قصة عربية: موطن السلمون حميد الأمين

قصة عربية: موطن السلمون

كما تنفرط حبات اللؤلؤ من العقد المقطوع وتتناثر في الريح العاصف، تسربت بويضات السلمون إلى قاع النهر، مخلفة وراءها فزع الأسماك التي نجحت في الوصول إلى موطنها وتنتظر القتل، وكالبحار الذي غاص شهورا في ظلام البحار ثم أضاءت اللآلئ ظلام روحه عاد مخيبا إلى الشاطئ بعد أن أخذت الرياح والأمواج ما جمعه طوال رحلة الخوف، فقدت أسماك السلمون منبع قوتها بعد أن أفرغت ما في جوفها وأصبح الخواء يطوف بداخلها كسفينة عتيقة مهجورة سرعان ما تتناثر وتغرق. وانتقلت الروح من هذه الأسماك التي جفت حتى قبل أن يصطادها الناس إلى بويضات السلمون الصغيرة، التي تتهادى مع مجرى النهر وهي تشاهد الضياء والأشجار وترى نفسها في مرآة السماء الصافية، ثم تراها وقد تدثرت في أغطية بيضاء من الغيوم لتنزعها وتستبدلها بأغطية سميكة رمادية وسوداء وتنكمش على أصوات الرعود وبعد أن تخلع أغطيتها السميكة تضحك الشمس لفزع البويضات وتطل في المرآة وجوه غريبة يندفع الماء نحوها ولا تتمكن بعض البويضات على الجرف من الإفلات فيحملها الماء مسرعا إلى داخل هذه الوجوه لتستقر في ظلام حار وتحتضر، وقبل أن تموت تسمع بعض هذه الوجوه ينهق وبعضها يخور والآخر يعوي. تهرع البويضات مبتعدة عن الجرف، ومن القاع تبدو لها الوجوه الغريبة مسالمة منهكة ما أن تشرب قليلا حتى تهب مذعورة لعصي تطاردها. تتصادم البويضات في مجرى النهر السريع على الصخور وتتلف فيما يزداد ركض المياه نحوالشلال، وتدور بعض بويضات السلمون في دوائر المياه كذرات الإلكترون مسرعة إلى مركز الدائرة لتصفع بعضها وتغيب ما بين زبد المياه البيضاء فيما تحمل بعضها أرجوحة المياه الحلزونية وتدور بها مرآة السماء السريعة ويحل محل الخوف نعاس يخدر له كيانها لتنقذف من أعلى الشلال ككرات التنس المنطلقة من الآلة. تفيق لدى انفصالها من الماء لتحلق في الهواء بدوران كلاعب الأكروباتيك وتصعد روحها مرفرفة لتنحدر نازلة وتستقر أسفل الشلال وتغوص إلى الأعماق تراقب السماء وقد صعدت مياه الشلال كالسلم لتصل إلى الغيوم، وهناك تزودت الغيوم بالمياه لترحل بعيدا وتسقي الأرض والقلوب.

انتفخت أجسام بويضات السلمون قليلا وزحفت نحوها الهوام، وتكسرت جدران البويضة وهربت روحها لتهمد ما بين فم الأفعى ومياه الشلال قبل أن تصعد سلم المياه الموصل إلى الغيوم، ولكم توسلت أن تعوم إلى هناك، حيث الريح والقمر والنجوم. غربت الشمس واستراح النهر وعندما ابتعدت البويضات سقط سلم المياه ولم يعد هناك ما يربط الأرض بالسماء. وعلى هدهدة التيار الخفيفة غفت البويضات وحملها سرير الماء بعيدا إلى أسفل مجرى النهر وبعد أن هدأ خوفها تساءلت عن أمهاتها اللواتي بقين في أعالي النهر، وحمل الماء النعي بعد أن هرب من أعالي الأنهار التي تحولت إلى مقبرة لأسماك السلمون، والتي عاشت عمرها في البحر وعندما عادت لموطنها أهداها قبرا.

واصلت بيوض السلمون اليتيمة رحلتها نحو البحار وحيدة، ولأيام انبعثت من مجرى النهر رائحة المقابر. ولم تشرب الدواب والمواشي منه وهربت الضفادع ونفقت بعض الأسماك وبكت البويضات أهلها الذين رحلوا قبل أن تراهم وتشممت البويضات رائحة الموت وهي أجنة، ومن بعيد رأت صواري السفن في البحار واقتربت منها ثم أسرعت مبتعدة بعد أن أعادها تيار مالح إلى النهر، تراخى التيار المالح وتكاسل ثم عاد مترنحا نحو أشرعة السفن البيضاء حاملا البويضات بترحاب كرسول يهدي تحيات سيده لضيوفه قبل وصولهم.

وهبت مياه البحار الدافئة الهدوء للبويضات وأصبحت تعوم كما تشاء في مسالك شتى وارتاح بالها من خوف الجريان السريع إلى الأسفل وتصلبت جدرانها بفعل طبقات الملح المترسبة ومن الداخل تضاعف حجمها وأصبح يضغط، وتصدعت بعض جدرانها وتسرب قليل من ماء ملحي كان كالبلسم يضمد جروحها. وكما يضغط الطوفان على السدود توسعت الشقوق يوما بعد آخر وانهارت في النهاية أعطت البويضة روحها إلى سمكة السلمون الصغيرة في مجاهل البحار تماما كما أخذتها من أمهاتها في أعالي الأنهار. تطهرت سمكة السلمون الصغيرة واغتسلت داخل الجدران بمياه البحار الملحية قبل أن تخرج وتبدأ رحلتها، وكالوليد حين يلقى على الطرقات وحيدا ألقت بنفسها في عالم البحر الواسع، ومن القاع لمعت كنوز البحار كصندوق مجوهرات مفتوح، وانبعثت أشعتها بألوان زاهية كألوان قوس قزح. اندفعت أسماك السلمون الصغيرة سابحة إلى القاع علها تحصل على حلية تتزين بها. أوقفها حراس غلاظ على باب المناجم صارخين : ادفعوا القرابين أفواجا قبل دخولكم.

وقبل أن تعود أسماك السلمون الصغيرة هاربة تفتحت أفواه كبيرة جرى الماء نحوها حاملا أفواجا من السلمون الصغير ليخرج الماء ويبقى السلمون في كوة فرن مظلم. انضمت أعداد السلمون الصغيرة إلى جمهرة المتسولين في أجناس مختلفة وانفصلت عن بعضها بأفواج كبيرة ورحلت إلى العديد من البحار والمحيطات النائية وقد تعاهدت على العودة من هجرتها الطويلة في أوان مخاض وضع البيوض، وعلى اللقاء عند حافات البحار لتواصل الصعود إلى أعالي الأنهار مجتمعة. كغمامة من الرماح القصيرة انطلقت أسماك السلمون نحو الجنوب، لقد كانت المياه سوداء وبالكاد تتلمس طريقها وما إن غاصت عميقا حتى أنارت حقول المرجان دروبها وأشعلت لها القواقع قناديل اللؤلؤ وفرشت لها الموائد من كل لون. غمرتها هبات الجنوب المجاني وغفت زمنا مسترخية في هذا الفردوس تتخضب بطلاء المرجان الأحمر وتتزين بعقود اللؤلؤ.

أفاقت أسماك السلمون على هدير عاصف وتطلعت إلى الأعلى، رأت غمامة سوداء كبيرة تسير فوقها. ثم توقف الهدير وهبطت كتل حديدية مصطدمة بالقاع. وكأسراب الجراد انتشرت الفؤوس تضرب كتل المرجان وتطفئها كما يطفأ الجمر، والأصابع تلتقط اللؤلؤ وأظلم القاع وحملت السفن الدفء والنور مبحرة إلى الشمال فيما أخذ الجنوب يرتجف مغرورا.

عبرت أسماك السلمون المذعورة الطريق إلى الغرب، وهبت عليها عواصف الصحاري الرملية ونزعت عنها طلاء المرجان الجميل وألبستها أسماكا بالية تحتمي بها داخل الكهوف. نزلت أسماك السلمون في هذه السجون الصحراوية مددا طويلة نفق الكثير منها قبل أن يحملها إعصار عات إلى الشرق. السماء صافية والهواء رطب قليلا، وقد امتدت حقول الفيروز على أرض البحر واخترقت المياه نحو السماء كأشعة خضراء فاتحة لتطلي مرآة السماء بلونها، وقد رأت أسماك السلمون البحر منعكسا على صفحة السماء واستقلت على ظهرها تراقب ما يجري وتتحسس الخطر قبل وقوعه. ارتدت الأسماك لباس الفيروز الأزرق وحل موسم الأعراس. وعبر مرآة السماء الفيروزية تتبعت الطرائد صياديها وبرغم أن هذا البحر تشكل كمصدره فقد جعله الفيروز كفخ منصوب في العراء. ومرة أخرى عادت الغمامة السوداء تهدر وأصوات المكبرات تضج :

- اقتلوا الفيروز، اقتلوا مخبر السلمون السري.

وتم حرث القاع وانطفأت أشعة الفيروز، وتكسرت مرآة السماء وأصبح البحر لا يرى نفسه، وفقدت الطرائد بصرها ودخلت أفواجا في شباك الصيادين. وانفتح البحر كالفم الجائع يلتهم أسماك السلمون. وحوصرت أعداد كبيرة منها في كمائن على الشواطئ. فقدت السماء ثوبها الفيروزي الزاهي وثارت غاضبه ونفثت من جوفها دخانا أسود كالأعاصير هرب له الصيادون بشباكهم وفاضت دموع البحر حاملة أسماك السلمون إلى بحار الشمال الجليدية، وكأرفف حجزت كتل الثلج مناطق المياه كما كان الحال في كتل الصخور التي اعترضتها سابقا. وفي النهاية أدركت أنها أسيرة، ولم تلبث حتى سيقت إلى معسكرات العمل في الجنوب. وبرغم العمل المضني فقد منح دفء الجنوب السرور لها، ولم يحول فقره وانكساره دون أن يكون مضيافا كما في السابق عندما حلت عنده وهي غضة طرية قادمة من الأنهار. ومن معسكرات العمل تسللت أسماك السلمون جماعات إلى حافات البحار قرب الأنهار، وتحركت البويضات في أحشائها تقودها كالبوصلة إلى موطنها، بدت لها الأنهار كخيط رفيع مشدود، فبرغم اتساع المحيطات قتل منها الآلاف فكيف تنفذ في هذا الممر الضيق. دب الخوف في بعضها ثم زال لدى سماعها آلاف الأفواه تصيح :

- لا بد من السير على خيوط النار هذه للوصول إلى موطن السلمون.

على مسافات قليلة من مصب النهر ارتفعت مداخن المصانع تصبغ الهواء بالسواد وإلى الأسفل منها تلون الماء بمداد داكن الخضرة وما أن نفذ إلى خياشيم فرق الاستطلاع حتى عادت أسماك السلمون أشلاء، نطق بعضها وهويحتضر :

- الكيماوي..

وأدرك السلمون أن لا سبيل إلى اجتياز سد الماء الأخضر المميت، أخذ يبحث عن مسالك بين خطوط الماء ولاحت له خيوط رفيعة زرقاء تشق غطاء الماء السميك وكالسهام مرت أعداد السلمون صاعدة إلى أعلى النهر، ومع اشتداد ضجيج المصانع تعرجت الخيوط الزرقاء وتقطع بعضها حاملا إلى الأسفل أجساد السلمون المسودة.

تكاثر قيء المصانع وأفرغت السوائل طبقات هابطة إلى قاع النهر. رقصت أسماك السلمون برشاقة على تمايل خيوط الماء الزرقاء ونفذت إلى الجانب الآخر ومرت الحياة ما بين أكوام الموت وأخذ الموت أكواما من الحياة.

تمتد المياه الزرقاء كبساط موشى جانباه بخضرة الشواطئ ومرصع بأزهار متنوعة يسيل عطرها ليصب في النهر، واغتسلت أسماك السلمون بماء العطر وهز الريح أغصان الأشجار لتومئ بالتحية، ورسمت السماء أبهى اللوحات في قاع النهر بريشة التركواز، قفزت الأسماك إلى داخل هذه اللوحات وأكملت الصورة. لم يبحث السلمون عن طعامه في القاع، فقد تساقط عليه كما نزلت المن والسلوى. أطعم النهر وكسا ضفافه والجوار ومنها حملت له الهدايا والعطور فقام بإعطائها لأسماك السلمون. أقيمت الحفلات ورقص السلمون ونط بعضه خارج النهر فاحتضنته الأغصان وأعادته إلى الماء :

- يا موطن السلمون الجميل لقد انقضت أيام الغربة في البحار.

- في مياهك يا وطني ولدت وسأصعد إلى أعلى النبع حيث أموت.

واختلطت أصوات السلمون فرحة بلمسات الوطن الساحرة.

استضافت استراحة النهر العذبة هذه مجاميع السلمون وعندما حان رحيلها ودعتها محملة بالهدايا، ومن بعيد رأت أسماك السلمون سلم المياه ينحدر من السماء كأهداب القطن وقد زودته الغيوم بالماء، في هذه المرة ولدى ملامسته لأسفل النهر سال كالحليب، وأصبح ذلك اليوم عيدا لأسماك السلمون على هذه المائدة السماوية.

عجزت مجاميع السلمون أن ترتقي سلم المياه، إذ كان يسمح للراكبين عليه نزولا فقط، وأخذ يضربها ويلقي بها من عل. أخذ نشطاء السلمون يجتازون الشلال بقفزة واحدة وعجز البعض عن مجاراتهم ولم يفقدوا الإصرار، وما أن حل الخريف ويبست سيقان سلم المياه حتى ارتقوه ليلحقوا برفاقهم مخلفين وراءهم هدايا آخر استراحات النهر وعطوره.

في الجانب الآخر بدا النهر كصحراء تعصف بها رياح باردة بعد أن طفت الرمال والحصى على سطحه وبالكاد تغطي مياهه ظهور الأسماك، حلقت بعض الطيور فوق النهر وهي تراقب مسيرة السلمون إلى موطنه، انقضت عليها كالقذائف، وما بين مياه الغيوم ومياه النهر سبحت أسماك السلمون في الفضاء. أثار تجمهر الطيور فوق النهر الناس وتداعوا مسرعين بشباكهم وعصيهم ورماحهم، وحين أحس السلمون بالخطر ارتأى البعض الرجوع إلى أسفل الشلال وصاح الجميع :

- لا تراجع عن السير نحو الوطن.

وعلى طريق الوطن المريع وقعت أعداد هائلة من السلمون تقتيلا، وصبغ دمها مياه النهر ولم تعد الشباك والعصي والرماح ترى فرائسها وفرت الأسماك تملؤها الجراح، وعلى صفحة النهر، وكالمريض على طاولة العمليات، كوت الشمس وأغلقت جراح السلمون، وسارت أشعة الشمس كالشرايين في أجسام الأسماك تسخنها كمرجل ليندفع بخاره ساحبا آلاف السلمون إلى موطنها. أخذت أشعة الشمس تجوس خلال المياه تعرض ما فيها على شاشة القاع، تتتبع القروح وتداويها :

- لماذا حيث توجد الشمس يكثر القتل، أما يستر الظلام جرائم القتلة. ويأتي الرد :

- الشمس مرآة القتلة، تظهرهم عرايا.

ينحني النهر عند تلال المغول كما ينحني الزمن لدى انقضاء حقبه، وتهتز شطآنه تحت أطراف خيول فرسان القدر كالزلزال، أتت الناس كسيرة ذليلة خلاف عادتها لتلقي بنفسها في قاعه متوسلة أن يحتضنها مع أكوام السلاحف والسحالي تأكل من طينه وتتنفس هواءه المذاب وقد انتقلت عصيها وشباكها إلى المغول تضربها وتوثقها. ترك الناس قدرهم بيد النهر فلطالما انتزعوا أضلاعه وساح دمه بعيدا ثم مات في الجفاف بعدها حفروا في جثته وسحبوا مخزون دمه، ثم قطعوه أوصالا حتى فقد مجراه.

مع المغول تداعى جميع ولاة إبليس ولقرون سيتذكر النهر مآثرهم، وأصبح الناس كمخلوقات النهر الضعيفة يشوى بعضها، ويلقى بعضها في أوعية الزيت الساخن وتقطع على مراحل أجزاء من أجسادها، فيما تتفحم صغارها لشدة النار.

أبت جياد المغول أن تتوقف وكلما تعب راكبها رشقته بالدماء، وحين غفا على ظهورها ألقت به وانطلقت تحرث ما حولها، تكسر الأرواح تحت حوافرها وتصهل منتصرة، وانتزعت خوذة المغولي واعتمرت بها وحين أصبح حاسرا دب الخوف في نفسه وتكور على سرجه كسعدان. شهدت أسماك السلمون نهاية جلاديها كأضعف الضحايا. ولم يأكل المغول السمك فقد كانت الخيول هي الصياد. ولما امتلأ النهر بالشرور ولم يعد يتحمل ثقلها فار من الغضب ونفض قاعه وتداعت هراوات الماء لتضرب قوائم الخيول وهي تصيح :

- اقطعوا حوافر الخيول فهي أمضى من سيوف المغول.

وشبت أعمدة المياه لتعلوهامات الخيول وتصرعها، وحين فقد المغولي فرسه وخوذته طوته الخطوب كظلال الأجداد المنسيين، ولم يتبق منهم سوى بضع خوذ يجمعها الصبية كما يجمع المحار. خرج الناس من قاع النهر كخروج قوم نوح من سفينتهم فرحين بالنجاة، تملأهم الوحدة. عاد النهر إلى مجراه بعد أن غمر غضبه أراضي واسعة، اختبأ تحتها العشب، بعدها خرج يقتات على أشعة الشمس، لا يعبأ بركل الناس فوق هاماته وشب طويلا يتثنى لدى مرور الرياح وعادت الأرض بكرا.

سارت أسماك السلمون صاعدة إلى موطنها والهلع يعتريها فمن بين كل صعاب الموت التي رافقت خطاها لم ترتعد خائفة كهذه المرة برغم كون الضحية سواها ولم يغن عقلها عن أن تصاب بأبشع الأضرار فقد تكسرت العقول متصادمة ونودي بالجهل سلطانا.

احتجزت المياه عند أعالي النهر كما يحبس الهواء عن الإنسان وضغطت أنشوطة الكونكريت على عنق النهر وانتفض جسمه وحين أوشك أن ينهار فتحت بواباتها فنزل كالصاعقة يرتعد واختلط صخبه مع زعيق التوربينات وهي تدور لتزرع حولها مصابيح بدت لأسماك السلمون دميمة تسكب ضياءها كالقيح حاجبة لمعان النجوم الباهر.

وقفت المصابيح كالخفراء أمام الحصون تمنع المارة من الدخول واصطف مقاتلوالحصون بآلات الحديد الرهيبة خارجه يحمونه، خلافا لما اعتادت الحصون على حماية من بداخلها.

فتشت أسماك السلمون عن منافذ عبر هذا الحصن المنيع لتمر بسلام فوجدته مغلقا بأحكام بسلسلة من الدفاعات المتينة، قلاع من مسنات الكونكريت، ريش من صفائح الحديد تدور بسرعة عالية تسد مجرى النهر، وأطنان الماء تهوي من عل تحرك المولدات التي عجزت كل محركات الصناعات الثقيلة عن تحريكها. عندما أيقنت أسماك السلمون أن لا منفذ لحصن الشيطان هذا.. آخر الحصون إلى الوطن، اختارت القتال. هجمت أولى الدفعات وهي تحمل في أحشائها بيوض السلمون، وما أن اقتربت من ريش التوربينات حتى شفطها الماء والهواء ليمررها عبر نتوءات الحديد ويرميها إلى الجانب الآخر أجزاء صغيرة متقطعة، صاحت بهم سمكة عجوز :

- ادخلوا في ثقوب محاور الحديد.

حشرت الأسماك الصغيرة منها بعض قطع من أجسادها بين محاور الحديد ونقاط ارتكاز التوربينات عليها وخرج سائل الأسماك اللزج مندفعا كالزيت على طول المحاور وفقد الاحتكاك زخمه ما بين حلقات ريش التوربينات الجالسة ومحاورها. افتل تماسكها لتئن المولدات وتتوقف فيما بقيت ريش التوربينات تدور في الهواء كالطواحين.

توقف قيح المصابيح القبيح وازداد لمعان النجوم بهاء. هرع مشغلو المحطة الكهرومائية ووجدوا كل شيء سليما، كالجمل القاعد ويأبى أن يثور، ضربوا بآلاتهم عبثا. فككوا المحاور ليجدوا أرواح الأسماك ملتصقة بها تمنعها من الدوران، طردوها بتعاويذ التيزاب.

نصبت المصدات والمصائد للأسماك كيلا تقترب، واشتد المخاض في بطونها وانتقل سعيره إلى رءوسها وصاحت بالنهر :

- إن فقدتنا يا موطن السلمون أضعت كنوزك، ففي أحشائنا تتحرك كرات الذهب التي سنلقيها في صندوقك، نعيش القتل والتشريد كي نهبك ونعطيك، افتح لنا طريقك الصعب فقد قبلنا المسيرة.

سمع النهر نداءها وهبت الغيالم ككاسحات الألغام تعبدالدروب. انطلقت أسماك السلمون تقدم القرابين لتوقف المحطة مرة أخرى. دامت المعركة زمنا وازدادت الخسائر في كل جانب. وتحت إصرار السلمون للوصول إلى موطنها وضراوتها فتحت لها ممرات جانبية تحاذي المحطات الكهرومائية العملاقة.. وهكذا انهارت آخر القلاع للوصول إلى الوطن. وصلت طلائع السلمون إلى أعالي النهر ووجدته مختلطا بالطين، فقيرا. وهناك تساقطت من بطونها الحبيبات الغالية. قالت فتاة السلمون وهي تلد :

- أيستحق هذا المكان البائس كل هذا العناء. أجابتها سمكة عجوز :- "إن بلغت "أعالي النهر" ووجدتيه فقيرا، مخيبا فلا تبتئسي فلقد أعطاك الرحلة".

 

حميد الأمين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات