قراءة نقدية في كتاب الموقف من الحداثة مختار أبوغالي

قراءة نقدية في كتاب الموقف من الحداثة

للدكتور عبدالله الغذامي

بدأ الدكتور عبدالله الغذامي نشاطه الفكري بزلزال عنيف، هو كتابة "الخطيئة والتكفير"، ونحن نعتبر كتاب اليوم "الموقف من الحداثة ومسائل أخرى" من توابعه بهذا المنظور، ولكن مبحث "الموقف من الحداثة" من بين مباحث الكتاب يرتفع بدرجة التابع، لأن له هو الآخر توابعه من ردود الفعل ومحاولات الإجابة عنها، فكأنه زلزال داخل الزلزال، ولعل هذا المدخل يصلح تشبيها تمثيليا كما تقول بلاغتنا العربية القديمة للرؤية كما نراها في الإبداع النقدي للدكتور الغذامي.

في المقالة الأولى من كتابه الجديد الذي هو مجموعة من المقالات والبحوث يجمعها أنها رؤية نقدية حديثة، يحاول المؤلف رسم خارطة للثقافة التي تسود المملكة في الوقت الحاضر، ونجد في الأمر صعوبة لذلك، ففي المملكة من هو عمودي، ومن هو حداثي، وفيها الألسني، كما أن فيها الانطباعي، ولا بأس في هذا الاختلاف لأنه ضرورة وجود، ولكن البأس كل البأس في أن هذه الملامح الأربعة البارزة على الساحة تفقد العنصر المهم لضرورة البقاء وهو التعايش، فبعض العموديين يبذلون قصاراهم في تصفية من عداهم، ويرمون بعض الحداثيين بالتنكر للتراث، وهي تهمة واردة في حق البعض، ولا يمكن التسليم لهم بها على إطلاقها، فكثير من شعراء الحداثة بريئون منها.

وبما أن الدكتور الغذامي محسوب على الألسنية التي دخلت المملكة أخيرا فهو يمتدحها وعنها يصدر، حيث تتميز بمنهجية التفكير والانفتاح على الآخرين، ولكن أتباعها قلة مقابل الكثرة السائدة من الانطباعيين الذين تحفظ المؤلف عليهم، لأنهم لا يصدرون عن أسس علمية، ولا منهجية في ممارستهم، ويتكئون على مقولات فكرية اجتماعية، مما يدخل صنيعهم في مظلة (علم المضمون)، وفوق كل هذا تضيق صدورهم بالرأي الآخر، مع أن الحوار الخلاق فعالية ثقافية دونها تصاب الحركة بالعفن.

ضد معارضي التجديد

أما الموقف من الحداثة فهو المبحث الرئيسي في الكتاب، وهو متابعة لموقف معارضي التجديد، أساسه محاضرة ألقيت في الطائف ونشرت في جريدة الجزيرة ومجلة الشعر التونسية، وتناول حقيقة المعارضة من ثلاثة جوانب :

1 - الموقف النقدي : حيث لم يتحقق لأي معارض وجود نظرية أدبية ذات أسس علمية موثقة بالعلم، ومعارضة التجديد معارضة لناموس الحياة، فيقع المعارضون في مغالطات مضحكة، وله شواهد في أدبنا القديم كالذي حكاه الطوسي الذي قرأ أرجوزة لأبي تمام على ابن الأعرابي، فطلب منه أن يكتبها له لأنها في رأيه أحسن ما سمع فلما أخبره أنها لأبي تمام قال : خرق خرق، ومثل ذلك تناقض الأصمعي مع نفسه عن بيتين أنشدهما إياه إسحق الموصلي فقال الأصمعي عنهما : "هذا والله هوالديباج الخسرواني" وحين قال الموصلي : "إنهما لليلتهما" قال الأصمعي : "أفسدتهما"، وكذلك كان موقف العقاد من قصيدة للسياب قال عنها : "هذا ما كنا نبغي"، ولما قال له الرواس إنها للسياب ازور عنه العقاد وقال له : قاتلك الله.

ويرى المؤلف أن معارضي التجديد فئتان : فئة طيبة القلب يخافون على اللغة، وفئة مغرورة تظن أن التمسك بالقديم هو العلم، وأن المجددين جاهلون وعاجزون، وحججهم داحضة، حتى لو سلمنا بتعريف قدامة من أن الشعر "هو قول موزون مقفى" على ظلمه وتمحله، فالشعر الحر يعتمد التفعيلة الخليلية ويلتزم بها، وإلا فإنه شعر منثور، أوما يعرف بقصيدة النثر، مع أن بعض العلماء القدامى ردوا تعريف قدامة الشعر، كابن خلدون والفارابي .

ثم تعرض المؤلف لبعض صور التحرر في الشعر العربي القديم من تعدد الأوزان في القصيدة الواحدة، وأوزان على غير أوزان الخليل، وعدم الالتزام بعدد التفعيلات، ومجيء شعر على تفعيلة واحدة، وأكثر من هذا ورود قصيدة حرة لعروة بن الورد، بل هناك ما ليس مطردا على نهج كقصيدة لأمية بن أبي الصلت، كما أن الوزن قد يأتي مصادفة في قطع نثرية لا يقصد أصحابها أن تكون شعرا، فالوزن سمة للشعر، وهو عرض لا جوهر.

ومن أغاليط المناوئين للحداثة قولهم إن الشعر الحر من صنائع الاستعمار، فما بالنا بشوقي وحافظ ومطران والعقاد والأخطل الصغير والرصافي والشابي وشعراء المهجر، وهم من بلاد حكمها الاستعمار؟ بل إن حركة الشعر الحر تزامنت مع فترة التحرر والاستقلال، فالتنكر للشعر الحر بشبهة الاستعمار رد فعل عاطفي ساذج.

2 - الجانب الثاني.. هو قصور المعرفة لدى مناوئي التجديد، وقد أشار الصولي في كتابه عن أبي تمام لهذا المرض، وحدد له سببين هما : عدم القدرة على فهم الجديد، واستجلاب الشهرة عن طريق معاداة الرواد، ومن مظاهر القصور ما نراه من خلط بين الشعر الحر والمرسل والمنثور وقصيدة النثر، فالقصة حضارية في مجملها، ترتبط بجمود الذهن ونقص الإطلاع والانفتاح على المعارف الحديثة، والأخذ من غيرنا سمة حضارية أدركها أسلافنا فأخذوا من الهند والفرس والإغريق والسريان، وقد فعل رواد النهضة الحديثة الشيء نفسه، وفتح كل منهم بابا على الآداب الأوربية يحسب من فضائله.

3 - عدم فهم المناوئين لوظيفة الشعر، فيشترطون أن تكون اللغة مطابقة للمواصفات المتعارف عليها، وهو شيء ضد الإبداع على نهج متميز عن التراكيب الجاهزة والقوالب المعدة سلفا، فالشعر (صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير) كما أدركه الجاحظ، والشاعر هومن يبتكر نهجه في استخدام جديد للغة يمثل اكتشافه لصور الحياة مع فهم لأصول اللعبة من ثقافة ورحيق خاص وإعادة صياغة.

ثم انتقل المؤلف للنظر في اللغة الشاعرية من زاويتين، الأولى من تعامل الشاعر مع اللغة، وهو لا يمكن أن يكون إملائيا، لأن للغة سلطانها المهيمن على الشاعر، والثانية هي زاوية تتعلق بفلسفة النقد ومفهومه حيث يجب أن تكون النظرة كلية لا جزئية، فلغة الشعر لا تتفتت إلى أجزاء، فيستحيل النظر الجزئي إلى اللغة ومحاسبة الشاعر على المفردة اللغوية، حيث التلاحم كامل بين الرمز والمرموز إليه في الشعر.

النقد الأدبي والعلم

في المنعطف النقدي : بين علم الأدب وعلم المضمون : راجع المؤلف صورة النقد الأدبي السائد في الوسط الثقافي، فتوقف مع النقد على منعطف معرفي، وتساءل : هل النقد الأدبي علم أو ليس بعلم؟ وأشار إلى أن أبرز اتجاه جرى في دراسات الأدب هو الاتجاه البلاغي، حيث كانت البلاغة نقدا حقيقيا يسعى إلى استنباط جماليات النص، ثم تحولت البلاغة مع الزمن إلى قوالب مقننة تفرض على النص، وجاء النقد الحديث وتخلى عن البلاغة وأبدع في اتجاهات متعددة: كالاتجاهات النفسية، والاجتماعية، والتاريخية، ومحاولات أخرى، اتجهت جميعها لأي شيء إلا النص، فلم يستطع النقد بمدارسه المذكورة أن يسد العيب البلاغي، فحاول آخرون أن يحلوا محله الأسلوبية التي نصل بها إلى النص وليس غيره، حتى جاء ما سمي بالنقد الحديث (ريتشاردز وإليوت)، فكانت النظرة إلى العمل الأدبي على أنه عمل مغلق لا يستعان عليه بأي شيء خارجه، وهو تطرف آخر في مقابل التطرف السابق، وانتهى المؤلف بنظرته على أساس أن هناك مؤلفا، وعملا، ومعهما القارئ، وهذا هو مدخله إلى مشكلات النقد والبحث عن بديل يجعل من التناول القرائي للنص علما منضبطا. ويأخذ من التراث أركان نظريته، فالركن الأول أخذه من آية الشعراء في عنصريها في كل واد يهيمون، و وأنهم يقولون ما لا يفعلون، والنتائج التي خرج بها من هذا الركن تستأهل وقفة، ولنا معها حديث في نهاية هذا العرض، والركن الثاني أخذه من الحديث الشريف "إن من البيان لسحرا" مستخرجا منه ثنائية : الغياب / الحضور، ثم انطلق إلى التراث في تفريق الجاحظ بين المعنى والصياغة، وتفريق المعري بين الشعر والحكمة، وبروز الرؤية بوضوح دقيق عند حازم القرطاجني الذي فرق بين الشعر والخطابة في كتابه المنهاج، حيث لا يشترط الصدق في الشعر بل التأثير، وفي العصر الحديث حلت الحركة الرومانسية مكان الكلاسيكية فربطت بين الشكل والمضمون، وبعرض فكرتها على رؤية ابن سينا نجدها لا تصمد، حيث اللفظ إشارة حرة تبحث دائما عن معنى جديد، وطبق المؤلف هذه الرؤية على الأبيات الثلاثة الأولى من قصيدة كعب بن زهير : "بانت سعاد..".

أسلوبية عربية

وعن الأسلوبية كنظرية عربية نظر إلى حركة الكلمة من محورية ثلاثية يدور حولها النص اللغوي : حركة من الإنسان للغة، وحركة من اللغة على اللغة، وحركة انعكاسية من اللغة إلى الإنسان، ونجد في تراثنا مثلا رباعية الغزالي التي طبقها على بيت بشار :

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

ثم انتقل إلى علاقة مهمة هي العلاقة بين الكتابة والقراءة، فأبرز دور القارئ في اكتشاف النص، فالكتابة إيضاح لوجود عائم في النفس وكشف ثقافي وحضاري، والقراءة تفسير داخلي في ذهن القارئ فالقراءة كالكتابة في كل منهما بيات وكشف للمحجوب، وعليه فإن النص يتجدد مع كل قراءة، وينتج عن ذلك ثلاثية: النص / الكاتب / القارئ.

وينتهي من هذا المبحث إلى أن النص يوحي أكثر مما يخبر، والشأن للإيحاء، وعليه فالنص يدور حول قطبين : قطب الصوت ويشمل كل جماليات اللغة وبلاغاتها، وقطب المعنى، يعيشان ويتحاوران داخل النص، وهما متكافئان وإن كانا متناقضين، ويسعيان بما هما دال ومدلول لتكوين دلالة أولية أو صريحة، ومعها دلالة خفية أو ضمنية والأخيرة هي الهدف من النص، وهذا يؤدي إلى أن النقد الأدبي يقسم الدرس إلى علمين، هما: علم الأدب ويتعلق بجماليات اللغة وأساليبها ودلالاتها الضمنية، وعلم المضمون الذي يتناول الدلالة الصريحة بجوانبها التاريخية والاجتماعية والنفسية، ولا يعني هذا أننا نعزل النص عن صاحبه أو عصره، بل يعني بناء علاقات النص الأولى بسياقه الأكبر، وبهذا تكون له اليد الطولي، وبه أيضا نحميه من الوقوع تحت سنابك علم المضمون.

بعد هذا المبحث الذي ألقاه المؤلف في محاضرة بدعوة من النادي الأدبي وألقيت في الطائف، حظيت المحاضرة بتعقيبات من الأدباء، جاءت مقالات ثلاث ردا على مقالات الأديبين: محيي الدين محسب، وعالي القرشي، أولها بعنوان : موت المؤلف.. تحدث في أولها عن الحوار المطلوب، ثم مسألة العلاقة بين النص ومنشئه، وهي التي قيل إن المحاضرة لم تأت لها بإيضاح كاف، فأكد من جديد على أن هدف النص انفعال جمالي سماه اصطلاحا بالشاعرية، استند في بيانه لهذا الهدف إلى نظرية تشومسكي عن الاكتساب الفطري للغة وهي التي تؤسس القدرة على تمثل الإبداع، كما أن نوعية الاكتساب تحدد الجنس الأدبي شعرا أو قصة، ومن هنا تأتي علاقات المؤلف بالنص، بحيث يلتقط لا شعوريا أجمل سياقات اللغة، فيحولها من حدس جمالي إلى كلمات شاعرة، يتحول الحدث إلى لغة، ثم يفترق النص عن المؤلف، وتصبح نية المؤلف قيمة ثانوية، ومن هنا نعلن موت المؤلف، وموته لا يعني إلغاءه بل يعني انتهاء وظيفته، ويصبح النص شاردة أي إشارة حرة.

ويستدرك الدكتور الغذامي على وظيفة المؤلف التي تحتفظ بجانب جمالي مهم في استقامة تفسير النص، فيتحدث عن الحركة الأولية من المبدع إلى اللغة وهي وجود، فالحركة المستقبلية نحو السياق الأدبي وهي هوية ومصير، وإتقان السياق الأدبي مهم للمبدع والقارئ معا، ويفرق بين السياق الأكبر وهو الجنس الأدبي، والسياق الأصغر وهو إنتاج الأديب، والفهم الصحيح للنص يتوقف على معرفة هذين السياقين، مما يقود إلى التمييز بين الإيحاء والإسقاط، فالإيحاء دلالة حرة للإشارة بناء على ما تؤسسه سائر الإشارات في النص، أما الإسقاط فهو معنى يجلبه القارئ من الخارج بدعوى توافقه مع ما في ذهنه، وعدم التفرقة بين المصطلحين أحدث لدى الكثيرين بلبلة واسعة.

الدلالة والدور الجمالي للغة

المقالة الثانية عن مسألة الدلالة في النص الأدبي، وهي رد على ما جاء عند عالي القرشي الذي أنكر على الغذامي وجود علم مضمون، فكرر من جديد أن تحول القول إلى بيان يجعل الرسالة اللغوية تنحرف عن وظيفتها النفعية لتصبح اللغة هدف نفسها، وبذا تنحسر الوظيفة الأولى وتتراجع للخلف ليبرز الدور الجمالي في الدلالة الضمنية التي تتحرك في مستويين: عمودي يأتي من الاختيار بين البدائل، وأفقي يتحرك مع عناصر التأليف لخلق سياق جديد، والدكتور الغذامي في سياق توضيحه للدلالة الضمنية اضطر أن يكرر التفرقة بين الإسقاط والإيحاء، وأشار في نهاية المقال إلى أنواع المعاني السبعة التي توصل إليها (ليتسن) وواحد منها فقط يمثل الدلالة الصريحة، بينما الستة الأخرى تمثل الدلالة الضمنية، وهي من المباحث التي سبق له مناقشتها في كتابة "الخطيئة والتكفير".

وركز المقال الثالث على العلاقة بين القارئ والنص.. فبعد أن أشار إلى حركتي التجلي للنص في الاختيار والتأليف، وأن الإبداع يكمن في التأليف لا في الاختيار، ومن هنا تأتي أهمية القراءة، إذ النص وجود عائم يتحول إلى حضور في تناول القارئ في تفسيره للإشارات، عرض لأنماط القراءة لدى "تودوروف" : قراءة الشرح، قراءة الإسقاط، قراءة شاعرية، وكان قد سبق له عرضها في المقالة الأولى، ومن قبل ذلك في كتابه "الخطيئة والتكفير"، وعن القراءة كتذوق أو علم، بين أن القراءة الأدبية تذوقية انطباعية بالدرجة الأولى، ويأتي دور المنهج النقدي ليسبر أسرار هذا الجمال باستخدام وسائله المكتسبة في تحليل ما تم إدراكه ذوقيا، وهي العملية التي سماها البنيوي الأمريكي "بيتيت" بالتوازن الانعكاسي، واستحضار المدلول المطلق الغائب عملية يتفاوت فيها قارئ عن آخر حسب قدرات الكل، وفي آخر المقال استدرك على ما فاته في المقال الأول وهو يتحدث عن السياقين الأكبر والأصغر، ففي النص اليتيم (مجهول المؤلف) جهالة للسياق الأصغر الذي هو جماع إنتاج المؤلف، وهذا يؤثر بطبيعة الحال في تفسيرنا للإشارات حيث لا نقوى على ربطها بنتاج مؤلف بعينه.

النقد الألسني

ونجد بعد ذلك ست مقالات في الرد على بعض دعاوى الأستاذ محمود أمين العالم في كتابه "ثلاثية الرفض والهزيمة"، والمقالات توضح أبعاد النقد الألسني وما يقابله من مناهج ولا سيما الاجتماعي، يرد على العالم في المقالة الأولى عن اتهامه للبنيوية بأنها تغفل الدلالة وتركز على الشكل فقط، والسبب في هذا الاتهام هو خلط الأستاذ العالم بين البنيوية والشكلية فيما سماه بالهيكلية، وفي رد الدكتور عبدالله الغذامي أعاد بعض فقرات من كتابه "الخطيئة والتكفير" عن موقف "رولان بارت من قضية الدلالة الصريحة والضمنية، ومفهوم السياق عند "ياكوبسون" ودلالات الأشياء في المعالجة البنيوية للقضايا المعتمدة على "النوى" الأساسية لدى "ليفي شتراوس".

أما المقالة الثانية فيرد فيها على زعم الأستاذ العالم أن فكرة النموذج الواحد فكرة بنيوية، وهذا خلط أيضا بين البنيوية والأسلوبية الوصفية، والأخيرة وقع فيها بعض الأسلوبين الذين اعتمدوا على الرصد الإحصائي لكل أبنية النص، ومنهم "ياكوبسون"، وأعاد الدكتور الغذامي بعض توضيحاته في هذا الصدد من كتابه "الخطيئة والتكفير" وبين أن أفضل الحلول ما ذكره "بيتيت" في مبدأ التوازن الانعكاسي، وأخذ به كل من "ليفي شتراوس" و"رولان بارت"، وهما اللذان نص عليهما الأستاذ العالم.

يرد الدكتور الغذامي في المقالة الثانية على التباس المفاهيم عند الأستاذ العالم، وذلك في نقطتين : الأولى في تفرقة العالم بين علم الأدب والنقد، عاكسا تهمة الخلط على الاتجاه الألسني، ورد على هذا بذكر المجالات الثلاثة للشاعرية "البيوطيقا" عند "تودوروف"، وما سماه "رولان بارت" بالمحتمل النقدي الذي يتمحور حول العلاقة في النص الأدبي، والنقطة الثانية في لوم الأستاذ العالم النقد الألسني الذي يقتصر في دراسة النص على النص كمعطي في ذاته ساكن ثابت معزول متعال، وهو في هذا يخلط بين الألسنية وما يسمى بالنقد الحديث وأبرز نقاده "ريتشاردز" الذي أخذ بمفهوم النص المغلق، وقد سخر رواد الألسنية من هذا الاتجاه كما جاء في مقالة "رولان بارت" عام 1971 والتي لخص أفكارها "فنسنت ليتسن"، فالعالم إذن يتهم الألسنية بما ليس فيها.

المقالة الرابعة ملاحظات على ممارسات الأستاذ العالم النظرية، حيث حدد الأستاذ العالم ثلاثة مفاهيم نقدية تتطابق مع المفهوم الألسني، ومع ذلك لا يجد الدكتور الغذامي أي أثر لهذه المقولات في النقد التطبيقي لروايات صنع الله إبراهيم التي عرض لها الأستاذ العالم في كتابه، حيث جاءت ممارساته إسقاطات مفروضة غير متوافقة مع التنظير، وهذا ينقلنا إلى المقالة الخامسة التي هي ملاحظات على الممارسات للتطبيق للعالم، فعرض وقفات مع الناقد مليئة بالمفارقات، حيث حدد في البدايات عشر أبنية يطرب لها أي ألسني، ولكن نقده التطبيقي على الروايات الثلاث كان انطباعيا، فأخذ الأحداث مأخذا جزئيا دون أن يحاول بناءها بناء كليا ليقيم لها دلالة روائية شاملة، ويواصل الدكتور الغذامي في المقالة السادسة ملاحظاته على تطبيق الأستاذ العالم في جوانب أخرى،حيث يتعامل مع رواية "اللجنة" مثلما يتعامل مع مقالة صحفية تسعى إلى ضبط المعلومات ورصد البيانات، وحين اعتبرها امتدادا زمنيا ومكانيا وموضوعيا وقيميا لأغلب العناصر والمواقف الداخلية والتعبيرية لبنية الروايتين الآخريين وهما : "تلك الرائحة"، و"نجمة أغسطس"، مما يذكر بالوحدات الثلاث في النقد الكلاسيكي للمسرح، وفي النهاية يرى في كتاب الأستاذ العالم محاولة نقدية تطمس القيمة الإبداعية للنص، وتطمس معها الأنا المبدع والأنا الناقد في الوقت نفسه.

أزمة الإبداع

يختتم المؤلف كتابه بمقالة هي رد عن سؤال وجهته إليه مجلة "الشرق" هو: هل هناك أزمة إبداعية / ثقافية؟ وهو سؤال طرح الإشكالية سافرة أمام الحوار، وأقر الدكتور الغذامي أن هناك أزمة في الإبداع الثقافي بمعنى فلسفة المرحلة، وأن ثقافتنا اعتباطية ذات شكل تراكمي، ولكن في جانب الإبداع الثقافي نشهد تحققا إبداعيا متميزا لا سيما في الشعر، وأقام تصوره من المقارنة بين شوقي كممثل للثلاثين الأولي من هذا القرن، بما قدم من إضافات للموروث، ومحمود درويش كممثل للثلاثين الأخيرة من القرن، والمقارنة بين الشاعرين تجعل من شوقي شاعرا موغلا في القدم في قياسه بالأخير، فليس هناك أزمة في الإبداع، ولكنها في الفلسفة وفي النقد، باعتبار النقد فلسفة، حيث اعتبر النقاد أنفسهم وسطاء بين المبدع والقارئ، وهي لعبة سادت نقاد الخمسينات، ولا يزال في الساحة من يمارسها، وهذا انحراف بالنقد من مستواه الفلسفي إلى المستوى التعليمي المتعالي المتغطرس نفر منه القارئ وازدراه، ولن ينتشل النقد من أزمته إلا الأخذ بمفهوم تداخل النصوص، وسنرى مستقبلا شواهد على هذا المفهوم السليم في إنتاج الدكتور عبدالله الغذامي.

أما بعد...

فلنا مع الدكتور عبدالله الغذامي وقفة نراجع فيها معه ما يمكن أن يتلجلج في الصدور من قرائه ومحبيه، لأننا نغار على كل مبدع أصيل، فلا نحب أن نترك فرصة لهؤلاء الذين لا يقرأون إلا لكي يبحثوا عن المثالب، ولا يعنيهم إلا هذا التسقط الرذيل، من أجل ذلك نقول :

أولا.. كنا نود ألا تتكرر بعض المباحث التي سبق للناقد رصدها في مؤلفات سابقة، فهذا وإن كان مفيدا في الإلحاح على رءوس جديدة غير مألوفة للقارئ، فسيجد المتصيدون في التكرار ضآلتهم، لا سيما الذين يرتدون المسحة الأكاديمية، نتمنى أن يكون كل مؤلف عالما وحده، يتبنى مسائله الثقافية ومسائله الأكاديمية، فيحيط بها ويجلي جوانبها، ويقول فيها كلمته، ويتحرر من إعادة ما نشر في مؤلفات سابقة، إلا ما كان إشارة مقتضبة أو إحالة، فهو في هذا الكتاب مثلا، خلال المبحث الرئيسي فيه، وهو "الموقف من الحداثة"، أشار وهو يتحدث عن مجالات التحرر ص 30، إلى أن هذا المبحث نشر في كتاب "الصوت القديم الجديد".

ثانيا.. من الاستثناء في آيات الشعراء .. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فرع الدكتور عبدالله الغذامي منهاجا من التناول المنطقي يحتم الأخذ بأدبين : الأدب الخالص وهو الهيام في كل واد، والأدب الأخلاقي الوارد في المستثنى، وهذا طيب في حد ذاته، ففي كل أدب تراث أخلاقي يعرفه الدارسون، ولكننا نتوقف عند تحديد مفهوم الأدب الأخلاقي، فقد جعل من نماذجه "أدب العالم الذي كتبت فيه العلوم عند العرب كألفية ابن مالك" - ص 62. ونرى أن هذا الضرب من التأليف غير داخل في الأدب لا من قريب ولا من بعيد، فالألفية منظومة القواعد النحوية والصرفية اكتست الجانب الموسيقي ليسهل حفظها على الناشئة، فإذا ندت عن أحدهم القاعدة تذكروا فإذا هم مبصرون، ومثلها ألفية ابن معطي في الفقه الإسلامي، ولو كان في الذاكرة مسكة فإن ابن مالك من علماء الفقه، وآثر التأليف في النحو والصرف ليبرهن على براعته في هذا العلم، والعكس بالعكس مع ابن معطي، وشراح ألفية ابن مالك جميعهم من علماء النحو، ولا نعرف أحدا من المشتغلين في حقول الدراسات الأدبية تناولها بالدراسة على أنها من الأدب حتى ولو كان الأدب الأخلاقي.

 

مختار أبوغالي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات