الكمبيوتر إرهابيا.. وقاتلا! مضر عبدالغني

الكمبيوتر إرهابيا.. وقاتلا!

في أحد أيام شهر أبريل من العام الماضي أقلعت طائرة ركاب من واشنطن ، ثم صعدت إلى ارتفاع 3000 متر، ووجهها الطاقم إلى نيوآرك بولاية نيوجرسي في رحلة قصيرة، وعندئذ بدأت المشاكل. إذ أدرك الطيار الوضع عندما تلقى اتصالا من مراقبي الحركة الجوية يفيد بأن طائرته تسير في اتجاه يبعد 16 كيلومترا عن المسار الصحيح. وقد أخفقت ثلاث محاولات لتصحيح اتجاه الطائرة، ففي كل مرة كانت أجهزتها تشير إلى أن اتجاهها صحيح برغم تأكيد المراقبين الأرضيين أنه خاطئ.

تقوم الأجهزة الملاحية على متن الطائرة بحساب إحداثياتها اعتمادا على إشارات تبثها أجهزة إرشاد لاسلكية موجودة على الأرض. وكان أحد الركاب يستعمل حاسوبا نقالا دون علم الطاقم، ومصادفة كان هذا الحاسوب يصدر موجات لاسلكية متناثرة على تردد مطابق لأجهزة الإرشاد الأرضية. وقد استقامت الأمور حالما اكتشف أحد المضيفين الحاسوب وطلب من صاحبه إغلاقه.

هذا مثال واحد فحسب على قضية التداخل المغناطيسي، تلك المشكلة التي لها آثارها الخفية المفزعة. إذ يشير الاتحاد الدولي لملاحي الخطوط الجوية إلى وقوع ما يقرب من عشرين حادثة جوية تتعلق بالتداخل الكهرومغناطيسي كل عام. وذكر بعض الملاحين أن الهواتف النقالة وأجهزة الاستماع إلى الأقراص المدمجة (CD) تسبب تداخلا كهرومغناطيسيا قد يعوق اتصالات الطائرة ويربك أجهزة الملاحة الآلية على متنها. وهذا هو السبب الذي يدفع عددا كبيرا من شركات الخطوط الجوية إلى أن تطلب من ركابها إغلاق حواسبهم وأجهزتهم الإلكترونية الأخرى أثناء الإقلاع، وكثيرا ما يمنع استعمال الهواتف الخلوية بتاتا.

وليست هذه المشكلة محصورة بقطاع الطيران، بل هي موجودة على الأرض أيضا. إذ كثيرا ما يكون التداخل الكهرومغناطيسي هو المتسبب في تعطل أجهزة مراقبة وإنعاش القلب بالصدمات الكهربائية.وقد تلقت إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية ما يربو على مائة تقرير عن حوادث التداخل الكهرومغناطيسي في المشافي خلال الخمسة عشر عاما الماضية. ويدعي مسئولو المشافي أن هذه الحوادث قد كلفت بعض الناس حياتهم.

أما ما يبعث على المزيد من القلق فهو ازدياد أعداد هذه الحوادث باطراد.

ألعاب ولكن؟

يكمن لب المشكلة في الدارات عالية السرعة التي تستخدم حاليا في ألعاب الفيديو وكاميرات الفيديو والحواسب النقالة،وفي أجهزة أخرى تزداد أعدادها يوما بعد يوم حتي الحواسب التي تركب في محركات السيارات. لقد كانت الحواسب موجودة حولنا منذ سنين عديدة، ولكن المشكلة تتفاقم الآن لأن السرعات العالية التي تعمل بها الأجهزة الإلكترونية الحديثة ترتفع أكثر فأكثر. وفي كل ثانية تتدفق عشرات الملايين من النبضات عبر الدارات، وبالتالي تنشر هذه الدارات موجات لاسلكية ذات تردد عال.

لقد كانت سرعات شرائح الدارات الإلكترونية بطيئة نسبيا في منتصف الثمانينيات، ونادرا ما وصلت إلى ترددات أعلى من ثلاثين ميجاهرتز أي إلى مجال عمل إشارات الاتصال اللاسلكي. أما اليوم فتعمل المعالجات الدقيقة بسرعات تبلغ مائة ميجاهيرتز وتزيد، مولدة بذلك تشويشا كهر ومغناطيسيا عند هذا التردد وعند كل الترددات التوافقية: 200 ميجاهيرتز، 300ميجاهيرتز.. إلخ. وما لم يفعل شيء للسيطرة على التداخل الكهرومغناطيسي، فلا بد لمشاكله من أن تزداد حدة بتزايد سرعات الشرائح الإلكترونية.

لـ "كتم" الشرائح الدقيقة

لكن هناك بعض المحاولات لكتم الشرائح الدقيقة، فمع بداية عام 1996 ألزمت التشريعات الأوربية المنتجين بجعل أجهزتهم أقل تأثرا بالتداخلات المغناطيسية وأقل قابلية لإصدارها. لقد اعتاد المهندسون الكهربائيون على تخفيض مقدار التداخل الكهربائي قسرا، وذلك بتغليف كل من الأجهزة الحساسة والمكونات المصدرة للتشويش بأغطية حديدية أووراء رقائق معدنية. ومع اقتراب مواعيد شحن الأجهزة إلى الأسواق، تصبح قضية كتم الضوضاء الكهرومغناطيسية نوعا من المحاولات اليائسة للإكثار من الأغلفة سعيا وراء ضمان نجاح هذه المنتجات في عبور الاختبارات القاسية، كما يقول جيمس درونياك ، وهو مهندس كهربائي يبحث التداخل الكهرومغناطيسي في جامعة ميسوري في رولا. لعل إضافة غلاف حديدي إلى القطعة أمر هين عندما يكلف ذلك ثلاثين سنتا، لكن هذه الكلفة تتعاظم عندما يضاف مثل هذا الغطاء إلى مليون قطعة.

هوائيات بلا هوائيات

تنشأ الموجات اللاسلكية كلما حدثت تغيرات سريعة في الحقل الكهربائي، إذ يتألف هوائي البث البسيط من سلكين متعاكسي الاتجاه، يحملان تيارا كهربائيا سريع التغير، وإن كلا من قوة الإشارة واتجاه انتشارها، وحتى وجودها نفسه يعتمد على عوامل عدة كطول هذين السلكين واتجاههما والمسافة بينهما.

وتتصف جميع الأجهزة الإلكترونية الحديثة تقريبا بالقابلية للعمل كهوائيات مولدة للموجات اللاسلكية. فهذه الأجهزة مزدحمة بالأسلاك الناقلة المتقاربة، وهو وضع مثالي لتكوين الهوائي، كما تعتمد المعالجات الدقيقة المثبتة فيها على نبضات تتراوح بين (صفر و5 فولت) بأعداد قد تبلغ مائة مليون نبضة بالثانية، مما يخلق مجالا كهربائيا يتغير بتردد ثابت. وهذا ما حصل بالضبط مع الحاسوب النقال على الرحلة الجوية بين واشنطن ونيوآرك ، وبالتالي تولدت الموجات اللاسلكية التي شوشت على المعدات الملاحية في الطائرة.

وغالبا ما تمكن منتجوالحواسب في الماضي من معالجة مشاكل التداخل الكهرومغناطيسي عن طريق التجربة والخطأ، كما يدعي درونياك":انظروا إلى كابلات الطاقة الكهربائية في أي حاسوب، فالمأخذ الرئيسي هوالمكان الذي يغطيه المنتج بغلاف حديدي ليخفف من انبعاث الموجات." وهذه ليست إلا واحدة من عدة حيل يلجأ إليها المصنعون لتخفيض مستويات الأمواج اللاسلكية الصادرة بعد انتهاء مرحلة تصميم الجهاز وبنائه.

لكن هذه الحلول لا تنفع مع الدارات ذات السرعات العالية التي يجري تصميمها حاليا. إذ يقول درونياك : " كلما صارت الحواسب أصغر وأسرع، نجد أن هذه المشاكل تستعصي على الحل. لقد شرع درونياك منذ أربعة أعوام بالعمل مع زملائه الباحثين في جامعة ميسوري على ابتكار منهج مختلف يتلخص في تصميم لوحات الدارات بأسلوب يخفض مقدار الانبعاث الكهرومغناطيسي إلى الحد الأدنى، هذا بدلا من امتصاصه باستعمال الأغلفة المعدنية. وقد بدءوا بقياس الأمواج الصادرة عن تصاميم شائعة من لوحات الدارات الكهربائية، ثم لاحظوا المكونات التي تعمل كالهوائيات الدقيقة، والتي يمكن تحديدها بسهولة طريق قياس تردد الموجات الصادرة ثم البحث عن الأجزاء التي تعمل بالسرعة نفسها. وسرعان ما تجمعت لدى الباحثين قاعدة بيانات تضم الهيئات الهندسية البسيطة للمكونات التي يغلب عليها إصدار مقادير عالية من الموجات الكهرومغناطيسية، مثل المصارف الحرارية التي تتصل ببعض الأسلاك المؤرضة. وفوق ذلك فإنهم قد استنبطوا طريقة لإعادة ترتيب الدارات بقصد تخفيض التشويش.

وبعد أن تسلح الباحثون بهذه المعلومات، تمكنوا من تطوير برنامج يبحث عن أنماط مشابهة في تصاميم الأنواع الأخرى من لوحات الدارات الكهربائية. وقال درونياك موضحا؛ عندما يعثر البرنامج على نمط مماثل، نعزله عن بقية أجزاء التصميم ونركز على تلك البقعة بحثا عن حل للمشكلة. ويمكن تعديل التصميم في هذه المرحلة بكلفة منخفضة نسبيا. ويقوم درونياك منذ مدة بمساعدة عدة شركات مثل جنرال موتورز على حل مشاكل التداخل الكهرومغناطيسي، وهويأمل أن يتمكن مصممودارات الحاسوب مستقبلا من اختبار تصاميمهم خلال دقائق معدودة باستعمال برنامجه هذا، وبعد ذلك يقوم البرنامج باقتراح الحلول اللازمة لتخفيض مستوى التشويش. ويدعم هذا الاتجاه أحد الخبراء المتخصصين في التوافق الكهرومغناطيسي من ولاية فلوريدا. واسمه ديفيد تيرل، فيقول: حتى الحواسب النقالة المعروفة بتشويشها المرتفع لن تحتاج إلى أي تغليف إذا ما صممت كما ينبغي.

وليس منع الأجهزة من إصدار الإشارات الكهرومغناطيسية غير المرغوبة إلا نصف المشكلة. فمن الضروري أيضا أن نحمي المكونات التي تتأثر بالموجات. إن المناطق المعنية هنا تماثل العناصر المصدرة للتداخل الكهرومغناطيسي، وذلك لأن الهوائيات المستقبلة تعمل بشكل أشبه ما يكون بهوائيات إرسال معكوسة. وهكذا فالجهاز الذي يستطيع إصدار الأمواج الكهرومغناطيسية يكون عرضة للتأثر بها أيضا. ويقول درونياك إن صناعات الطيران والحاسوب والسيارات تتمتع بسجل طيب فيما يتعلق بمعالجة مشاكل التشويش الكهرومغناطيسي.

قضية ساخنة

ولكن هذا لا ينطبق على الشركات المنتجة للمعدات الطبية. ففي إحدى الحالات التي أبلغت إلى إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية، تسبب التداخل الكهرومغناطيسي الصادر عن نظام النداء الآلي في تشغيل مشرط كهربائي موجود في جيب مئزر إحدى الممرضات. وفي حالات أخطر، توفي بعض الأطفال في أجنحة مشاف تعطلت فيها أنظمة التهوية. وكذلك عرف عن أجهزة إنعاش القلب بالصدمات الكهربائية أنها قد تعمل فجأة أثناء إجراء الاتصالات اللاسلكية من سيارات الإسعاف. لكن يصعب إثبات أن التداخل الكهرومغناطيسي هو المتسبب في هذه الحالات، كما يقول جف سيلبربرج وهو مهندس يعمل في إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية.

وبالرغم من ذلك، فقد شرعت الوكالة منذ عامين في السعي لإقناع منتجي المعدات الطبية بالعمل على تخفيض حساسيتها للتداخل الكهرومغناطيسي. لكن قلة معرفة مهندسي تلك الشركات بهذه المشكلة كانت أحد المصاعب التي برزت، وذلك لأن كليات الهندسة الأمريكية لم تبدأ تدريس التداخل الكهرومغناطيسي إلا أخيرا، كما يقول كليتون بول من جامعة كنتكي، وهو من القائمين على رفع الوعي بمشكلة التداخل الكهرومغناطيسي.

ومما يزيد الحال سوءا، أن التقطع يغلب على مصادر التداخل الكهرومغناطيسي، وبذلك يكون تقصيها ضربا من السحر، فلعل المتسبب هوبرج الاتصالات المجاور، أوربما كان جهاز الاتصال اللاسلكي في شاحنة مارة، أو حتى أداة التحكم عن بعد في باب المرآب القريب. إضافة لذلك يمكن للإشارات أن تنعكس عن الأسرة أو الجدران أو جماعات البشر، أو حتى ستائر النوافذ، وهذه العوامل عرضة للتغير من لحظة إلى أخرى، وبذلك يكون من المستحيل تكرار الظروف التي أدت إلى الحادث إذا ما حاول المهندسون تقصي مصدر التشويش اللاسلكي، كما أن العتاد القديم مشكلة أخرى، إذ يقول سيلبربرج إن المشافي تميل إلى التمسك بالمعدات القديمة لفترات طويلة.

وتعاني طواقم الطائرات من مخاطر مفزعة توازي ما ذكرنا. فهيكل الطائرة المعدني يوفر حجابا فعالا بين مصادر التداخل داخل الطائرة وهو ائيات الاتصال خارجها، ولكن الإشارات تستطيع اختراق النوافذ، كما أن بعض مصنعي الطائرات يجربون حاليا إنتاج هياكل من الألياف الكربونية التي لن توفر وقاية جيدة من التداخل. وتخطط بعض شركات الخطوط الجوية لتوفير حواسب نقالة معزولة خصيصا بشكل يسمح للركاب باستعمالها بأمان.

لا يمكن التغلب على مشكلة التداخل الكهرومغناطيسي إلا إذا أخذها المنتجون على محمل الجد وصمموا معداتهم بناء على ذلك. يقول بول: إنها مسألة ما إذا كانت الشركات مستعدة لدفع الثمن. فإن لم تكن كذلك، وإذا ما تراجعت سلطات التشريع، فإنني أرى أننا سنواجه مستقبلا صعبا.

 

مضر عبدالغني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات