الرياضات والألعاب في مصر القديمة بيومي قنديـل

الرياضات والألعاب في مصر القديمة

تـأليف: ولفجانج ديكير

هذا الكتاب ألفه عالم المصريات الألماني الشهير "ولفجانج ديكير"، وترجمه من الألمانية إلى الإنجليزية "آلان جوتمان".

وفي البداية يحتاج الأمر إلى توضيح ما، تلافيا للاتهام بارتكاب خطأ تاريخي قبل إطلاق اسم الرياضة على تلك الأنشطة التي عرفتها مصر القديمة. فالرياضة كلمة حديثة، استخدمت لأول مرة في اللغة الإنجليزية حوالي سنة 1440، والكلمة مشتقة من فعل desporter الذي عرفته اللغة الفرنسية في مرحلتها الوسيطة، وهو فعل يعود بجذوره إلى فعل deportare في اللغة اللاتينية المتأخرة ويعني "يتسلى". ولوأن هذه الكلمة لم تظهر في اللغة الألمانية قبل عام 1828. ولكن اللغة المصرية القديمة تعرف كلمات تشير بصفة جزئية إلى الظاهرة التي نناقشها في هذا الكتاب. بل وتعرف مصطلحا عاما يقترب معناه من تلك الكلمة الإنجليزية الواسعة المعنى، وعلى غرار ما درج عليه الاستخدام الإنجليزي لكلمة sport في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، إذ كان يمتد ليشمل الصيد بصفته النشاط الذي استقرت عليه طبقة النبلاء لتزجية وقت الفراغ، كذلك الأمر فإن معنى الكلمة المصرية القديمة المقابلة وهي (ش ح م ح إيب) يتسع أيضا ليشمله. ولكنني على علم شبه تام بأن المصطلح الحديث الدال على الرياضة استخدم بمعان متعددة، وهو الأمر الذي يفرض علينا أن نعود إلى تعريفه من جديد لدى تطبيقه على أزمنة وثقافات مختلفة. ولما كانت الرياضة ذاتها عرضة للتغير عبر التاريخ، فإننا نستطيع استخدام مفهوم الرياضة في وصف رياضات ثقافات معينة، ولوكانت هذه الرياضات تفتقر إلى ملامح الرياضات الحديثة وتشتمل على عناصر لم تعد معروفة على نطاق واسع. وقد لا يروق لنا أن تشتمل الرياضات الرومانية على مسابقات "الجلادة" التي يخوضها مصارعون، أسرى في الغالب، حتى الموت، كذلك فإن الصيد يشكل جزءا لا يتجزأ من المفهوم المصري القديم للرياضة دون أن يحظى ذلك بموافقتنا.

ولكي نصف الرياضات في عصور الفراعنة، وهي عصور تمتد لقرابة ثلاثة آلاف سنة، يجب علينا أن نناقش أحد مظاهر الحياة المصرية القديمة، وهو مظهر يبدوفي بعض الأحيان موافقا لما لدينا، وأحيانا أخرى مغايرا له، ولقد بزغت حضارة مصر لدى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد بإنشاء دولة منظمة في وادي النيل. وجرى استعمال الخط الهيروغليفي الذي اخترعه المصريون في نفس الوقت على وجه التقريب. كي يخدم هذه الدولة التي استمرت عزيزة منيعة دون انقطاع حتى فقدت سيادتها في نهاية المطاف بالغزواليوناني بقيادة الإسكندر الأكبر (332 ق. م). ويصبح هذا الاستمرار الزمني الطويل الذي يكاد يستعصي على التصور أكثر قابلية للفهم لدى مقارنته بفترة أخرى من تاريخ الرياضة. فالألعاب الأولمبية الحديثة، التي تعد دون منازع أهم حدث عالمي في دنيا الرياضات المعاصرة، لم تستمر حتى الآن سوى أقل من مائة عام، وهذا عمر تافه إذا ما قورن بالحياة المديدة بل والمهيبة للرياضات المصرية القديمة. أما الألعاب الأولمبية في العصور الكلاسيكية، فاستمرت ما يقرب من ومائتي سنة وحسب اعتبارا من عام 776 قبل الميلاد، حتى تحريم هذه الألعاب بصفتها طقوسا وثنية مع نهاية القرن الرابع على وجه التقريب. ولكن هذا السجل الطويل نسبيا لا يكاد يصل إلى أعتاب تلك التقاليد الرياضية التي استمرت ثلاثة آلاف عام دون انقطاع للثقافة المصرية تحت ظل الفراعنة.

التنقيب عن الرياضة

وفي أواخر تلك الحقبة الرياضية التي عرفها وادي النيل تعرضت مصر لنفوذ الثقافة الرياضية الدافقة بالحياة للعصر اليوناني - الروماني، تلك الثقافة التي نقف على دقائقها بفضل الحفاظ على لفائف البردي.

ولعل السبب وراء الإهمال الذي عانته الثقافة المصرية القديمة كامن في أن ولادة علم المصريات جاءت مع مطلع القرن التاسع عشر، في وقت كان الإنسانويون، أي دعاة إحياء الثقافة الكلاسيكية (اليونانية - الرومانية) قد حرثوا ببحوثهم أرضا خصبة لاستقبال الدراسات التي يحدوها الشغف بالرياضات اليونانية، تلك التي قام بها عاشقوالحضارة الهيلينية من الأوربيين أتباع المذهب الإنسانوي الجديد، وعلى غرار التاريخ جاءت مصر في ميدان الآثار، في ذيل المراكز الثقافية التي انشغلت بالعصور الكلاسيكية، فبعثات التنقيب عن الآثار في مصر لا تقارن بحال من الأحوال، بمثل تلك المشروعات الضخمة في هذا المجال، كالبعثات الألمانية للتنقيب في أولمبيا Olympia، التي بدأت بموجب توجيهات "أرنست كوبرتيوس" في عام 1875 ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، الأمر الذي غذى الشغف بتاريخ الرياضة اليونانية. ولقد حبذت أيضا الاكتشافات التي توصلت إليها الحركة الأولمبية الحديثة التي قادها "بيردي كوبيرتان" لدى انحناءة القرن الحالي والنسج على نماذجها الأصلية في سائر أرجاء العالم، انكباب الدارسين على التجربة اليونانية على حساب الالتفات إلى الثقافات القديمة التي نهضت على حدود اليونان. وإذا كانت هذه هي الأسس الدراسية التي استندت إليها العصور الكلاسيكية (اليونانية - الرومانية) في هذا المجال، فإن الوقت يكون قد حان - إذن - لمد نطاق البحوث إلى ثقافات قديمة أخرى، ويستلزم الأمر في عصر انكماش المسافات وزيادة الاتصال الدولي والتعددية السياسية العالمية أن تمتد لذلك نظرة المؤرخ والأثرى إلى الوراء وترتفع على ضيق المركزية الأوربية. ويستطرد المؤلف في الفصل الرابع المعنون بـ "رياضات الأفراد"،فيقول: إذا ما تطلعنا إلى ما وراء دائرة الملوك (الفراعنة) حيث تقصر العقيدة الملكية الألعاب على بضعة أنساق محدودة تتفق والمكانة الاجتماعية المرموقة لمؤديها من الملوك (الجري الطقوسي، الرماية بالسهام، سباق العجلات (الحربية) أو الحناطير والصيد)، فإننا نلاحظ أن حياة الأفراد من المصريين العاديين تنطوي على نطاق عريض بصورة ملحوظة من الرياضات، وهو الأمر الذي يسمح لنا بتقييم مدى الشعبية التي بلغتها هذه الرياضات كوسائل لقضاء وقت الفراغ.

الرياضة تجلو الحزن

ونستمد أدلتنا بصفة رئيسية على وجود تلك الرياضات التي مارسها الأفراد من الاكتشافات الوفيرة التي عثر عليها المنقبون عن الآثار في مقابر الأرستقراطيين ، تلك المقابر التي استطاعت غرفها الحجرية أن تقاوم عوادي الزمن بشكل أفضل من الجبانات المتواضعة للمصريين العاديين الذين ينتمون للطبقات الأدنى. إذ تبعث إلينا مشاهد الحياة اليومية التي نقابلها مرسومة على جدران المقابر تلك البيئة. الأرستقراطية التي قضى فيها المتوفى حياته. وهنا تمثل الرياضات عنصرا بين عناصر شتى كانت تذهب الحزن عن أفئدتهم، بل وتبعث فيها السرور. ولكن ذلك لم ينف إمكان الفرجة إلى جانب المشاركة الحية في مثل هذه الرياضات ما دام الأرستقراطيون يتفرجون على الأنشطة الرياضية للطبقات الأدنى. وهكذا فإن الآثار التي خلفتها لنا المملكة القديمة على جدران المقابر تغص بصور صيد السمك بالحراب، فمثل تلك الصور كانت تجلب متعة خاصة لروح النبيل المتوفى كلما أمعن إليها النظر. ويبدوأيضا أن ذوق الأرستقراطي هو الذي يقف وراء رسم كل هذه المشاهد التي خلفتها لنا المملكة الوسيطة للمصارعة في مقابر "بني حسن" بالمنيا.

واتساقا مع الطبيعة الراهنة لهذا البحث - هكذا يقول المؤلف - نرى أنه من الأفضل أن نناقش ألعاب الأفراد من المصريين العاديين على أساس أنساق الرياضات الفردية، ثم نمضي إلى تقسيمها إلى أقسام فرعية إذا ما اقتضت طبيعة المصادر التي تحت أيدينا ذلك. حقا يحتاج الأمر إلى وضع تاريخ اجتماعي دقيق لرياضات الأفراد، ولكن الافتقار إلى دراسات تمهيدية في هذا المجال يجعل مثل هذا التاريخ مستحيلا في الوقت الحاضر.

رياضة الجري

لقد اكتشف العلماء قبل بضة أعوام مصدرا يعوض إلى حد بعيد - بتفاصيله الكاملة وحيويته وكتاباته المدهشة - تلك الندرة التي نأسف لها في الوثائق المصرية في مجال الجري أو العدو. والحقيقة أن هذا المصدر يسوغ لنا بكل تأكيد أن نطالب بتصنيفه كأحد أهم المصادر التي وصلت إلى أيدينا بشأن الرياضات في مصر القديمة، وأقصد بذلك النصب الحجري الذي كان يواجه في الأصل طريقا قديما يبدأ، على وجه الترجيح، من "منف" كي يصل إلى واحة الفيوم. ويرجع هذا النصب التذكاري، الذي تعرفه مكتشفوه عبر طرفه العلوي المستدير، إلى حكم الملك "طاهر كا" (5 69- 4 66 ق. م).

والواقع أن هذا النص المصري يسوغ لنا أن نطلق،بحق،على هذا النصب عمود الجري "طاهر كا"، وذلك راجع إلى تفرده وشموله في مجال تاريخ الرياضة، وهأنذا أقدم النص الحرفي للعمود:

السنة السادسة الشهر الثالث من فصل الشموتحت حكم جلالة الملك حوريس عظيم البهاء، حوريس الملكتين حوريس الذهبي الذي يحمي الأرضين. ملك مصر العليا ومصر السفلي. ابن الشمس طاهر كا، من تحبه "باستيت" ضيفة "بوجيم"، من حبته الآلهة بالحياة الأبدية. أمر جلالته بإقامة عموده عند ظهر الصحراء الغربية غربي القصر الملكي ويكون اسم العمود: تمرين الجري لجيش ابن الشمس "طاهر كا" ليعيش إلى الأبد، إذ أمر جلالته أن يؤدي جيشه، نيابة عنه عدوا يوميا على خمسة أقسام. وبناء على ذلك قال جلالته لرجاله: يالروعة ما صنعه أبي آمون، ما من ملك آخر استطاع أن يصنع ما يضاهيه. ولقد أعد العدة للقضاء على شعوب القوس. شعوب القوس الثمانية سوف تجثوتحت قدميه. فلقد سخر لي كل ما يحيط قرص الشمس به. فالسماء لا تظل من يعاديني، وليس بين جنود جيشي من لا يخشوشن لخوض المعركة، وليس بينهم ضعيف يعجز عن تولي القيادة مثلما أتولاها سواء بسواء. ويذهب الملك بشخصه إلى "بييا" كي يتفقد حسن سير النظام بين جنوده، إذ يأتون كالرياح بل كالصقور التي تضرب الهواء بجناحيها، وحرسه الخاص ليس بأفضل من أي جندي بالجيش. أما الملك نفسه فأشبه بـ "مونت"القوي الذي لا يشبهه أحد في الجيش، وهو محيط بالمعرفة، ويتقن أداء كل مهمة أيا كانت، فهو تحوت ثان. وقد رفع الملك شأن أول الذين وصلوا ورتب له أن يأكل ويشرب مع حرسه الخاص".

ويُعلق المؤلف على هذا النص الفريد بقوله: إنه يكشف أن مصر عرفت أعراف منح الجوائز المختلفة لمستويات الأداء المختلفة في مسابقات الجري.

وينبغي علينا أن نلاحظ أن هذا العمود يعطينا نتائج محددة بالأرقام وهو أمر نادر في تاريخ الرياضة في مصر. ونستطيع أن ننظر إلى ذلك العمود الذي يقف كجزيرة صخرية وسط سطح، لولاها لا متد، أملس في تاريخ مصر الرياضي في العصور المتأخرة. ويمكننا أن نرى فيه ليس أهم مصدر تحت أيدينا عن الجري في مصر القديمة فحسب، بل وبصفة عامة مصدرا من الدرجة الأولى من مصادر تاريخ الرياضة الفرعونية. فالعمود لا يوثق وحسب دليلا جديرا بالالتفات على وجود التنافس الرياضي في مصر القديمة، ولكنه يقدم لنا ولأول مرة دليلا دامغا على وجود مسابقة مصرية في الجري. وفي الوقت نفسه تستحق الإشارة إلى وجود تدريب يومي على الجري أن نتوقف أمامها، ولولم توضح مدى كثافة هذا التدريب مثل عدد مرات التدريب وطول كل منها. وأخيرا يجدر بنا أن نتذكر ونذكر أنفسنا أن فترة الراحة الاستثنائية في منتصف المسابقة لم يصل إلى علمنا وجود ما يماثلها في الثقافات الأخرى، أو حتى في الفترات الأولى لنفس الثقافة المصرية. ولعلنا نعرف أن مثل هذه الفترات المماثلة أصبحت شائعة تماما في الرياضات الحديثة، وخصوصا في رياضات الفريق، فمباريات كرة القدم واليد والسلة - على سبيل المثال لا الحصر - تتخللها مثل هذه الفترات من الراحة عقب النصف أو الشوط الأول من المباراة.

رياضة القفز

لم يبق لنا من نسق القفز الذي عرفته مصر القديمة سوى لوحتين اثنتين على وجه الخصوص يستطيع المرء أن يحكم بأنهما تدريبان على القفز ويلتزم التدريبان نفس المنهج، ونجدهما في إطار سياق ألعاب الأطفال. ونشير إليهما بعيدا عن سياقهما بغية تناولهما بصورة منهجية. واللوحتان موجودتان بمقابر "سقارة"، إحدى هاتين اللوحتين في مقبرة الوزير بتاح حتب التي ترجع إلى نهاية الأسرة الخامسة (2465 ق. م) أما الأخرى فموجودة في موقع زميله "ميري روكا" التي تفصلها خمسون عاما لاحقة على وجه التقريب. ولقد ظلت اللوحة الثانية بمنزلة لغز محير، حتى تذكر باحث مصري معاصر في مجال الآثار لعبة كان يلعبها في صباه. وعندها أيقن أن الولدين اللذين تصورهما اللوحة، الواحد فوق الآخر، وينظران في نفس الاتجاه، ينبغي أن نتخيل أنهما يشكلان زوجا يواجه فيه الواحد الآخر، ويقومان كحاجز سوف يقفز فوقه ولد ثالث. ويقوم في إطار اللعبة الولدان الجالسان بتصعيب مهمة القافز بصورة متزايدة برفع أيديهما المفرودتين شيئا فشيئا. ولما كان الولدان الجالسان يرفعان رجليهما أيضا فإن اللعبة تجمع، كما هو واضح، بين القفز الطويل والقفز العالي. وتمدنا مقبرة "ميري روكا" بسلسلة تضم ثلاثة عدائين قفازين، ولكن مقبرة "بتاح حتب" تظهر لنا لاعبا واحدا وهو يستعد للقفز. وقد عرف المصريون هذه اللعبة باسم "الولد في الغيط ". وتبدوهذه اللعبة أشبه بلعبة الأطفال المعروفة في الوقت الحاضر باسم "قفزة الضفادع".

وتكشف لنا مقبرتان من مقابر "بني حسن" بالمنيا عن نسق القفز عاليا من الوضع واقفا تؤديه هذه المرة سيدة تثني رجليها إلى الخلف، ونشاهد في المنظر أن الحركة مقسمة إلى مراحل متعاقبة، الأمر الذي يعطي المرء إحساسا بوجود سياق سيماتوجرافي. وفي هذا الصدد ينبغي علينا أن نشير إلى القصة الخيالية المعروفة باسم "الأمير المحكوم عليه بالموت"،فالقصة توارب الباب أمام احتمال أن تكون مصر القديمة قد عرفت مسابقات القفز العالي.

رياضات النزال

ويمضي المؤلف إلى إفراد باب خاص حول "رياضات النزال" ويقول: كانت القوة الجسدية في العصور الأولى من التاريخ الإنساني تحدد إلى حد بعيد المكانة الاجتماعية للفرد. ونستطيع أن نقول ببساطة إن بناء نسق اجتماعي هرمي الشكل كان يقوم خلال المسابقات التي تجرى بين شخص وآخر، وكانت الجماعة ترفع هذه المسابقات إلى مصاف الطقوس بغية الحفاظ على استمرارها على قيد الحياة، ولكنها كانت تتم وفقا لقواعد رياضية. ونستطيع أن نرصد صدى هذه الحقيقة في القيمة العليا التي أضفاها الإنسان في فجر التاريخ على رياضات النزال في العديد من الحضارات القديمة.

المصارعة

وتُعد المصارعة بين جميع أنساق الرياضات في مصر، أفضل الأنساق فيما يتعلق بتوافر الأدلة البصرية التي توثق وجودها. فاعتبارا من بدايات التاريخ في مطلع الألف الأول حتى نهاية المملكة الحديثة في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، نقابل رسوما متعددة للمصارعين على أساس زوجي وقد وعاها لنا التاريخ، الأمر الذي يوحي بارتقاء نسق المصارعة إلى مكانة عالية لدى المصريين، ولكن ما يعوزنا حقا هو وجود مصادر مكتوبة عن المصارعة، اللهم إلا شروح الصور، وتلك لا تزيد في العادة على جملة واحدة هي صرخة تحد أو زهو أمام الخصم، وفضلا عن ذلك فنحن لا نعرف الكلمة المصرية القديمة للمصارعة،والآمال التي يعلقها سي.اي.فرايز على إلقاء الضوء على الموضوع باكتشاف "بردية" عن المصارعة لا تزال تحوم في الأفق، ولعل أقدم صورة للمصارعة نصادفها فيما يسمى بـ "صلاية المدن" التي ترجع إلى عصر توحيد المملكتين. وتقدم لنا اللقطات الست الخاطفة لمباراة المصارعة التي نجدها مرسومة في مقبرة "بتاح حتب" من الأسرة الخامسة صورة خالية تماما من أي طابع رمزي، حيث نشاهد ابن بتاح وهو"آخيت - حوتب"، (الذي يشاطر والده مقبرته)، يصارع قرينا شابا يناهزه في العمر. وتشير ضفائر المصارعين المرسلة بروح شبابية على كتفيهما إلى أنهما كانا في ريعان الصبا. ويقول المؤلف إن الدهشة تستولي علينا كلما أمعنا النظر في التطويحات والطرحات الجسور التي تبادلها اللاعبان في تلك الفترة المبكرة من المملكة القديمة. كما أننا نستطيع أن نتعرف مبدأين ظلا ساريين في أوقات لاحقة، فلقد سمحت القواعد في ذلك الحين للاعب بأن يمسك خصمه من أي جزء من أجزاء جسمه، وهو الأمر الذي استمر ساريا في المصارعة اليونانية، وبالتالي فهذا النوع من المصارعة يشبه إلى حد بعيد، ما نعرفه اليوم بالمصارعة الحرة.

واكتسبت رياضة التحطيب شعبية واسعة خلال الدولة الحديثة، إذ رآها المصريون القدماء قريبة الشبه بالمصارعة. ولعلنا نلاحظ على وجه الخصوص أن المصريين القدماء مالوا باستمرار إلى تضمين اللعبتين (التحطيب والمصارعة) في برامجهم الرياضية، ففضلا عن ظهور اللعبتين في الصورة المرسومة أمام ضريح تحوت - موس الثالث الذي يضم تمثاله، وهي الصورة التي قد تكون تصويرا لمشهد من الألعاب الجنائزية، وفي صورة تعد تمثيلا لمسابقة دولية تحت شرفة الفرجة التي كان رمسيس الثالث يطل منها، ظهر النوعان من اللاعبين، أي المصارع المحطب، جنبا إلى جنب في احتفالات تقديم الجزية عند قدمي آمين - حوتب الرابع. ونلاحظ أن اللاعبين الثلاثة الأوائل في المنظر الذي تصور مشهدا للمصارعة وهو من مقبرة "تجانوني" يحملون عصيا في أيديهم، الأمر الذي ينطوي على ازدواج صفتهم، فكانوا يلعبون كمصارعين، كما يشتركون في لعبة التحطيب. وعلى نفس المنوال نشاهد النسقين مرسومين على عمود العمارنة الحجري، الذي يحمل رسما نرى فيه المصارعين والمعايصين (المحطبين) النوبيين، وخلافا لما جرت عليه الأعراف، جنبا إلى جنب. وتصور لنا إحدى الشقف الفخارية معايصا يواجه مصارعا. وعلاوة على ذلك ثمة رسوم تصور لنا معايصين (محطبين) وحسب كموتيف مفرد. وفي إحدى هذه الرسوم يقف هؤلاء المعايصون (المحطبون) على مقربة بالغة من الملاكمين. ونستطيع أن نقف على تقييم مقارن لرسوم التحطيب، ليس خلال التعليقات التي صاحبت مختلف أنواع هذا النسق الرياضي وحسب، بل أيضا وإلى درجة ما خلال ما يقوم به الباحثون من إعادة تكوين المباريات من الصور الناقصة في الوقت الحاضر. فقبل بدء المباراة كان اللاعبون ينحنون للجمهور، وقبل بدء النزال كان اللاعبان يستعرضان سلاحيهما، بأن يجعلا طرفي عصويهما يلمس الواحد الآخر، وبعد هذا الطقس الاحتفالي يبدأ النزال، أي تبادل الضرب مع الخصم وتفادي ضرباته وترقيصه، بمعنى تضليله. ويستطيع المرء أن يتخيل كيف كان المشهد يتغير من حال إلى حال بسرعة فائقة مع استخدام العصي في القرع دون الطعن.

ويرجع الفضل إلى نفاذ بصيرة البروفيسور "كيل Keel" في لفت الأنظار إلى منظر آخر من مناظر التحطيب في مصر القديمة. ونقابل هذا المنظر مرسوما في مقبرة خونس (الأسرة ال 19)، وهو عبارة عن مركب طقوسي للإله "مونت" وقد شد إليه قارب من قوارب التجديف. ويحمل القارب "بغداديا" أي ما يشبه الشمسية المعدنية يقف على سطوحه، لاعبان من لاعبي التحطيب، وهما منخرطان في الضراب، وهذا أمر مفهوم في ضوء الحقيقة التي تقول إن "مونت" كان إله الحرب عند المصريين. ونستطيع من جانب آخر أن نقارن بين الباحة التي تحددها أشكال طبيعية على سطوح القارب حيث تدور المباراة وبين حلبة الملاكمة في الوقت الحاضر. كما نستطيع أيضا أن ننظر إلى تلك المبارزة التي تقع بين شخصين اثنين في قارب من جدائل البردي على أنها نوع من أنواع التحطيب، وكان لا يزال في وسع المؤرخ والرحالة اليوناني هيرودوت الذي طاف خلال وادي النيل منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أن يشاهد في ذلك الوقت المتأخر مباريات تحطيب كجزء محوري في أحد الاحتفالات الطقوسية في مدينة "بابريميس" في قلب دلتا نهر النيل.

الملاكمة

تعد الملاكمة رياضة النزال الثالثة التي عرفتها مصر القديمة، ولكننا لم نهتد حتى الآن إلا على دليل واحد عليها، وهو الدليل الذي نقابله في مقبرة "خيرداف" حيث ينضم ملاكمان إلى لاعبي تحطيب في إطار طقسي نصب عمود "جيد" رمز أوزيريس الحي. وجاءت إقامة هذا الرمز الطقوسي خلال احتفال التجديد للفرعون المجيد آمين - حوتب الثالث، وهو احتفال شاركت فيه فنون الرقص والموسيقى ورياضات النزال. غير أنني لم أملك نفسي من الدهشة عندما وقعت عيناي بين المصادر غير المصرية للرياضة في مصر القديمة على ما أسماه المؤلف بـ "إسرائيل القديمة" فالإسرائيليون لم يظهروا على مسرح الشرق الأدنى القديم إلا في وقت متأخر، إذ لا تتجاوز أقدم إشارة إليهم ألف عام وحسب قبل الميلاد، ودع عنك أساطيرهم وخرافاتهم تلك التي تركت أثرا في ثقافة المنطقة، لا يتناسب مع وجودهم التاريخي الهزيل. ولا أزال أقف حائرا أمام هذه المفارقة الصارخة بين التاريخ والأسطورة في هذا الشأن.

 

بيومي قنديـل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب