الاستهلاكية والتسلط: وجهان لثقافة الأزمة ماجد موريس

الاستهلاكية والتسلط: وجهان لثقافة الأزمة

في بدايات هذا القرن وضع "فرويد Freud1856-1939م "أسس نظرية التحليل النفسي التي تعتبر نقطة البداية في تاريخ علم النفس والطب النفسي الحديثين، وظلت كل أطروحاته موضع شك ونقد من معاصريه ولاحقيهم الذين كانوا يبحثون عن الدليل العلمي التجريبي لكل افتراضاته، وجاءت أولى بارقات الأمل على يد "بنفيلد Penfield" الذي كان جراحا للمخ ووصل من خلال تجاربه إلى نتيجة مجملها أن المخ البشري يختزن رصيده السابق من الخبرات في مواضع محددة منه واتضح له أيضا أن هذه الخبرات المختزنة بكل دقة في مراحل حياتية سابقة يمكن استرجاعها بكل ما يكتنفها من مشاعر وأحاسيس وكأن للإنسان القدرة على استدعاء حالات كيانية بكاملها من ماضيه وإعادة الدفء والروح إليها، كلما دعته الحاجة إلى ذلك.

التقط هذه النتيجة أحد الفرويديين المجددين وهو"إريك برن Eric Berne" 1910-1970م الذي اجتهد في صياغة نظريته بالصورة العلمية التي يقنع بها التجريبيون. افترض "برن" أن هناك وحدة للتعامل بين البشر تناظر أي وحدة من وحدات الطاقة، وكانت هذه الوحدة بالنسبة لي هي.. "مثير - استجابة". تعامل متبادل بين شخصين تصدر عن أحدهما رسالة فيستجيب لها الشخص الآخر. لاحظ "برن" أن الأشخاص في خلال هذه الوحدات من التعامل المشترك تطرأ عليهم تغييرات كلية.. تجدهم في حين يتصرفون كـ "راشدين"، وفي حين آخر تنضح استجاباتهم بكونهم "أطفالا". وفي مواقف أخرى يتمثلون دور "الآباء".

حينما يتعامل الأشخاص في حياتهم اليومية يكونون في تبدل مستمر بين ثلاث حالات. هذه الحالات هي حالة "الراشد -Adult" وحالة "الوالد - Parent" وحالة "الطفل-Child". عندما يستعيد الشخص خبرات الطفولة ببراءتها، ببحثها الدءوب عن المجهول، يجب الاستطلاع وعدم إدراك معنى المسئولية.. الرغبة في إشباع الرغبات.. المشاعر والأحاسيس الفياضة.. النزوع إلى الطلب دون تقديم المقابل المكافئ.. الخيال المتسع الرحيب، نقول إنه عندما يتقمص الشخص هذه الحالة يمكن أن نصفه بأنه يعيش حالة "الطفل"، على أنه في هذه الحالة يجدر بنا أن نميز بين وضعين من أوضاع الطفولة.. وضع "الطفل المنسجم" ووضع آخر هو"الطفل غير المنسجم"، أما الطفل المنسجم فهوالطفل الذي يشعر بالاتزان في البيئة المحيطة به ويشعر بإشباع لكل احتياجاته الأساسية، وتبعا لذلك تجده في حالة من الهدوء والانصراف إلى نشاطه الذاتي يتوهج خياله فيرسم أو يلعب أو يعزف أو يمارس أيا من هواياته بانطلاق وتلقائية، وهكذا تحلق أحلامه في سماوات بهية.. أما "الطفل غير المنسجم" فهو ذلك الطفل الذي يشعر بخلل ما في البيئة المحيطة ويعلن عن احتياجه إلى متطلباته الأساسية من طعام أو دفء أو نظافة أو هدوء.. وما دامت هذه الحاجات غير مستوفاة يظل هو منخرطا في البكاء والصياح، مزعجا لمن حوله وقد يدمر ما تصل إليه يداه حتى يجذب انتباه المعنيين برعايته ليبدءوا في بذل ما يستطيعون من جهد لإرضائه، وتكون المحصلة النهائية لهذا الموقف هي أن هذا الطفل بدلا من أن يبدع ينصرف نحو استهلاك طاقة من حوله. وهكذا نرى في الطفل الراضي المنسجم ميلا نحو الإبداع، وبنفس القدر والكيفية نرى في الطفل غير المنسجم نزوعا نحوالغضب والاستهلاك.

في حالة أخرى من حالات الأشخاص كما وصفها "برن" تسود الذاتية ويتنامى الإحساس بالمسئولية المباشرة عن السلوك.. مقدماته ونتائجه، عندما يصبح الشغل الشاغل للإنسان هو تجميع المعلومات وحساب الاحتمالات، عندما يجتهد في تحويل المؤثرات أو المثيرات إلى مخزون من التجارب يكون جاهزا للاستدعاء لحل ما عساه يحل من مشكلات أو معضلات في جدة الحياة.. عندما يتقمص الشخص هذه الحالة فتنضح عليه في وحدات تعامله الإنساني، نقول إنه يتعامل في حالة "الراشد".

وعندما تسود الشخص في موقفه المتعامل مع الغير كل القيم الموروثة إما مباشرة عن طريق السلف أو بواسطة آليات أخرى كثيرة في المجتمع مثل الأسرة أو وسائل الإعلام أو المؤسسة الدينية.. عندما يستوعب الشخص كل هذا الرصيد ويتمثله تمثلا كاملا تجده وقد اقتعد مجالس الحكماء واسترسل في بذل النصح والإرشاد وشرح الكيفيات وفي تحديد ما يراه من حدود يخالها صحيحة أيا كان المقياس الذي تخضع له السلوكيات عند تقييمها.. يقول "برن" إنه في هذه الحالة يمكن وصف هذا الشخص بأنه يتفاعل حال كونه "والدا" أو شيخا. ولا أعتقد أنه من الصعب علينا أن نرى في حالة "الوالد" موقفين مهمين.. موقف "الوالد" الملهم الذي يبذل الحكمة والنصح بحنو وتور، وموقف "الوالد" المستبد المتسلط الذي لا يرى سوى العصيان والجحود في تصرفات خلفه فينصرف إلى الأمر والنهي والتهديد والوعيد والعقاب.

في هذه الجولة السريعة في منعطف ثري من منعطفات علم النفس المعاصر انتهينا عند "برن" لنصل إلى مفهوم تقريبي لحالات ثلاث يتعامل بها الإنسان.. حالة "الطفل" المنسجم المبدع، وغير المنسجم المستهلك. وحالة "الراشد"، وحالة "الوالد" المنسجم الملهم والوالد غير المنسجم المتسلط.

الفن.. العلم.. التراث

ألا يتكون المجتمع من جماعة من الأفراد تربطهم بعضهم بعضا أزمة أو وحدة المكان.. والتاريخ.. واللغة.. و..؟ بلى، فالمجتمع هو هؤلاء الأفراد جميعهم مشتركون في تفاعل بيني وحميم مع المكان وعبر الزمان. ولعلني أدعي أن أي ظاهرة اجتماعية تسود في ظروف معينة ليست إلأ ما يظهر على السطح من نتاج التفاعلات السابقة باتجاهاتها المتعددة وأعماقها المتباينة، بإسهام كل عنصر من عناصر المجتمع في هذه التفاعلات بكل ما ينطوي عليه كيانه الشخصي من قيم ومشاعر وفكر وموقف من الماضي وحلم بالمستقبل.

أسمح لنفسي أن أفترض أن ما أثبته "إريك بيرن" فيما يختص بحالات الشخصية يمكن أن يصدق كذلك على تجربة أو حالة المجتمع، فإذا اعتبرنا أنه من الممكن تحديد العناصر المتعددة، التي تسهم في تكوين الحياة الثقافية في المجتمع، على نحو يسهل عملية رصدها والتعامل معها، أجدني متحمسا لتمييز ثلاثة مكونات رئيسية افترض أنها العمد الأساسية التي يقوم عليها البناء الثقافي أو العناصر الرئيسية التي تبث الروح في حياة المجتمع الثقافية. هذه المكونات هي الفن والعلم والتراث.

"الفن" هو أول المكونات المشاركة في البناء الثقافي للمجتمع والحديث عن الفن، والأدب ضمنا، هو حديث عن النشاط الإنساني الذي يبحث في الظاهرة الفردية التي لا يمكن تعميمها، على النقيض من العلم الذي يبحث فيما يمكن تعميمه من ظواهر. والنشاط في حالة الأدب والفن هو نشاط ابتكاري مقود بالخيال وليس ابتكارا محكوما بالمنطق والقوانين الطبيعية كما هو الحال في العلم، الأدب والفن يشكلان المنطقة الغنية بالأحاسيس المفعمة بالمشاعر والمتحررة من حدود هنا والآن.. الفن هو الحالة التي تعبر كل من يعبر موضعها جناحين يحلقان به في آفاق من الانسجام.. انسجام يشترك فيه المبدعون بما يبدعون، والمتلقون بما يستقبلون ويتذوقون. وعلى هذا النحو يصبح من الواضح أن "الفن" بالنسبة للحياة الثقافية في المجتمع مناظر لحالة "الطفل" في كيان الإنسان.

ثاني المكونات التي يقوم عليها البناء الثقافي للمجتمع هو"العلم". وذكرنا للعلم هو ذكر لكل مجهود ابتكاري مجرد عن الهوى.. إن العلم هو المجال العام الذي يبحث في الظواهر المتناثرة ليجد فيها ما يجمعها وما يمكن تعميمه وهوذلك الجهد العقلي الذي يقوم دائما على ما يفترض دليلا.. وللعلم شقاه النظري والتطبيقي، فهو علم نظري عندما يبحث في القواعد العامة التي تحكم قوانين الطبيعة والمنطق العام للكائن وراء أحوال الأشياء، وهو علم تطبيقي عندما يستخدم كل الأسس والقوانين التي تصل إليها العلوم البحتة في صنع التقنيات التي تعين الإنسان على حياته وشظفها. وبنفس الكيفية التي افترضنا بها التقابل بين حالة "الفن" في المجتمع وحالة "الطفل" في الإنسان، بنفس الكيفية يمكننا طرح نوع من التوازي في الأدوار بين حالة "العلم" في المجتمع وحالة "الراشد" في الإنسان الفرد، حيث يلعب كلاهما نفس الدور نسبيا. العلم هو المكون الثقافي المسئول عن جذب المجتمع كله في خطى حثيثة نحو مستقبله مسخرا ما يزجر به من ثروات ومعطيات لخدمة أفراده وتذليل ما يواجههم من مشاكل.

ثالث المكونات المسهمة في حياة المجتمع الثقافية هو"التراث". فهو العنوان الشامل الذي تندرج تحته عناصر عدة.. الدين، فكرا وسلوكا وتجربة وجدانية، والتاريخ.. مآسيه وبطولاته، والموروث الشعبي. مسجلا أو غير مسجل.. الحكايا والأساطير.. العادات والتقاليد.. الحكم والأمثال الشعبية. وبقليل من التروي يمكننا اعتبار حالة "الوالد" بالنسبة للإنسان مناظرة لحالة "التراث" بالنسبة للنسيج الثقافي في المجتمع. تراث المجتمع هو ما يضفي لونا عاما أو سمة غالبة على المجال الذي تنشط فيه تفاعلات المجتمع وقد يضع إطارا عاما لاتجاهات الحركة فيه. فالتراث في المجتمع مثله مثل الوالد في الإنسان يلعب دور الضمير المحاسب أو المثل الأعلى.

كما أن الإنسان الفرد حسبما قال "إريك برن" تنطوي حياته على ثلاث حالات تتبادل فيما بينها المقاعد فتسود كل منها فترة من الفترات أو موقفا من المواقف.. الإنسان هو الإنسان لا يتغير بمعايير الطبيعة ولكنه يتفاعل بثلاث حالات من الكينونة النفسية والسلوكية.. حينا تجده طفلا منسجما يلهو ويبدع أو غير منسجم يبكي ويستهلك، وحينا تجده راشدا يحكمه العقل والمنطق، وتارة ثالثة يتصرف كوالد، يلهم ويرشد في رضاه وانسجامه، ويقسو ويغضب في سخطه وتسلطه.. والإنسان ليس هو أي واحد من هذه الحالات على حدة ولكنه ثلاثتها جميعا متفاعلة ومتعاونة في ولاف عجيب، بحيث إننا لا نستطيع أن نرسم حدا فاصلا قاطعا بين حالة وأخرى. وبنفس الكيفية يمكننا أن نتصور أن المكونات الثلاثة التي سبق أن أشرت إليها.. الفن والعلم التراث.. ما هي إلا الخيوط التي ينسج منها مخمل الحياة الثقافية لأي مجتمع.. ونفترض أيضا أن التفاعل الصحي والمتكافئ بين هذه المكونات أو الحالات هو الذي يميز صحة الحياة الثقافية من سقمها، أو هو ما يميز نضجها من ضمورها وتدهورها. ينقل إلينا التراث وإرث الماضي ويخطو بنا العلم نحو المستقبل ويعيننا الفن على تحمل وطأة الحاضر بما يضفي عليه من جمال. ونحن أيضا لا يمكننا أن نرسم خطوطا أو حدودا فاصلة قاطعة بين أي من هذه المكونات.. أين ينتهي دوره وأين يبدأ دور الآخر. والتكافؤ بين هذه المكونات أو الحالات هو معيار الصحة ومؤشر لسلامة الحياة الثقافية. إن أي مجتمع تسيطر على حياته الثقافية حالة بعينها سيطرة تمحو في سبيلها الحالتين الآخريين هو مجتمع يعبر من الصحة إلى المرض.

إذا استبد عنصر "التراث" بالحياة الثقافية فأصبحت له اليد العليا نجد أن أفراد هذا المجتمع يهتمون بكل ما هو قديم وموروث دون أن يفسح للعلم أو للفن. ومجتمع ببساطة أن نميز فيه كل أمارات المرض والشيخوخة كمثل الإنسان الذي تستبد به حالة "الوالد" وأمثال هذه المجتمعات كثيرة وهي ليست ببعيدة علينا.. إنها المجتمعات التي تعيش الحاضر بعقلية وفهم العصور الغابرة.

والمجتمع الذي تصبغه الصبغة العلمية المجردة تحرم حياته الثقافية من جذورها التراثية ويحرم في نفس الوقت من قدراته الإبداعية أدبا وفنا.. هو مجتمع أشبه ما يكون بالإنسان الذي يعيش حالة "الراشد" دون أن يسمح لنفسه أن ينصت لصوت "الوالد".. أو يستمع بحرية "الطفل". ويمكننا اعتبار المجتمعات التي كانت تعيش الشمولية في أوسع صورها مكرسة كل طاقاتها للإنتاج والبحث العلمي.. يمكننا اعتبار مجتمعات أوربا الشرقية من أكثر الأمثلة حضورا على هذه الحالة التي يستبد فيها العلم بثقافة المجتمع.

وإذا افترضنا أنه يمكن أن يفسح للفن والأدب أوسع المجالات وأنه يمكن أن تفتح أمام الأدب أوسع الأبواب ولكن على حساب تقويض ملكات النشاط العلمي وعلى حساب ضمور أو انقطاع الصلة بالتراث، فإن هذا المجتمع هو أشبه ما يكون بالإنسان وقد استبدت به حالة "الطفل" وهي حالة يصعب أن يستمر عليها إنسان أو يزدهر بها مجتمع. وهذا هو الوضع في المجتمعات التي نعتبرها مقاصد اللهو والعبث في العالم.

أزمة المجتمع.. الاستهلاكية والتسلط

يحيا الإنسان، ينمو ويتطور بصورة صحية ساعيا نحو النضج والتكامل ما دامت أسباب الصحة في بيئة توافرت له وظل قادرا على التمييز بين القوي والطيب فيرفض هذا ويعافه ويقبل على ذاك ويتمثله. ويظل التوازن بين حالات "الطفل" و"الوالد" و"الراشد" هو ما يميز أداءه بصورة عامة. فإذا ما جد على بيئته ما يعكر صفوها أوجد عليه ما يحول بينه وبين ملكة التمييز، أصبح من الصعب عليه أن يحافظ على التوازن بين حالاته. وفي الغالب الأعم نجد أنه إما ينكص لـ حالة "طفل" باك مستهلك غير منسجم، أويرتمي في أحضان حالة "الوالد" الغاضب المتسلط.

هذا هو بعينه موطن الداء في الخلل الذي يهدد انسجام الحياة الثقافية فتبدو هزيلة بمنأى عن المناخ المتوثب الطموح. كل مجتمع معرض لأن تمر به أزمة.. إما أنها تكون مزمنة أو حادة. من الأزمات المزمنة التي تعترض مسيرة المجتمع الأزمة الاقتصادية بشقي الركود والتضخم، والأزمات السياسية مثل أزمة الديمقراطية التي تنعكس على اتساع الفجوة بين الحكام والمحكومين أو هي في الأساس ما ينشأ على أثرها تقسيم المجتمع إلى حكام ومحكومين.. أزمات الاحتلال العسكري الاستيطاني الذي يجثم على صدر الشعوب وينشب مخالبه في كل جنبات الحياة. وقد يعاني المجتمع على حين غرة أزمة حادة مفاجئة سريعة.. الكوارث الطبيعية، إعصار، زلزال، فيضان. أو يتعرض لهجوم عسكري مباغت يهدف إلى القضاء المبرم على الهوية وإلى تغيير معالم الخريطة السياسية المتعارف عليها.. ماذا يحدث في الحياة الثقافية لمجتمع تغشاه أزمة أو يتعرض لضغط عنيف؟ مثل الإنسان.. إما أن يسود مناخه العام حالة (الطفل غير المنسجم - الفن الاستهلاكي)، أو يرزح تحت وطأة حالة (الوالد غير المنسجم - التراث المتسلط).

إذا سادت الحياة الثقافية حالة (الفن الاستهلاكي)، ألمت بالمجتمع كله حالة من النكوص إلى طفولة باكية غير راضية وغير قادرة.. ينتشر الأدب الرخيص المخاطب للغرائز في أحقر حالاتها، "رسائل الغرام".. ماذا تفعل في ليلة الزفاف؟. تجد هذه الكتب من يرتزق من توزيعها ومن يقبل عليها ويقتنيها. يتحول الكلام العامي الركيك إلى دواوين للشعر الشعبي بقدرة قادر.. تذبل اللغة الفصحى وتغدو كنبت غريب وإن كان في تربته، يسعى الجميع إلى إنتاج الفن السطحي السهل سريع المكسب.. تغمر الأسواق بأشرطة تسجيل تلوث الذوق وتهبط بالوجدان ولا تترك في المستمع إليها أثرا سوى الشعور بالغثيان والبحث عن علاج للصداع. يندس بين مفردات الحياة الفنية مصطلحات جديدة لم تكن معروفة قبلا.. مثل "أفلام المقاولات" وهي التي يتم إنتاجها في أقصر وقت وبأقل تكلفة ممكنة ويتم فيها الربط بين المشاهد ربطا تعسفيا شريطة أن يضمن هذا تعرية ما أتيح من أجساد وإهدار ما أمكن من قيم وجرح ما تيسر من مشاعر.. هذه صورة شديدة التلخيص أقرب ما تكون إلى الواقع، للأدب والفن الاستهلاكيين في مجتمع الأزمة.

ومجتمع تتسم حياته الثقافية بالاستهلاكية لا يمكن إلا أن يكون أفراده من العابثين غير المسئولين.. غاضبين يعيبون زمانهم وأسلافهم وحكومتهم في بكائية مستمرة على ما انتهت إليه أوضاعهم.. يشكون دون تقديم اقتراحات.. يرفضون بمزاج عصبي كل المتاح ولا يقدمون بديلا. لا ترى عيونهم سوى السلبيات ويأبون أن يروا ولو بصيصا واحدا من الأمل.. ما أشبه التظاهرات المدمرة العشوائية، التي تحدث بين حين وآخر، بالطفل الباكي المتذمر الذي يدق الأرض بكلتا قدميه. وهؤلاء الأفراد الغاضبون هم في نفس الوقت عابثون. يطلبون ولا يقدمون.. يلحون على تأكيد حقوقهم ويتناسون واجباتهم.. ينكبون على اقتناء السلع الاستهلاكية ويحرصون على شراء الكماليات ويشعرون بالقهر المرير إذا حالت إمكاناتهم المادية دون ذلك.. إنهم ببساطة استهلاكيون.

إذا استبدت بالحياة الثقافية للمجتمع حالة التراث المستبد المتسلط ارتمى المجتمع كله في حضن كل ما هو قديم وموروث، وأصبح الهدف الأسمى لأفراد المجتمع هو التماس الملاذ والملجأ في كل ما مضى من زمن وما مر عليه من خبرات حتى يسيطر القديم ويسود فلا يفسح مجالا لعلم ولا يهيئ فرصة لإبداع فني.. تتعاظم هذه السطوة حتى تصل إلى الدرجة التي يصبح فيها الاعتراف بنتائج البحث العلمي والسماح باستعمال التقنيات الحديثة في الحياة اليومية رهنا بمدى ما يتطابق به هذا البحث أو هذه التقنية مع ما يسمح به التراث الغاضب المستبد أيا كان وجه الأصالة في هذا التراث أو مصدره. ومن جهة أخرى تحجم ساحة الإنتاج الفني والأدبي ويشبه أي منها بطفل لقيط منزو في ركن قصي من الحياة تفحصه وتمحصه العيون بنظرة ازدراء لا تخلو من تعال ولا تسمح بالإقبال عليه إلا في حدود استيفائه لشروط معينة يصوغها من يكتسون بثوب التراث أويرتزقون منه.

نحو مناخ عاقل مبدع ملهم

في مجتمع الأزمة يحتل مكان الصدارة في المناخ الثقافي للمجتمع صورة (الطفل غير المستخدم - الفن المستهلك) و(الوالد الغاضب - التراث المتسلط) ويغيب (الراشد) عن الصورة غيابا شبه كامل. ودون أي تعقيد لن نختلف إذا قلنا إنه في تجاوز الأزمة يجب أن يكون هناك تغيير مناظر متوقع في التكوين الثقافي للمجتمع بحيث يحل الطفل المنسجم المبدع محل الطفل غير المنسجم المستهلك، ويحل الوالد الواعي الملهم محل الوالد غير المنسجم الغاضب المتسلط، وبالطبع لا بد أن يتبوأ (الراشد) منزلة لكي يعمل العقل ويستخدم العلم لتحليل ما صار إليه واقعه وللاضطلاع بمهمة النهوض من الكبوة وتجاوز العثرة. هذه هي بالتحديد ملامح التغير في المناخ الثقافي لمجتمع ما بعد الأزمة - تحفظا، أو لمجتمع الاستقرار والنهضة - أملا مرتقبا.

ثقافة المجتمع الناهض يدعهما عقل واع مستنير وليس غارقا في أحلام اليقظة ولا في ترهات الماضي ولنا أن نتصور أن يكون مردود هذا على المجتمع هو توهج حركة البحث العلمي حتى نشعر أن هناك بالفعل تغييرا حقيقيا يتبدل معه الوضع الذي صارت إليه الأبحاث الجامعية في وقتنا هذا. إن مخازن الجامعات محشوة حاليا بعشرات الآلاف من الأوراق العلمية التي يقدمها أعضاء هيئات التدريس مبتغين استيفاء شروط الترقي للحصول على لقب علمي أعلى. عندما يسود العلم ليأخذ مكانه المتوقع في المجتمع يصبح حشد الهمم والطاقات والعمل الجاد هو السبيل الوحيد الذي تعقد عليه الآمال لعبور الأزمة الاقتصادية وللتعامل مع الانفجار السكاني. ويصبح هنا من باب الاستطراد غير المفيد أن نسهب في وصف أناس يعيشون في مجتمع يقوده العلم. أقول باختصار إنهم سيتحولون من موقف الطفل غير المنسجم المستهلك إلى موقف الطفل المنسجم المبدع، ومن حالة الوالد الغاضب المتسلط إلى حالة الوالد الملهم.

الأدب والفن في مجتمع ناهض يشكلان إبداعا إنسانيا صادقا، فكرا مكتوبا أو فنا منحوتا أو مرسوما أو مسموعا أو مشاهدا. إن عملية الإبداع من الوضع منسجما متسقا تصبح تنقيبا عن كل المعاني عميقة الجذور في اللاوعي الجمعي لاختيار أنسبها وإضافة أحلى ما في الواقع، وما في ما بعد الواقع من رموز، وهكذا تكتسي الحياة بصفة عامة الصورة الجميلة والنغم الشجي والمسرح الراشد والنحت الشامخ والشعر الرشيق والكتاب العميق والرواية المتواصلة مع الزمان وحكمته والمكان وعبقريته. ‏

والتراث في ثقافة ما بعد الأزمة يسهم بنفس القدر وعلى قدم المساواة مع كل من العلم والفن في تكوين حياة ثقافية ناهضة. على أهل مجتمع ما بعد الأزمة أن ينقبوا في كنوز سلفهم عن أشمخ ما وصلوا إليه من علم وإنجازات شيدت ما ناطح الزمان وظلت باقية حتى الآن. عليهم أن يبحثوا في إرث الماضي عن القيم الرفيعة والذوق المرهف الراقي، عن لحظات التقدم والرفعة في تاريخهم، عن بطولات الأجيال التي سبقتهم. على أهل مجتمع النهضة ألا ينسلخوا من جلودهم.. بمعنى أنهم يجب عليهم أن يصلوا في صدقهم مع أنفسهم إلى الدرجة التي يصبح فيها طابعهم الموروث ناضجا على نتاجهم بصورة تلقائية وليس بتعسف وتحميل مجاف لطبيعة الأشياء.. لا مجال في مجتمع النهضة للخوف من الماضي، بل ربما يكون في الاستئناس به معين على وحشة حياة كونية باردة ذبلت عواطفها وانهارت قيمها الجميلة..

ومجتمع يتشكل مناخه الثقافي من (راشد) واع، و(طفل) مبدع، و(والد) ملهم لا نخال أن أهله يعيشون إلا وهم متوثبون للتقدم علما وللإبداع فنا وأدبا وللأصالة تراثا حكيما ملهما. إنهم يدركون نقائصهم في غير يأس ويرصدون آمالهم في غير مبالغة.. يعانون حياة اليوم وهم راضون بغير خنوع، يطالبون بغير تعجيز أوعجز.. ينتقدون أوجه القصور بغير تذمر ويرفضون ما لا يقبلون بغير تدمير.. يطرحون الحلول من غير تكبر ويرتمون في حضن تراثهم دون تواكل أوكلل.. تسموقيمهم الدينية بما فيها من جمال وسموفتشع نورا في سلوكهم.

لست متشائما ولكنني أعتقد أن احتمالات بلوغ مجتمع مستنير، تغمره ثقافة عاقلة مبدعة ملهمة، تتراوح بين الصعوبة والاستحالة إلا إذا أصبح بلوغ هذا المجتمع هدفا لمجموعة من المثقفين الثوار النبلاء المستعدين لتلقي طعنات اقتصاديي الاستهلاك وإرهابيي السلطوية التراثية.

 

ماجد موريس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات