هذه قصيدة أتيح
لها - بفضل شدوسيدة الغناء العربي أم كلثوم - شهرة واسعة، وتناقلتها الألسنة
والأسماع إعجابا بالصياغة الشعرية وعذوبة اللحن ورقته، والأداء الآسر المعبر. وربما
ساعد على تحقيق هذه الشهرة الواسعة أن القصيدة أشبهت قصيدة من عيون شعر أحمد شوقي
ذاعت بدورها في سماء الغناء ورددها عشاق الشعر الأصيل ومحبوه وهي القصيدة التي عرفت
باسم "يا جارة الوادي" التي تغنى بها الموسيقار محمد عبدالوهاب، وهي في حقيقتها
أبيات مختارة من قصيدة "زحلة" التي حيا بها شوقي لبنان وأفاض في التعبير عن ذكرياته
ووصف بديع مجاليه، ويستهلها بقوله :
شيعت أحلامي بقلب
باك |
ولممت من طرق الملاح
شباكي |
لكن المغني آثر
أن يبدأ غناءه بقول شوقي :
يا جارة الوادي طربت
وعادني |
ما يشبه الأحلام من
ذكراك |
مثلت في الذكرى هواك وفي
الكرى |
والذكريات صدى السنين
الحاكي |
وقد نشرت قصيدة
شوقي لأول مرة في عام 1927، أما القصيدة التي نتحدث عنها فهي للشاعر علي الجارم
ويشير ديوانه إلى أن تاريخها هو عام 1916 أي أنها سابقة على قصيدة شوقي بأحد عشر
عاما، وتحمل عنوانا هو"الحب والحرب"، يقول في مستهلها :
مالي فتنت بلحظك
الفتاك |
وسلوت كل مليحة
إلاك |
يسراك قد ملكت زمام
صبابتي |
ومضلتي وهداي في
يمناك |
وصاحب هذه القصيدة
هو عميد "مدرسة دار العلوم الشعرية" كما لقبه عباس محمود العقاد، واصفا هذه المدرسة
بأنها مدرسة الديباجة والنصاعة والبيان، والعناية باللغة والصياغة، والسير على نهج
القصيدة العربية في عصور الازدهار، ومن أعلامها محمد عبدالمطلب ومحمود غنيم وعلي
الجندي وطاهر أبوفاشا وأحمد مخيمر والعوضي الوكيل، ولم يكن على الجارم شاعرا كبيرا
فقط، لكنه لغوي ضليع، من بين الأعضاء الأوائل في مجمع اللغة العربية شارك في كثير
من لجانه بأبحاثه ودراساته، وأديب له العديد من المؤلفات القصصية عن المتنبي وأبي
فراس الحمداني والوليد بن يزيد، بالإضافة إلى دراسات في النحووالبلاغة وعلم النفس
والتربية.
ولد علي الجارم
عام 1881 في مدينة رشيد، وتعلم في الأزهر ودار العلوم وتخرج فيها في سنة 1908، ثم
أرسل في بعثة إلى إنجلترا فأقام سنة بمدينة نوتنجهام درس فيها اللغة الإنجليزية، ثم
التحق بكلية المعلمين بإكستر ومكث بها ثلاث سنوات درس فيها علم النفس وعلوم التربية
والمنطق والأدب الإنجليزي، وحصل على إجازة في كل هذه المواد. وعاد إلى مصر سنة 1912
فعين مدرسا بمدرسة التجارة المتوسطة ثم نقل منها بعد سنة إلى دار العلوم مدرسا
لعلوم التربية، ثم نقل مفتشا بوزارة المعارف، ثم رقي إلى وظيفة كبير مفتشي اللغة
العربية وبقي فيها حتى سنة 1940 حين نقل وكيلا لدار العلوم، وظل فيها إلى أن أحيل
إلى المعاش، وكانت وفاته سنة 1949 وهو يستمع لقصيدته في رثاء محمود فهمي النقراشي
يلقيها ابنه نيابة عنه.
والطريف أن قصيدتي
على الجارم وأحمد شوقي تنسجان على منوال قصيدة معروفة للشريف الرضي - الذي عاش في
القرنين الرابع والخامس الهجريين - التفت إليها المغنون في عصور متتابعة لما تميزت
به رقة وعذوبة وتدفقا،وما امتلأت به من توهج إحساس وحرارة عاطفة. يقول الشريف الرضي
في مستهلها :
يا ظبية البان ترعى في
خمائله |
ليهنك اليوم أن القلب
مرعاك |
لكن
قصيدتي الجارم وشوقي تخالفان قصيدة الشريف الرضي في الوزن الشعري فهما من بحر
الكامل أما قصيدة الشريف فمن بحر البسيط.
ويصور الجارم
حوارا دار بين ملهمة قصيدته وصاحبة لها تدعوها إلى أن تترفق به وألا تقضي عليه،
لكن المحبوبة لا تصغي ولا تنصت وقسا قلبها وما لان، بينما كانت صاحبتها - التي لا
يربطه بها علاقة - أحني عليه وأكثر عطفا. وهو موقف يذكرنا بحوار مماثل في قصيدة
للشاعر العباسي على بن الجهم، الحبيبة فيه تقسووتجفووصاحبتها تعطف وتدعوها لبعض
الرقة واللين والوصال.
يقول علي بن الجهم
:
فقالت لها الأخرى : فما
لصديقنا |
معنى، وهل في قتله لك من
عذر |
صليه، لعل الوصل يحييه،
واعلمي |
بأن أسير الحب في أعظم
الأسر |
ولشاعر النيل حافظ
إبراهيم قصيدة جميلة يستهلها بالغزل، ثم ينتقل إلى الحديث عن الخديوي عباس متناولا
موضوع الفتنة الطائفية في مصر، لكنه ينحوالنحونفسه الذي بدأه على بن الجهم في تصوير
موقف الحوار بين المحبوبة وصويحباتها وهن يتساءلن عن ذلك الشاكي الذي جاء يتظلم،
يقول حافظ إبراهيم :
لله موقفنا وقد
ناجيتها |
بعظيم ما يخفي الفؤاد
ويكتم |
قالت : من الشاكي؟ تسائل
سربها |
عني، ومن هذا الذي
يتظلم؟ |
فأجبنها وعجبن كيف
تجاهلت : |
هو ذلك المتوجع
المتألم |
لكن تناول الجارم
لهذا الموقف الذي سبقه إليه علي ابن الجهم وحافظ إبراهيم يبدوأكثر رقة وسلاسة،
وأكثر احتفالا بالصياغة الشعرية المحكمة، وامتلاء بالتوهج والحرارة، خاصة أن قصيدته
من إبداع الشباب وفوران القلب وتوقد الوجدان.
وينتقل الشاعر من
ظلم الحبيبة وقسوتها إلى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان من عهد قابيل،وكيف أن الأرض قد
ارتوت بالدماء التي أهرقتها المعارك والحروب الطاحنة - وقد صيغت القصيدة إبان الحرب
العالمية الأولى سنة 1916 - والبشرية كلها يتهددها خطر ساحق ودمار فادح وأهوال
عاتية وكوكب الأرض يستحيل إلى دائرة للفتك والتدمير والإهلاك - كما يقول الشاعر -
فليت البحار تطغى وتغرق الأرض وليت السماء تطوى كطي السجل :
ليت البحار طغت عليك
وسجرت |
أو أن من يطوي السماء
طواك |
إن الحرب تتهدد
الحب، وتطارد الأمان، وتقضي على إنسانية الإنسان، وتثير الأحقاد والعداوات والضغائن
بدلا من مشاعر المحبة والتعاطف والتواصل.
يقول علي الجارم
:
مالي فتنت بلحظك
الفتاك |
وسلوت كل مليحة
إلاك؟ |
يسراك قد ملكت زمام
صبابتي |
ومضلتي وهداي في
يمناك. |
فإذا وصلت، فكل شيء
باسم |
وإذا هجرت، فكل شيء
باكي. |
هذا دمي في وجنتيك
عرفته |
لا تستطيع جحوده
عيناك!. |
لولم أخف حر الهوى
ولهيبه |
لجعلت بين جوانحي
مثواك. |
إني أغار من الكئوس
فجنبي |
كأس المدامة أن تقبل
فاك. |
خدعتك ما عذب السلاف
وإنما |
قد ذقت لما دقت
حلولماك. |
لك من شبابك أو دلالك
نشوة |
سحر الأنام بفعلها
عطفاك. |
قالت خليلتها لها
لتلينها |
ماذا جنى لما هجرت
فتاك؟. |
هي نظرة لاقت بعينك
مثلها |
ما كان أغناه وما
أغناك!. |
قد كان أرسلها لصيدك
لاهيا |
ففررت منة وعاد في
الأشراك. |
عهدي به لبق الحديث
فماله |
لا يستطيع القول حين
يراك. |
إياك أن تقضي عليه،
فإنه |
عرف الحياة بحبه
إياك. |
إن الشباب وديعة
مردودة |
والزهد فيه تزمت
النساك. |
فتشممي ورد الحياة،
فإنه |
يمضي، ولا يبقى سوى
الأشواك. |
لم تنصتي، ومشيت غير
مجيبة |
حتى كأن حديثها
لسواك. |
وبكت علي، فما رحمت
بكاءها |
ما كان أعطفها، وما
أقساك!. |
عطفت علي النيرات
وساءلت |
مذعورة قمر السماء
أخاك. |
قالت نرى شبحا يروح
ويغتدي |
ويبث في الأكوان لوعة
شاكي. |
أنات مجروح يعالج
سهمه |
وزفير مأسور بغير
فكاك. |
يقضي سواد الليل غير
موسد |
عين مسهدة، وقلب
ذاكي. |
حتى إذا ما الصبح جرد
نصله |
ألفيتة جسما بغير
حراك. |
إنا نكاد أسى عليه،
ورحمة |
لشبابه، نهوي من
الأفلاك. |
من عهد قابيل وليس
أمامنا |
في الأرض غير تشاكس
وعراك. |
ما بين فاتكة تصول
بقدها |
وفتى يصول برمحه
فتاك. |
يا أرض ويحك قد رويت
فأسئري |
وكفاك من تلك الدماء
كفاك!. |
في كل ربع من ربوعك
مأتم |
وثواكل ونوادب
وبواكي. |
قد قام أهل العلم فيك
ودبروا |
برئت يدي من إثمهم
ويداك!. |
كاشفتهم سر العناصر
فانبروا |
يتخيرون أمضها
لرداك. |
نثروا كنانتهم، وكل
سهامها |
للفتك والتدمير
والإهلاك. |
دخلوا على العقبان في أو
كارها |
وتسربوا لمسابح
الأسماك!. |
فتأملي، هل في تخومك
مأمن؟ |
أم هل هنالك معقل
بذراك؟. |
ظهر الليوث وذاك أصعب
مركب |
أو فى وأكرم من أديم
ثراك. |
ليت البحار طغت عليك
وسجرت |
أو أن من يطوي السماء
طواك!. |
لم يبق في الإنسان غير
ذمائه |
فدراك يارب السماء
دراك! |
وإذا النفوس تفرقت
نزعاتها |
قامت إذا قامت بغير
مساك. |
والسيف أظلم ما فزعت
لحكمه |
والحزم خير شمائل
الأملاك. |
ومن الدماء طهارة
وعدالة |
ومن الدماء جناية
السفاك. |
والعلم ميزان الحياة فإن
هوى |
هوت الحياة لأسفل
الأدراك. |