قصص عالمية مترجمة

قصص عالمية مترجمة

المفقود
للأديب النرويجى: أرنولف أوفرلاند (1889 - 1968)
ترجمة : سميرة أحمد السليمان

السيدة هيمبل تقف في المطبخ حينما دق الباب. لم تكن قد ارتدت ملابسها كما ينبغي حتى الآن، لكن "إتى" قد غادرت، لذلك ينبغي عليها فتح الباب بنفسها. كان يقف في الخارج رجل بقبعة لها جزء أمامي متحرك يغطي الوجه ومعطف رمادي فضفاض. كان يحمل كيسا تحت ذراعه. لم يقل شيئا، فقط وقف ونظر إليها، يصفي حنجرته، لكنه لم يقل شيئا.

كانت ستغلق الباب مرة أخرى. لم يكن لديها شيء لإعطائه. بالمناسبة، هي لا تحب هؤلاء الذين يأتون ويطرقون على الأبواب - وبالذات عندما تكون وحيدة في المنزل.

حينما اقترب نحوها وأمسك الباب.

- ليزا! قال هو.

هل يعرفها؟ السيدة هيمبل حدقت في ذلك الوجه الرث المحروق من الجو، هذا الوجه يشبه شيئا قد حلمت به. والصوت أيضا.. ثم صرخت. تركت مقبض الباب، نحو الخلف، تلمست طريقها خلال الممر ثم داخل الصالة وأجلست نفسها.

الرجل أتى خلفها.

- إنه أنا! قال هو.

- ما زلت على قيد الحياة؟ همست هي. الفزع يملؤها تماما حتى الحنجرة.

- نعم. قال هو

- ونحن الذين اعتقدنا أنك ميت!

- لا لا، لقد أخذت كسجين.

- كنت ضمن قائمة المفقودين. ولم نسمع منك المزيد. ولا كلمة واحدة. لماذا لم تكتب؟

- هناك، لم يكن بريد. لقد حاولنا بعض المرات إرسال مكاتيب، وقالوا إنهم سوف يرسلونها، لكن.. بعدها لم يكن لدينا أوراق.

- هل كنت في روسيا؟

- نعم في سيبيريا.

- طوال الوقت؟ كانت سنة 1915 حين اختفيت؟

- نعم.

- والآن نحن في سنة 1930، (5ا) سنة!

- نعم.

- ولكن لماذا لم تأت قبلها؟ الحرب انتهت سنة 1918!

- في 1918؟، لا. كنا في مخيم المسجونين في كراسنويارسك لمدة ثلاث سنوات، ثم أتى إلى منطقة كولتسياك. وحاربنا بجانبه ضد البوليسفيك. ثم أصبحنا مسجونين من جديد. كان هذا سنة 1919. حينها كنا نقوم بأعمال الطرق معظم الأوقات، وأعمال البلد.

- إذن لم تكونوا في مخيم المسجونين طوال الوقت؟

- لا، السنوات الأخيرة كنا فيها أحرارا.

- ألم يكن باستطاعتكم حينها القدوم إلى الوطن مرة أخرى؟

- نذهب حول العالم؟ لا.

نظرت إليه. إنه زوجها الذي عاد. رجل رمادي، نصف عجوز، يشبه أب جورج. ذات مرة تزوجت منه الأفضل أن تقول إنها كانت في الواقع متزوجة منه.. تنظر إليه. لم تعد خائفة. هذا الرجل الفقير العجوز لا تخافه. لكنها لا تعلم ماذا سوف تصنع معه.. يقف هناك أمامها والكيس تحت ذراعه حتى الآن، لكن لا تستطيع أن تطلب منه الجلوس، لأنه وبطريقة ما كان في منزله. خرج بعضهم في ممر الدرج الخارجي. لقد نسيت إغلاق الباب خلفها. كانت ضعيفة قليلا في ركبتيها حتى الآن، ذلك ما تدركه.

- ألن تضع الكيس؟ قالت هي.

- بلى. ذهب هو نحو الباب ووضعه هناك. هناك كان كرسي أيضا. أجلس نفسه هناك. قبعته ألقاها فوق الكيس. كان على الأصح متعبا، قد مشى على قدميه من "باهنوف".

- هل تناولت الفطور؟ هل ترغب في أن أقوم بإعداد بعض الطعام لك؟ سألت هي.

- نعم شكرا.

خرجت ووضعت إناء القهوة.

بعد برهة دخلت مرة أخرى مرتدية معطفا وقبعة.

- نعم، الآن كل شيء جاهز لك. سوف أذهب الآن، أنا. أنا سأرجع على الغداء.

- هل ستذهبين؟

- نعم، يجب علي الذهاب إلى المتجر.

- المتجر؟

- نعم؟ - المعمل؟

- أوه نعم نعم! هل لديك ذلك حتى الآن؟

- نعم نعم!

- هل تستطيعين أن تديريه إذن؟

- نعم، هذا أستطيعه، ما الذي كنا سنفعله أو نعيش منه؟

- لا. لكن هل استطعت تعلم شيء؟

- نعم، استطعت ذلك. كذلك لدى "نولتا". نعم، "نولتا" هو صانع ساعات أيضا. وأنا أقف في المحل.

- مفهوم، نعم.

- نعم، الآن يجب علي الذهاب. يا إلهي، الساعة الآن بعد التاسعة! إلى اللقاء إذن.

ذهب إلى المطبخ وأكل. ثم ذهب مرة أخرى إلى الصالة. وهكذا يجلس هنا في المنزل. في المنزل مرة أخرى. غريب هذا الشعور. لكنه لم يكن قد فكر فيه هكذا. الصالة كانت كما هي تقريبا، وبطريقة ما - الأريكة القديمة والطاولة القديمة والكراسي القديمة كانت هناك. ما عدا بوفيه خشب البلوط مع الكئوس الألماسية والصحون الفضية. لم تكن له. لكنها كانت جميلة. لكنها ليست له.

وهكذا - زوجته - مالذي أصابها؟ فأصبحت أكبر سنا، نعم، نعم، أصبحت كذلك. لكنها لم تكن بهذا الكبر. دعني أرى، سنة 1914 كانت حينها 25 سنة، بلى، إنها الآن 40 سنة. لكنها كانت جميلة حينذاك. سمينة فقط قليلا، يا إلهي. ظل من الخوف قد أتى من خلاله بالضبط وبما فيه الكفاية لكي يقول لنفسه إنه عاد إلى منزله مرة أخرى. لكنه اعتقد أن يكون ذلك الاستقبال مختلفا إنه كان غير منتظر. وكان ذلك منذ وقت طويل جدا. لا بد أنه قد تغير كثيرا، لذلك لم يكن من السهولة تعرفه من جديد. وكذلك كانت هي تعتقد أنه قد مات - ولكن عندما تعرفته من جديد وبعد لحظة المفاجأة، بعدها كان من الواجب أن يعانق كل منهما الآخر، وأن تكون فترة مقدسة عندما يرجع الأب من الحرب إلى بيته.

وبالضبط بسبب اعتقادها أنه كان ميتا، كان من الواجب أن تكون سعيدة بمقدار الضعف لأنه ما زال يعيش على قيد الحياة. وكان من الواجب أن يكون أمرا مقدسا وبهيجا الجلوس على طاولته مع زوجته وطفلته. لحظة فرح حقيقية كان هوالواجب حدوثها.

وكانت هي مشغولة جدا لدرجة أنه لم يملك الوقت المناسب ولو لمرة واحدة للسؤال عن "إتى". يجب أن تكون الآن فتاة كبيرة، يا إلهي، هذا ما يجب أن تكونه.. يجب أن تكون في الثامنة عشرة تقريبا.

ألم تكن هي التي قابلها على السلالم؟

المرأة الصغيرة القادمة نحوه، نحو الأسفل بجورب حريري ومعطف جلدي؟ والتي أدرك عطرها حينما مالت نحو الحائط عندما مرت به؟ - مستحيل.

لا يستطيع الحصول على صورة لها؟ كانت هناك بعض الصور المعلقة على الأريكة.

بلى، الفتاة الصغيرة في فستان التعميد يجب أن تكون "إتى". إنها جميلة إنه لأمر غريب أن تكون هذه الفتاة الناضجة ابنته.

وهذا هو، في منتصف الحائط، في اللباس الرسمي. هذه هي الصورة التي التقطها في يوم الحشد للحرب. ومع الحداد الأسود على الإطار وزهور الخلود والصليب الحديدي!

أحببناه وفقدناه!

أجلس نفسه لينتظر. هذا ما تعلمه. الانتظار هو ما قد تعلمه. الوقت أصبح طويلا. ذهب مرة أخرى إلى المطبخ ودهن لنفسه شريحتي خبز. قليل من التبغ لديه حتى الآن.

وفي الساعة السادسة قدمت ليزا وبدأت تحضر للغداء. في الساعة السابعة حضرت "إتى".

أخرجت صرخة تعجب عندما رأته. قدمت الأم نحوها.

- هذا هو أبوك، قالت هي.

نظرت إليهما الابنة دون أن تفهم شيئا.

- إنه أبوك قد عاد مرة أخرى من الحرب.

- أي حرب.

- الحرب، يا ابنتي، الحرب العالمية!

- أوه.. لكن..

- كان في الأسر في سيبيريا

- لكنك كنت تقولين دوما إنه..

- نعم، هذا ما اعتقدناه!

- "إتي" قال هو ومد ذراعيه نحوها.

- مساء الخير! قالت هي. أصبحت منتصبة وهي تنظر إليه. إن لديها أبا، وإنه قد أتى إلى المنزل - سمعت والدتها تقول ذلك، وأنها يجب أن تعرف ذلك. أن تستوعب ذلك. كانت هناك قضية أخرى وهي. هل سوف يعيش معهما على سبيل المثال؟ هذا الرجل.

غادرت الأم مرة أخرى إلى المطبخ. فأصبح الاثنان وحيدين في الصالة. إنه مؤلم.

- لحظة واحدة! قالت "إتي" واختفت. أتت مرة أخرى مع مفرش وأطباق وأعدت الطاولة.

تناولوا الطعام بصمت. بعد الغداء خرجت "إتي"، سوف تقابل أحدهم. وأصبح الاثنان جالسين.

- وهكذا رجعت إلى البيت مرة أخرى إذن. قالت هي.

كان شيئا حقيقيا بما فيه الكفاية. ليس لديه ما يقوله لهذا الأمر.

- ما الذي فكرت في البدء به الآن؟

- سوف أبدأ في المعمل مرة أخرى.

- ليس هناك الكثير لعمله هناك، قالت هي. ليس هناك عمل لأكثر من اثنين. و"نولتا" له نصيب في المتجر : إنه شريك. لم يقل شيئا عن هذا أيضا. لم يقل إنه معمله. لأن ذلك كان منذ وقت طويل. ولم يكن واثقا أنه قادر على ذلك أيضا الآن. ليس لديه اليدان لمثل هذا العمل الدقيق. يجب أن يبحث له عن شيء جديد.

- ما الذي أستطيع أن أبدأ به؟ قال هو.

آه نعم، هذا ما يعلمه الله. هنا فقط البطالة والغلاء. جميع الناس يروحون بلا عمل. وأنه لمكلف جدا أن تعيش، فظيع الغلاء بحيث أني و"إتى" نتدبر أمرنا بشق الأنفس. فإذا لم تستطع الحصول على عمل ما، فأنا لا أعلم.. السيدة همبل أخرجت قطعة قماش وبدأت في ترقيعها. الساعة أصبحت التاسعة. بدأت في التثاؤب.

- سوف أرتب لك السرير. قالت هي. دخلت إلى غرفة النوم وعادت مرة أخرى مع بطانية وملاءات ووسادة وبدأت في الترتيب فوق الأريكة.

- هل سوف أنام هنا؟ سأل هو.

- نعم. في الداخل ننام أنا و"إتى".

رسالة غرامية
للكاتب الإيطالي: دينوبوتزاتي
ترجمة : نهلة بيضون

ها أنا قد عدت أخيرا، حبيبتي، وأنتظر حاليا أن تلحقي بي. تقولين في رسالتك الأخيرة التي لقيتها منذ شهر إنك أصبحت لا تطيقين العيش دوني. أصدقك لأن الشعور نفسه يخالجني. ألا يعتبر ذلك نوعا من الانجذاب الحتمي الذي يكاد يكون عقابا؟

إن ما يجري عادة بين رجل وامرأة هو أن أحدهما فقط يكون مغرما بينما يرضى الآخر بهذا الوضع أو يخضع له. أما نحن الاثنين فإننا نعيش هو انا على قدم المساواة مما يضفي على علاقتنا مسحة من الروعة. يا له من وضع جميل ومرعب في آن معا! كما لو كنا ورقتين تدفعهما الواحدة باتجاه الأخرى رياح شرسة! فما عسى أن يحدث عندما تلتقيان؟!

تصلك هذه الرسالة بعد ثمان وأربعين ساعة. أعرف أنك متأهبة للرحيل منذ أشهر عديدة، رتبت حقائبك وودعت أصدقاءك. يلزمك يومان لتصلي إلى هنا، ولنفترض أنك ستنطلقين يوم السبت: بعد أربعة أيام، سأبدأ بانتظارك منذ بزوغ الفجر.

كيف ستكون حياتنا؟ خلال سنوات الفراق الماضية، ما فتئت أفكر بحياتنا المشتركة المقبلة دون أن أفلح في تصور الأمور بوضوح، إذ يهيج بي الشوق إليك فيجتاح كياني ويشتت مخيلتي. لذا أغتنم اليوم هنيهة هدوء أشعر فيها بحاجة ماسة لأستشرف بعض الأمور وأحيطك علما بها. أعرف أنك لا تحتاجين للإقناع حذار إذا بقي لديك أولدي طيف شك، ولكن بوسعك لدى قراءة هذه الصفحات ثانية خلال السفر أن تقدري فرصة خيارك الذي لا رجوع عنه وخياري حق تقدير.

أود بادئ ذي بدء وقبل أن يسبق السيف العذل، أن أستعرض خصال وعيوب كل منا، المركز الاجتماعي لكل منا، عاداتنا ورغباتنا التي تتطابق تطابقا تاما، أما لاحظت ذلك قط؟!

أولا، هناك مركزنا الاجتماعي، فأنت أستاذة في اللغة الفرنسية وأنا منتج خمور. أنا العامل الاقتصادي كما يقال، وأنت المثقفة. سيصعب علينا، ولحسن الحظ، أن نتفاهم تماما، إذ سيظل هناك دوما عائق وستار يفصلنا ولن تنجح النوايا الحسنة في إزاحته.

فكري مثلا بمشكلة الأصدقاء : أصدقائي أشخاص شرفاء وطيبون ولكنهم بسطاء. لا أعني أنهم جاهلون بكل معنى الكلمة، فمن بينهم محام معروف ومهندس زراعي ونقيب متقاعد. ولكن لا أحد منهم يعاني مشاكل معقدة، فهم يتذوقون إجمالا الطعام الجيد وأؤكد لك أنهم لا ينفرون من النوادر الفاحشة. أتخيلك بصحبتهم : تتثاءبين تثاؤبات متواصلة تسعين لإخفائها لأن تربيتك الراقية تحتم ذلك. سيصعب عليك التأقلم فأنت إنسانة عصبية المزاج، ليس من شيمك الصبر والتسامح، بل إن هذا الطبع هو الذي جعلك تفقدينني صوابي. أصغي إلي حتى ولو كان ما سأقوله لا يمت بصلة بما سبق : ماذا لو سافرت في أول قطار يوم السبت بحيث تصلين مساء الأحد، ألا يكون ذلك رائعا حقا؟!

تقولين إننا روحان توأمان وأنا أصدقك القول، فالانسجام بين شخصين لا يعني التطابق أو التشابه التام، بل تبين التجربة أنه يعني العكس تماما. وهذا ما ينطبق علينا : فأنت مجازة في اللغة الفرنسية وأنا خمار، كما كان يحلولك أن تنعتيني متهكمة في بداية تعارفنا. أعلمك بأنني لا أنوي الرجوع إلى الأرجنتين فقد ضقت ذرعا. لقد بعت المزارع التي تركها لي عمي في "مندوسا"، ولن أفارق أراضي بعد اليوم، أوعلى الأقل، هذا ما أتمناه، فأنا لا أشعر بالسعادة إلا هنا. ولكنني أعي، من جهة أخرى، أن العيش في الريف سيملؤك كآبة حتى لو تابعت التدريس، ومضيت ذهابا وإيابا إلى المدينة المجاورة. إنه الريف بكل معنى الكلمة. ستكظمين غيظك في البداية دون شك. ولكن ها هو ثغرك يتراءى أمام ناظري إذ تشقينه قليلا كطفلة صغيرة وكأنك تترقبين شيئا ما. ستتهمينني بالتفاهة وترددين ذلك مرارا إنما هوالشيطان أوما شابهه قد اتخذ له مخدعا في شفتيك العذبتين المتفتحتين. أعترف لك بأن ثغرك ذاك هوالذي بدأ يسلب فؤادي.

فلننتقل إلى البيت : بيتي فسيح ومريح فقد فرغت لتوي من تجديد صالات الحمام الثلاث، ولكنه يختلف تماما عن بيتك. فالأثاث يعود إلى عهد أجدادي بل أجداد أجدادي، ولكنني لا أفكر بتغييره لأنني أعتبر ذلك تدنيسا كانتهاك حرمة قبر. أما أنت، فتفضلين "جروبيوس" (هل يكتب الاسم بهذا الشكل؟). أعذريني إذا ما أخطأت فأنت تعلمين أن مستواي العلمي يقتصر على الشهادة المتوسطة فحسب.

أنت تحبين الأرائك والثريات التي صممها أشهر المهندسين. أشياء براقة، عملية، أساسية، مقومة للاعوجاجات (هل لي أن أقول ذلك؟). كيف ستشعرين وسط هذا الأثاث العتيق الذي أدرك أنه لا يجسد الذوق الرفيع؟ يكفي أن أفكر بالرائحة التي تفوح من هذه الغرف، رائحة الرطوبة والغبار النقي والريف، رائحة كوخ متصدع، رائحة أعشقها، أستميحك المعذرة. أما أنت، فلا ريب أنك ستشعرين بالتعفن والغربة وتتقوقعين على نفسك كالقنفذ. تعالي، تعالي يا فؤادي!

ماذا عن طباعنا؟ أنا طيب، منفتح السريرة، مرح أكثر مما ينبغي أحيانا، ولكن ما حيلتي؟ أما أنت فقد ترعرعت في كنف الراهبات الفرنسيات في "سانت - إتيان"، تنتمي إلى عائلة أرستقراطية فقدت ثروتها (سوف تعتبرينني نذلا لأنني أكتب هذه الأشياء بهذه الطريقة الجارحة،هذا أفضل، صدقيني!). أنت اعتدت صحبة الناس المثقفين الذين يتحدثون عن الفن والأدب والسياسة بطريقة راقية (حتى الثرثرة تكتسب معهم أناقة مميزة).

أنا فلاح، قرأت مانزوني وتولستوي وسينكيفيكز، ولكني أقر بضعف مستواي الثقافي. أنت مترددة، متحفظة، متعجرفة، لا أريد أن أقول مغرورة (إنما يا لبشرتك الرائعة، ما أكاد ألمسها حتى يرتجف كياني. هل قيل لك ذلك؟ يا لسذاجتي، من يدري كم رجلا أسر لك بذلك؟). يشمئز أنفك الصغير الساحر عندما أستعمل كلمة في غير مقامها. وكم كلمة من هذا القبيل سأتلفظ بها على مسمعك! أليس ذلك كله عجيبا! امنحيني قبلة يا كنزي، أغلقي فمي.

ثمة شيء آخر : أنت معتادة الحياة في مدينة كبيرة. قلت لي ذات يوم إن هدير السيارات والشاحنات وصفارات سيارات الإسعاف وصرير الترامواي هي مهدئات تساعدك على النوم مساء وتسهل عملك اليومي. خلاصة القول، أنت تتمتعين بمزاج المدن الكبرى المشحون، أما هنا فلا شيء سوى الهدوء التام الذي يثير الأعصاب أحيانا، حتى أعصابي. فماذا أقول عن الليل إذن؟ لا شيء سوى حفيف الأشجار عندما تعصف الريح، وقطرات المطر تتساقط على السقف وعويل الكلاب البعيد تحت ضوء القمر. لا، لن تستطيعي التكيف أبدا فأنا أتخيل منذ الآن الأعصاب المشحونة والملاحظات اللاذعة والنزق والغضب. أو تعرفين، يا للروعة؟! القس مستعد لعقد قراننا صباح الاثنين، وما عليك إلا الوصول في الوقت المناسب، فالدعوات لحضور الزفاف قد وزعت منذ فترة طويلة.

علاوة على ذلك، أنا أهوى كرة القدم التي تمقتينها. فأنا من قدامى مشجعي نادي "جوفنتوس"، وقد أفقد شهيتي مساء كل أحد إذا لم تكن نتيجة المباراة إيجابية. لك أن تتخيلي إذن أن كل أحاديثي مع الأصدقاء تدور حول هذا الموضوع طوال الأسبوع. أعتقد أن ذلك قد يثير فيك الغثيان. عند المساء تحدجينني بنظرة غريبة كما لوكنت ترمقين دودة زاحفة، وقد يصل بنا الأمر إلى الشجار، وعندئذ سيتلفظ ثغرك الصغير الأثير بكلمة نابية.

بالمناسبة، يمكنك بالتأكيد دعوة من تشائين إلى حفل الزفاف، ويمكن لجميع مدعويك النزول في الفندق المجاور والذي تتوافر فيه كل وسائل الراحة. وسأتحمل النفقات بالطبع. أما عائلتي فأقول لك فورا إن عددهم سيكون أربعين شخصا على أقل تقدير. تعالي يا حبيبتي، فأنا أحبك حتى الموت عندما تغضبين.

لا شك أن العادات تختلف في العاصمة، فعندما لا تذهبين إلى السينما (بالمناسبة، هل شاهدت فيلم "واترلو"؟! لقد أعجبني كثيرا)، تلتقين إحدى الصديقات، تتناقشان في مشاكل المدرسة والمناهج، تقومان بما يسمى عملا اجتماعيا وتشعران بأنكما عقلان متفوقان، أليس كذلك؟!

في المساء، أحب أن أجلس أمام التلفاز. عادة فظيعة أليس كذلك؟! فلنتفق إذن. أنا مستعد بين الحين والآخر أن أصحبك إلى المدينة مساء يا عزيزتي. ولكن يجب أن تدركي أن التلفاز أسوأ مما تتصورين (أنت التي رفضت دوما مشاهدته بحجة أن حاجبك يشاهده أيضا). عند المساء، لن أخفي عليك أنك ستتابعين المباراة بدورك من وقت لآخر. أتصور أنك ستصبين لعناتك علي، تتقوقعين على الأريكة في زاوية قرب المصباح الصغير وتقرئين "تيلار دوشاردان" (هل الاسم صحيح؟).

هيا يا حبيبتي، دعي الطائرة تقلك أوالصاروخ عابر الكواكب أوالبساط السحري، هلمي سريعا عزيزتي فقد عيل صبري، تعالي حبيبتي، سنكون أشقياء، أعاهدك على ذلك!

قصة موت
بقلم : أندريه شديد
ترجمة : محمد صوف

أحست المرأة الشابة باصطدام الرصاصة بظهرها. ألم حاد. قصير المدى. تابعت سيرها كأن شيئا لم يحدث. لكن الوهم لم يدم. حولها الأشجار مقتلعة من جذورها. الرصيف محفر. العمارات مستطيلات مفحمة وفاغرة الوسط. أشياء تدل بوضوح على أن المعارك كانت ضارية، والهدنة مرة أخرى عابرة. لقد أصيبت برشق مفاجئ لم تكن هي هدفه. كان جرحها حقيقيا.

لم ترد أن تعرف عنه أكثر. ابتعد عنها الألم. إن ما يهمها اللحظة فوق حياتها، أن تصل إلى المكان الذي ينتظرها فيه على رأس الجسر، عند زاوية الحاجز.

الساعة الثالثة. نور اللحظة يغطي المحيط القاحل ويغرق وجهها، يحتوي جسدها الثلاثيني. ستزحف بهذا الجسد. سترغمه على السير. ستختزل الطريق. ستقاوم. ستقتحم ربع الساعة التي تفصلها عن اللقاء.

الزقاق يتأرجح. يكفهر. وفي لحظة، يصبح الهواء ثقيلا. تتجصص السماء. يستولي على حركات "م" بطء لا نهائى. تضعف أحاسيسها. وحدها الرغبة الملحة في الوصول إلى الجسر تخزها.

أمامها يداها وذراعاها في خط مستقيم. تأمل أن تدفع هذا الجسد المتثاقل وساقيها المحشوتين بندف القطن إلى الأمام. ينخرها الخوف من عدم الوصول إلى الموعد بعنف يتحدى ثقب الرصاصة.

أين يضعون حدودا لهذا المكان؟ ولماذا؟ تتوارد سلسلة من الأسماء على الذهن. إنهم هناك في أوحال حقول الأرز، على الأسفلت، في الدروب، ينحشرون وسط الحشد الذي تتم إبادته، أو يحتضرون وحيدين. فجأة يتدفق القتلى واللاجئون والمصابون بالرصاص والمعذبون نحو هذا المكان، نحو شخص ما، نحو هذه الكائنة الحية الجريحة حتى الموت. تتوازى أعمال العنف ويغطي الرعب الرعب. وجوه تغمرها الدماء وأخرى نزفت. وينزف الرجال.. المكان لا يهم! في كل مكان تتعذب البشرية ولا نهاية لهذا الموكب. داخل كل جسد مصاب، كل الأجساد تتأوه وتغيب، تمتصها القوة العمياء في سديم واحد.

بالغت "م" في تقدير قوتها. بحثت عن النجدة حولها فلم تلتق عيناها بغير الفراغ. تجر نفسها حتى الجدار. تتحسس يداها التضرسات. تتعلقان بها. لا تزال تصارع. تقاوم. يمتد نصفها الأعلى، إلى أعلى وتخور ركبتاها المرتخيتان وتطرحانها أرضا.

تصرخ "م". يتوقف صوتها في حلقها، يدرك بالكاد صدغيها مرتعشا. ثم يلامس شفتيها. يخترقها ألم حاد ويتدفق سائل ساخن بين عظمتي كتفيها. يبلل قميصها. الآن. لا تواجه الشابة جسدها. لكنها تسعى إلى مرافقته. تتفادى الاهتزازات المفاجئة. تحرس هذا الجسد واضطراباته ودورانه. لا تقاوم انتفاخ رأسها ولا تأرجح ذراعيها اللتين تهتزان وتحلقان في الهواء أولعلهما تعتمدان عليه. تحافظ على أنفاسها آملة أن تعيش حتى يأتي مار لتسلمه الرسالة، وتستسلم "م" دون أن تفقد مراقبة ذاتها.

تدور. تتقلب. تنحني. تدور حول نفسها ببطء. ببطء كما في السينما على امتداد العقبة إلى أن تدرك الرصيف حيث تجد نفسها تتمدد في وضع جنين.

خدها على الأرض وعيناها تتربصان. تتعلق بآخر بريق للوعي وتنزعج المرأة الشابة من اختفاء الشمس خلف سحاب خفيف. تظهر الشمس من جديد. تشعر بارتياح حقيقي. غير بعيد صرير نافذة وحولها تنتشر رائحة القهوة.

تطرد "م" ذكريات تتدفق أمواجا. لا تريد أن تكون سوى هذا الحاضر. سوى هذا الجزء من المستقبل الذي لا تزال تسعى إلى إنقاذه. بحذر لا متناه تتوصل إلى إخراج بطاقة بريدية ملونة من جيبها وقلم صغير.. النهاية تقترب. تقترب. في حين لا تزال الحياة تهدي نفسها! يحلق الموت فوق أرضها الصغيرة التي تضيق من دقيقة لأخرى. ترى من جديد بين جناحيه الداكنين الحدأة التي تحلق باستمرار فوق بنايات الحي الذي ولدت فيه قبل أن تنقض بجبروت على قطعة لحم موضوعة على حافة شرفة.

على يسارها. على مبعدة أمتار أمامها، انفتح باب، نظر زوجان مسنان إلى السطوح حيث يربض الرماة غالبا قبل أن يغامرا بالخروج إلى الزقاق. يحمل الرجل حقيبة حزمت بقلة ذوق. ما إن خرجا حتى مد كل منهما يده إلى الآخر ثم تماسكا. ترشقهما "م" بنظراتها. تختبئ بين كفيهما المتماسكين بلطف. تضع كالزوجة رأسها على صدر رفيقها. تتلقى نفس القبلة على شعرها.

من عمق الصمت تصرخ "م" نحوهما وتسعى عبثا إلى جذب انتباههما. لماذا ارتدت هذه السترة الرمادية التي تشبه الحجر؟

لا أحد منهما لاحظها. يتحدثان بصوت خافت ثم يشرعان في السير في الاتجاه المعاكس. التفتت المرأة وهي تسير مرة أخيرة نحوبيتها المهجور. هناك ترى شكلا ممددا على الرصيف. "قف. انظر."

بسرعة يعودان. يستند أحدهما إلى الآخر. يعبران الرصيف بالسرعة التي تسمح بها سيقانهما. يجلس الرجل على ركبتيه. يتفحص الجريحة. يدرك أن الجرح خطير. قاتل. فجأة في انفعال وتساؤل أخير.. لماذا؟ تحتقن عيناه بالغضب والدموع. وتقف المرأة تصرخ. تطرق الأبواب. تسعى إلى إثارة الجيران. لا جواب. كل العمارات خالية. هرب سكانها إلى البادية. بعد الطلقات النارية المتفرقة خوفا من استئناف المعارك، اختبأ بقية السكان.

ترفع "م" يديها بجهد كبير. تمد البطاقة بطرف أصابعها المرتعشة. يأخذ الرجل الصورة. ينظر إليها. يقلبها. على ظهرها كتابة صغيرة بمداد بني.

- لا أرى شيئا. خذي اقرئي.

أخرجت المرأة نظارتها ذات الإطار الفضي من الكيس المعلق في عنقها. ستقرأ بصوت مرتفع. يبدو الارتياح على وجه المرأة الشابة.

- سأذهب إليه.

- وحدك؟

- ألا ترى أنه من غير الممكن أن ندعها وحدها.

يوافق. تضم مرفقيها وتركض بكل قواها. تصعد على الرصيف من وسط الطريق معرضة نفسها من كل جانب للرشق. ممتلئة حماسا كعادتها! يراها تصغر أمامه. يتبعها بنظراته. قلبه ينقبض. يراها من جديد. لكن هذه المرة قديما. في سن الشابة التي تحتضر. تحشر نفسها وسط الحشود لكي تلحق به على الجانب الآخر من الشارع وتركض نحوه. تكبر أمامه تتسلل بين السيارات. خداها محتقنان وشعرها أشعث. مقدامة كعادتها!

في زاوية الجسر. ينزل الرجل الذي كان جالسا على الحاجز. قبل يومين عثر على عنوان المرآة الشابة، وعلم أن بطاقته وصلتها. فكر أن المدينة استعادت هدوءها وأن "م" هي الانضباط في المواعيد. ها قد طال الانتظار.. بالتأكيد أنها لن تأتي.

من بعيد تعرفته المرأة من الصدار الأزرق الذي كان يحمله في الصورة. حركت البطاقة بذراعيها. حاولت جاهدة أن تشير إليه. نبهتها حافلة بزعيق حاد فاندفعت نحو الرصيف لتدعها تمر. لامستها الحافلة وتابعت طريقها بصخب.

بعد ذلك، بسرعة فائقة، رأت الرجل يمسك بذراع امتدت إليه خارج الآلة الضخمة. تعلق بها واهتز فوق الدرج داخلها. صرخت المرأة عبثا. لقد خنق هدير الآلة نداءاتها وفي ثوان غابت الحافلة خلف ستار من الغبار.

اتكأت على الحاجز منهكة. تركت بعض الدقائق تتسرب قبل أن تقرأ الرسالة وتعيد. في كل كلمة كان جزء من شبابها ينتزع منها انتزاعا. ارتعشت لفكرة أن هذا الذي ذهب دون أن يعلم، من الممكن أن يكون رفيقها هي. لم تعد لديها سوى فكرة واحدة. أن تلحق بهذا الأخير في أقرب وقت. عادت ركضا وهي تردد بين شفتيها كلمات الرسالة التي حفظتها عن ظهر قلب.

"الهدم. الرعب. الكراهية. أشياء اتخذت كل الأقنعة. من وماذا نصدق الآن؟ منذ أن عاشرت الموت وأنا أرى كل شيء أحمق، عبثا، خارج الحب الحقيقي. إن الحب يجمعنا يا "م" مهما حدث. سأنتظرك بعد غد في الساعة الثالثة عند زاوية الجسر الكبير كما في أول موعد (لقد مرت ست سنوات) سيحمل لك صديق لي هذه الصورة. هذه الرسالة. هذه الكلمة. وسأتأكد من. أنها وصلتك، وإذا لم تأت فمعناه أن كل شيء قد انتهى."

وتحت هذه الكلمة كتبت المرأة بحروف مضطربة، بقلم الرصاص "حبيبي.. لقد.." جلست المرأة على ركبتيها. أحاطت بذراعها كتفي زوجها. وحكت له عن اللقاء الذي لم يتم، مضيفة : "في يوما ما، يجب أن نعثر عليه" بدوره همهم.. حكى أن أحد المارة ذهب للبحث عن سيارة إسعاف. لكنه كان يعلم منذ البدء أن لا أمل في إنقاذ المرأة.

لم تعد هذه تتحرك. إنها تتنفس بصعوبة. تنحني المرأة المسنة. يلفح نفسها الدافئ الخد الشاحب. تلامس صدغيها بشفتيها ثم تباعد شعرها كاشفة عن أذنها. وتقول كلمة بعد كلمة حريصة على نطق كل حرف :

"كان ينتظرك في زاوية الجسر الكبير. لقد رأيته يا صغيرتي. وكلمته"

دفعتها تنهيدة "م" إلى أن تتابع.

"إنه آت. إنه في الطريق إليك"

رفعت وجهها إلى وجه الرجل. التقت نظرتها بنظرته المتواطئة ثم تابع هو:

"إنه في بداية الزقاق. آت إلينا. لقد تعرفت صداره الأزرق"

أتمت المرأة :

"ها هوآت"

"ها هو"

"إنه يقترب"

تعانق صوتاهما. أمواج تسيل في عروق الشابة.. تتسع. على ملامحها بريق سعادة ومن صدرها يصعد نفس كعرض المحيطات.

يستولي على الزوجين المسنين دوار ناتج عن المرح والضيق واليأس والطمأنينة. عبث الأشياء ومعناها يمتزجان في رأسيهما! تبحث يد كل منهما عن الأخرى. تلتقيان لتكونا يدا واحدة، يدا واحدة توضع غطاء من حنان على يد الشابة الجامدة. لم تكن اليد قد بردت بعد.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات