانة واستقلالية السفير المعاصر، أو أن أجهزة الإعلام في صورتها الجديدة قد سلبته جزءا مهما من صلاحياته، أمر غير صحيح بل العكس تماما هو الصحيح. مثل هذا القول لا يستند في الواقع إلى فهم حقيقي لجوهر العمل الدبلوماسي. فصميم هذه العمل أنه يعتمد في أدائه على فهم الإنسان ونوازعه والقدرة على التعامل مع الأشخاص، وفهم عقليات ونفسيات الشعوب وتاريخها، وهذا ما لا تستطيع أجهزة الاتصالات الحديثة أن تغير فيه شيئا. ومن هنا أيضا اهتمام الدبلوماسية بالوسائل ربما أكثر من الأهداف في كثير من الأحيان، وهو ما يوضح القول بأن الدبلوماسية فن أكثر منها علما.

إن العمل الدبلوماسي ليس مجرد كتابة تقارير مليئة بالمعلومات والتقديرات، وإنما يدور حول فهم الشخصيات والتعامل معها بل واكتشاف شخصيات جديدة. كذلك يعتمد على استيعاب الثقافات والعقليات الأجنبية في مواطنها. فالدبلوماسية في النهاية تهتدي في وسائلها وأسلوبها لا بالسوابق التاريخية فقط وإنما بحس داخلي أحسن تدريبه وصقله. وهذا ما لا تؤثر فيه كثيرا وسائل الاتصالات.

في مؤتمرات القمة

لم تكن اجتماعات القمة مجهولة قبل العصر الحديث بالطبع. لكن الجديد هو الالتجاء إليها بشكل مبالغ فيه في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة. ويرجع تعبير"اجتماع قمة" إلى تشرشل في الخمسينيات عندما دعا إلى اجتماع قمة بين الغرب والشرق بدلا من الحرب الباردة، حتى يتوج تاريخه السياسي قبل اعتزاله. وقد قيل إن تشرشل ردد هذه الدعوة لأكثر من أربعين مرة في الفترة من عام 1955 إلى 1960.

ومن قبل ذلك كتب روزفلت إلى تشرشل في مارس عام 1942 يعبر عن اعتقاده أنه قادر على التعامل المباشر مع ستالين أفضل من جهود وزارتي الخارجية الأمريكية والبريطانية. فكان ذلك بداية الاتجاه الذي أخذ يقوى ويستمر لزمن طويل امتزج فيه رجل السياسة برجل الدبلوماسية. والفكرة من وراء اجتماعات القمة هي الخروج من مناقشة المشاكل الدولية من حيز السرية الذي تمثله الدبلوماسية التقليدية إلى درجة من العلنية الدولية، بدعوى أنه يجب ألا يسمح للدبلوماسيين بالتحدث باسم الديمقراطيات وأن يترك ذلك للممثلين المنتخبين من الشعب، أي الساسة. أما التبرير الآخر فهو أن أي سفير بحكم أنه منفذ لسياسة بلاده وليس راسمها فلا بد أن يكون محدودا في قدرته على التصرف. أما رؤساء الدول والحكومات فهم أصحاب السياسة والقرار ويمكنهم عند اللزوم أن يقدموا تنازلات محددة في مقابل مصالح أخرى مثل تنازل اقتصادي مقابل مصلحة عسكرية، أو تسوية سياسية مقابل تعويض مالي، وهكذا وأخيرا بررت اجتماعات القمة بالاعتقاد أن زيادة اللقاء الشخصي للزعماء وجهاً لوجه سوف تساعد على فهم بعضهم البعض بصورة أفضل، وإقامة علاقات شخصية قد تكون بمرور الوقت في صالح الدول ذاتها، وهذا ما لا بد أن ينعكس إيجابيا على الجو الدولي العام.

فإلى أي حد أثرت اجتماعات القمة في المكانة التقليدية للسفراء؟ وإلى أي حد تعتبر المؤتمرات بديلا عن الدبلوماسية التقليدية؟ وما هي القيمة الحقيقية لمؤتمرات القمة؟

بداية، لا بد أن نتبين أن التفاوض على مستوى القمة كان قليلا جدا في الماضي بسبب صعوبة المواصلات. فإلى أواخر الثلاثينيات لم يكن في مقدور الرئيس الفرنسي أو رئيس الوزراء البريطاني مثلا أن يتقابل شخصيا أبدا مع الرئيس الأمريكي، مثل حالة تشمبرلين وروزفلت. فلا بد من اعتبار سهولة هذه الاتصالات اليوم تطورا إيجابيا على العلاقات الدولية وقد أصبح الافتتاح السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة مناسبة مهمة لاجتماع عدد كبير من قادة الدول وما يتم في إطارها من اجتماعات قمة ثنائية وجماعية. وفي حالة المجموعة الأوربية - هذه التجربة الرائدة - فإنها لا تنجح دون لقاءات قمة دورية لدفع عجلة الوحدة الأوربية. وهناك اجتماعات السبعة الكبار وغيرها من اجتماعات قمة مختلفة.

كذلك فإن لقاءات القمة تصبح طبيعة بل وضرورية عندما يتعلق الأمر بأزمة سياسية أو اقتصادية مفاجئة، مثل أزمة الصواريخ السوفييتية في كوبا. ويزيد من نجاح مثل هذه القمم أن يكون قد أعد لها إعدادا كاملا بحيث تشارك فيها المهارات الدبلوماسية الفنية. وبهذه الصورة يكتمل لها الحسنيان : المهارة الدبلوماسية، وسلطة اتخاذ القرار.

لكن المشاهد الآن أن اجتماعات القمة أخذت صورة مبالغا فيها بما يشكك في جدواها في كثير من الحالات. وقد شهد شاهد من أهلها عندما قال "دين رأسك" وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في إحدى المناسبات:"إن دبلوماسية القمة يجب تناولها بنفس حذر الطبيب الحكيم عندما يوصي بدواء يؤدي إلى اعتياد المريض. لذا يجب عدم اللجوء إليه إلا نادرا ومع أخذ جميع الاحتياطات اللازمة حتى لا تصبح عادة خطرة أو تؤدي إلى إضعاف المريض". والذي ننساه دائما أن اللقاءات الشخصية إن كانت تؤدي أحيانا إلى توطيد صداقة أو خلقها ابتداء، فهي قادرة أيضا على خلق عداوة وكراهية. وهذا أمر بديهي، فبرغم ثلاث جلسات متتابعة لم يخرج تشمبرلين بأي فهم أفضل لشخصية هتلر أو أهدافه. وقد كان معروفا عدم وجود استلطاف بين أنطوني إيدين وجون فوستر دالاس، وزيري الخارجية البريطاني والأمريكي، فلما اجتمعا لأول مرة تأكد عدم الارتياح، ونتج عن ذلك تدهور في العلاقات البريطانية - الأمريكية إبان أزمة السويس عام 1956. كذلك عندما ذهب هارولد ماكميلان رئيس الوزراء البريطاني لمقابلة أيزنهاور في عز اشتداد الأزمة عاد بفهم خاطئ تماما عن موقف أيزنهاور مما حول الأزمة إلى كارثة. وقد وقع خروتشوف في نفس الخطأ عند مقابلته كيندي في فيينا عام 1961 إذ ظن أنه سياسي ضعيف، فأغراه ذلك الإحساس الخاطئ بإقامة الصواريخ في كوبا، وكانت النتيجة ما نعرف جميعا، واحدة من أضخم الأزمات الدولية. والمثال الآخر - لكنه عكسي - اجتماع ريجان مع جورباتشوف في ريكيافيك في ديسمبر عام 1987 ، ويبدو أن الرئيس الأمريكي قد تأثر أكثر من اللازم بلطف الجلسة وشخصية الزعيم الروسي إلى درجة قيل بعدها إنه كان مستعدا نفسيا لهجر الردع النووي الإستراتيجي للغرب. ويعتبر هنري كيسنجر أشهر من روج لدبلوماسية القمة عندما كان له هذا الدور المهم في الدبلوماسية الأمريكية. لكن كان له رأي آخر عندما كان رجلا أكاديميا. إذ كتب في عام 1957 يقول:" إن كثيرا من الدعاوي التي تحبذ دبلوماسية القمة على أعلى درجة من الحماقة. فالقول بأن رؤساء الدول فقط هم الذين يستطيعون حل المشاكل المعقدة شيء لم تدل عليه الخبرة، لأن المشاكل التي قسمت العالم لعقد ونصف لا يمكن حلها في عدة أيام بمعرفة شخصيات تعمل تحت توتر شديد وفي ضوء العلنية الباهر". ويضيف كيسنجر "إن دبلوماسية القمة ستشجع على شيوع موضة من العبث الفكري وهي التهرب من الدقة والاعتماد على الأشخاص والافتراض بأن كل المشاكل يمكن أن تحل بضربة واحدة". لا شك أنه كانت هناك اجتماعات قمة ناجحة ومفيدة كما في حالة انفتاح أمريكا على الصين، وكامب دافيد بين مصر وإسرائيل بمشاركة الولايات المتحدة، ومن قبلها نجاح ويلي براندت في سياسة "أوستوبوليتيك"، وأخيرا لإنهاء الحرب في يوغسلافيا القديمة. لكن المشكلة الحقيقية هي عندما تتحول اجتماعات القمة إلى اتجاه عام أي عندما يتحول الاستثناء إلى قاعدة، وهو الحاصل الآن. إن كثيرا من اجتماعات القمة فقدت قيمتها كأمر طارئ عندما لم تقتصر على الطوارئ ففقدت أحد أهم عناصرها وهو الناحية النفسية. والاعتراض على المبالغة في اجتماعات القمة أنها تقحم رؤساء الدول أو الحكومات في وضع قد يصعب معه التوصل إلى حل مرض لأنهم - بحكم مناصبهم - لا يستطيعون استجلاء التفاصيل. فالمفروض في اجتماعات القمة، كما عبر البعض أن تكون بمنزلة محكمة النقض فلا يجوز أن تطرح فيها أفكار مبدئية. من ناحية أخرى فالدبلوماسي المحترف أقل عرضة من السياسي لبعض المخاطر التي تأتي أحيانا في المفاوضات. فهو غير مضطر - كالسياسي - ليعلن عن نجاح المفاوضات لمجرد تدعيم مكانة حكومته أو حزبه.

إن اتصالات رؤساء الدول والحكومات والوزراء أمر له قيمته بلا شك لكن لا بد أن يعد لها الإعداد اللازم وبافتراض أن يكون لها مبرر فعلي، وهذا ما يقدره كثير من الزعماء والساسة. ويرون أن المفاوضات الدبلوماسية بطبيعتها معقدة ومتخصصة وتستلزم وقتا طويلا، ولا يمكن إتمامها في مقابلة شخصية. لذا نراهم يفضلون الاتصال الشخصي المباشر في مفاوضات معينة أو أزمة طارئة لمجرد أن تبدأ فقط عجلة المفاوضات في الدوران، أو عندما تحتاج إلى مرحلة من المفاوضات كي يلقوا بثقلهم فيها. وحتى في مثل هذه الحالات تحتاج الاجتماعات إلى عناية كبيرة من جانبي المفاوضين لنجاحها بترتيب من الدبلوماسيين المحترفين، لا كبار الساسة الذين ليس لديهم كل هذا الوقت. والجدير بالتأمل أنه كثيرا ما يكون نجاح اجتماع للقمة نتيجة لعدة أشهر من الإعداد الدقيق والمكثف قامت به وزارات الخارجية المعنية وسفراؤها. كذلك فالمخاض الذي يسبق عادة ميلاد الأحداث لا يمكن أن يدركه ويستشعره من بعد هؤلاء الذين لهم صلات مستمرة بالدولة المعتمدين لديها. بل أحيانا يكون السفراء أنفسهم هم أصحاب فكرة اجتماع القمة عندما يرون أن الفرصة والظروف مواتية لعقده ونجاحه.

أما بعد انتهاء القمة فمن هناك غير السفراء لمتابعة تقويم نتائجها والتحقق من متابعتها؟

وفي مذكرات لأحد السفراء البريطانيين السابقين والتي نشرت أخيرا وردت قصة يحكيها عندما كان سفيرا في مدريد وحضر إلى لندن للمشاركة في مفاوضات مهمة بين رئيسي الوزراء الأسباني ومسز تاتشر وقتها. ففي أثناء المفاوضات أثار الرئيس الأسباني موضوعا لم يكن واردا ضمن جدول الأعمال وطلب موافقة الجانب البريطاني على شيء محدد بشأنه. ولما كان هذه الموضوع لم يتم بشأنه مناقشة بين الخارجية البريطانية ورئيسة الوزراء قبل المفاوضات، فقد التفتت مسز تاتشر نحو لورد كارينجتون وزير الخارجية آنذاك وسألته "ما رأيك؟". فالتفت هو بدوره إلى السفير البريطاني المعتمد في مدريد وسأله "ما رأيك" فرد السفير "موافق" فالتفت لورد كارينجتون إلى مسز تاتشر وقال "أنا موافق" فردت مسز تاتشر على رئيس الوزراء الأسباني "أنا موافقة". هذه الأسئلة والأجوبة بين الجانب البريطاني كانت بالطبع على مسمع ومشهد من الجانب الأسباني - ويروي السفير أن هذا الحوار السريع الذي دار بين الجانب البريطاني كان له أثره المهم. فمنذ عودته إلى مدريد وإلى أن انتهت مهمته هناك عومل بكل تقدير على جميع المستويات، حيث أدركت أن له كلمة مسموعة لدى حكومته وأنه يحظى بكامل ثقتها.

فن الدبلوماسية التقليدية

وبعد.. لقد نشأت الدبلوماسية ونمت على مر العصور المختلفة كمهنة تستلزم تلمذة مبكرة وتكريسا دائما. فلا غنى عن أصحاب العقول المهنية المدربة التي ألفت العمل لتخفيف حدة التوتر في العلاقات الدولية بميلها الطبيعي إلى فهم سلوك العالم الخارجي وردود أفعاله. إن هذه السجايا تعتمد بطبيعة الحال على الانخراط المستمر في الحياة اليومية للمجتمعات الأجنبية، وذلك لا يتوافر للسياسي الذي يأتي في زيارة عابرة.

إن صداقة الأمم كصداقة الأفراد تحتاج إلى عناية ودوام رعاية ومن هنا كسب الثقة. وكسب الثقة في الدبلوماسية يساوي عنصر الحنكة وربما يزيد عليها في بعض الأحيان.

أما عن ذلك الحديث المعاد عن تأثير اجتماعات القمة في منزلة السفير المعاصر، فلعله قد آن الأوان لإعادة النظر في ذلك التقسيم الشكلي بين من يقرر السياسيات ومن ينفذها، إذ لم تعد له أهمية فعلية.

فالفروق في ممارسة الدبلوماسية بين رئيس دولة ووزير خارجية وسفير إن هي إلا فروق في مدى التأثير وشكله لا في مدى الشعور بالمسئولية وحسن الأداء. إن هذا الأمر يزداد وضوحا عندما ندرك أن على قمة الخصال التي يجب أن يتحلى بها سفير جدير بمنصبه صفة الشجاعة ليقول لرؤسائه الحقائق كما يراها وإن أغضبهم. هذه هي أول واجباته لأنه مؤتمن على مصالح بلاده. ولا بد أن يوطن نفسه على أن غضب الرؤساء هو نوع من أخطار المهنة التي تقبلها منذ البداية.

ولقد ذكر لورد بالمرستون في إحدى المناسبات عام 1861 - بعد تولي وزارة الخارجية أحد عشر عاما ورئاسة الوزارة ست سنوات - "إن الفائدة الوحيدة للمبعوث المفوض هو أن يعارض في التعليمات الصادرة له.

أما إذا كان المطلوب هومجرد تنفيذ التعليمات بكل دقة فموظف كتابي أو ساع يستطيع أن ينهض بالمهمة". وإذا كان السفير المعاصر لم يدع قط أنه يرسم السياسات، فالأمر متروك لدولته لأن تستمع إلى نصحه وتوجيهه.

وكل دولة تحصل في النهاية على الجهاز الدبلوماسي الذي تستحقه. كذلك فإذا كان السفير المعاصر لم يعترض مطلقا على ألا يكون من نصيبه العزف على الكمان الأول، فذلك لأن شاغله الأول هو أن يسود "الهارموني" العلاقات بين الدول. وأخيرا فهو على حس قومي ناضج ليدرك ويقبل عن رضا أنه لا يهم في النهاية من يتعهد بالرعاية الأشجار، ومن يجني المديح والثمار.

 

محمد صلاح عبود

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات