هل تقوم لغة عالمية واحدة? أحمد أبوزيد

هل تقوم لغة عالمية واحدة?

إنها لغة مستمدة من الواقع, ومشتركة بين العديد من المجتمعات, رغم أنها تعبر عن حقائق جديدة لم تكن موجودة قبل الآن. تلك لغة الإعلام والتكنولوجيا الجديدة.

من أهم التغيرات التي طرأت على الحياة الفكرية العامة في العقود الأخيرة من القرن العشرين انتشار عدد كبير من الكلمات والمصطلحات ذات الطابع الأكاديمي بين أوساط المثقفين غير المتخصصين في فروع المعرفة التي تنتسب إليها هذه المصطلحات, بل ودخول بعضها بلغاتها الأصلية في الحديث اليومي بين فئات واسعة من عامة الناس الذين لا يكادون يعرفون الدلالة أو الأبعاد الحقيقية لهذه المصطلحات مثل كلمة الكمبيوتر والإنترنت والصواريخ ومركبات الفضاء والأقمار الصناعية بل وفي بعض الأحيان كلمات مثل ثقب الأوزون والجينات والسوفت وير وما إليها. وقد انتشرت هذه الكلمات بطبيعة الحال على هذا النطاق الواسع بفضل تقدم وسائل الإعلام والاتصال التي ساعدت على سهولة التدفق المعلوماتي. وبعد أن كانت هذه المصطلحات والمعلومات حكرا على فئة متميزة من العلماء والأكاديميين المتخصصين في المجتمعات المتقدمة علميا وتكنولوجيا شاعت حتى في المجتمعات القبلية المتخلفة التي كانت حتى عهد غير بعيد تستمد كل معارفها ومعلوماتها من الكبار عن طريق الرواية الشفهية إلى أن عرفت طريقها إلى الراديو ثم التليفزيون ومن بعدهما الفيديو. وظهر نتيجة لذلك ما يمكن اعتباره لغة مشتركة بين معظم مجتمعات العالم من ناحية, ومختلف قطاعات وشرائح المجتمع الواحد من ناحية أخرى. فوسائل الإعلام والاتصال تزود الناس وبخاصة من الأجيال الجديدة بمعلومات جديدة وبثروة لفظية تختلف كل الاختلاف عما توارثته الأجيال السابقة وتناقلته بأساليبها البسيطة التي أصبحت ساذجة ومتخلفة أمام إنجازات العلم والتكنولوجيا الحديثة. ومع أن دخول هذه الألفاظ والمصطلحات والتعبيرات وما يرتبط بها من أفكار وتصورات ومفاهيم يعتبر عامل قوة وثراء للغات التي تتقبلها وتدرجها بصورتها الأجنبية الأصلية ضمن قاموسها اللغوي فإن الكثيرين من الكتاب والمفكرين يرون أن هذا (التسلل) اللغوي قد يكون مصدر تهديد لمقومات اللغات الوطنية ولذا يجب الحد من انتشارها أو على الأصح يجب ترجمتها إلى تلك اللغات لتقريبها من الأذهان أولا وللمحافظة ثانيا على الهوية الوطنية لتلك اللغات.

انتشار اللغة.. انتشار الأفكار

والواقع أن المسألة أخطر بكثير من مجرد انتشار ألفاظ أو دخول مصطلحات غربية غريبة إلى اللغات الوطنية. فالكلمات تحمل كثيرا من معالم ومقومات الثقافة التي تؤلف هذه الكلمات جزءا منها ولذا فإن انتشارها خارج حدودها الوطنية يعني انتشار مقومات وأفكار وتصورات ومفاهيم بل وقيم هذه الثقافة وبالتالي إخضاع الثقافات الأخرى التي تتقبل هذه الكلمات والمصطلحات لهيمنتها. ولما كانت لغة الغالبية العظمى من تلك المصطلحات العلمية هي اللغة الإنجليزية نظرا لتفوق المجتمع الأمريكي في مجال العلوم والتكنولوجيات الحديثة المتطورة فقد أدى ذلك إلى انتشار اللغة الإنجليزية في معظم أنحاء العالم وإلى مزاحمتها اللغات الوطنية والقومية في كثير من الأحيان, ولم يكد يفلت من ذلك حتى المجتمعات واللغات الأوربية ذاتها. وليس من شك في أن انتشار هذه المصطلحات والتعبيرات اللغوية التي تصاغ فيها هذه المصطلحات والمفاهيم التي تحملها يساعد على التقارب بين الشعوب على الأقل في هذه المجالات المحددة وإن كان يثير في الوقت ذاته التساؤل عما إذا كان ذلك يؤدي في آخر الأمر إلى قيام لغة عالمية واحدة يمكنها تحقيق هذا التقارب على الوجه الأكمل, وهل يمكن للغة الإنجليزية التي تجد كل هذا الانتشار والإقبال أن تتولى هذه المهمة الضخمة, أم أن الأمر سوف يحتاج إلى (اختراع) لغة لها من السهولة وبساطة التركيب والقدرة على الذيوع ما يساعد الشعوب المختلفة على تقبلها واستخدامها ليس فقط في النشاط العلمي والتكنولوجي المحدود بل وأيضا في كثير من أنشطة الحياة الأخرى مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بلغاتها الوطنية? ثم ما الشروط التي يجب توافرها في مثل هذه اللغة حتى يمكنها فرض نفسها على شعوب العالم?

ولقد شغلت مجلة أتلانتيك الشهرية Atlantic Monthly الأمريكية نفسها بهذه المشكلة وشاركها في ذلك عدد من المعاهد ومراكز البحوث التي تهتم بمستقبل اللغة في عالم سريع التغير نتيجة لتقدم أساليب وتكنولوجيا المعلومات والاتصال. ففي عدد نوفمبر 2000 مثلا ظهر مقال طويل كتبته باربارة وولراف - وهي إحدى محررات المجلة - عن إمكان قيام لغة عالمية وماهية هذه اللغة, وفيه تذكر أن انتشار اللغات خارج حدود أوطانها يتوقف إلى حد كبير على سهولة اللغة وسرعة تعلمها بفضل بساطة تركيباتها النحوية, وتستشهد على ذلك بأن المتقدمين من الأمريكيين للعمل في الخارجية الأمريكية يحتاجون إلى أربعة وعشرين أسبوعا فقط لتعلم أي من اللغات الألمانية, الإيطالية, الفرنسية, الإسبانية, البرتغالية لتقارب تراكيبها النحوية البسيطة مع الإنجليزية ولذلك تنتشر هذه اللغات أكثر من غيرها في العالم مع بعض التفاوت فيما بينها في درجة الانتشار, بينما يتطلب تعلم لغات مثل السواحيلية (شرق إفريقيا) والإندونيسية والماليزية إلى ستة وثلاثين أسبوعا, ويحتاج تعلم الهندية والأوردية والروسية إلى أربعة وأربعين أسبوعا. أما تعلم العربية والصينية واليابانية والكورية فإنه يحتاج إلى ثمانية وثمانين أسبوعا. وتعتبر الإنجليزية من أبسط هذه اللغات جميعا وأسرعها في التعلم ولذا فإنها مؤهلة ومرشحة لأن تكون هي اللغة العالمية التي قد تسود العالم كله في المستقبل. وثمة شواهد كثيرة تشير إلى إمكان تحقيق هذا التوقع.

الإنترنت واللغة الواحدة

أول هذه الشواهد هو ذلك الكم الهائل من المواد المتاحة باللغة الإنجليزية على شبكات الإنترنت والتي تقدر بحوالي 80% من كل المواد المعروضة, كما أن عدد الذين يستخدمون الإنترنت للحصول على هذه المواد من بين غير المتكلمين بالإنجليزية (كلغة أصيلة) يزدادون بمعدلات كبيرة جدا تفوق معدلات الزيادة بين الناطقين بها. ويقدر عدد الناطقين بالإنجليزية (اللغة الأم) بحوالي 375 مليون نسمة بينما يصل عدد المتكلمين باللغات الأخرى في العالم إلى أكثر من 5700 مليون نسمة تقريبا; ويؤلف مستخدمو الإنترنت من غير المتكلمين بالإنجليزية للحصول على مواد بالإنجليزية أكثر من 44% من مجموع الذين يعتمدون على الإنترنت في مختلف اللغات. وقد يذهب البعض إلى أن هذا النمو في الاتجاه نحو المواد المعروضة بالإنجليزية قد بلغ مداه الآن وأنه سوف تعقبه فترة من التراجع والنكوص ليس لانصراف الناس عن هذه المواد المتاحة على الشبكة ولكن لدخول شعوب وثقافات ولغات أخرى إلى الميدان مما يتيح التنوع واتساع المجال للاختيار والإقبال على تعلم اللغات الأخرى من هذه المواد. ومع ذلك فإن انتشار اللغة الإنجليزية على هذا النطاق الواسع يسبب كثيرا من الانزعاج لدول الاتحاد الأوربي التي بدأت تخشى أن تحل الإنجليزية محل بعض اللغات الأوربية ليس فقط في مجال التعامل الاقتصادي أو البحث العلمي ولكن أيضا في مجال التدريس في مراحل الدراسات العليا, كما هو الشأن الآن في هولندا حيث تقوم الدعوة إلى استبدال الإنجليزية بالهولندية اللغة الأم, أو كما سيكون عليه الحال في الجامعة الألمانية التي تنشأ حاليا في مصر حيث يتم الإعلان عن أن لغة التدريس فيها هي الإنجليزية وليست الألمانية. وبصرف النظر عن الهدف الحقيقي وراء هذا الاتجاه بالنسبة لهذه الجامعة الألمانية الوليدة, إذ قد يكون مجرد وسيلة لجذب أعداد كبيرة من الطلاب عسى أن تتاح الفرصة أثناء الدراسة لتعريفهم بالألمانية وآدابها وإنجازاتها في مختلف فروع المعرفة بحيث تكسب أرضا جديدة في المستقبل, فإن المهم هو تسليم الألمان بالتفوق الإنجليزي اللغوي في مدى الانتشار وإقبال الناس عليه.

والشاهد الثاني على انتشار الإنجليزية واحتمال أن تصبح هي اللغة العالمية في المستقبل غير البعيد هو أن الإنجليزية تعتبر الآن لغة العلم التي تستخدم في إجراء البحوث ونشر النتائج على مستوى العالم. ففي ألمانيا على سبيل المثال - وهي دولة تعتز اعتزازا كبيرا بلغتها وثقافتها وإنجازاتها العلمية - نجد أن 98% من بحوث الفيزياء و83% من البحوث الكيميائية تجرى وتنشر باللغة الإنجليزية. كذلك تعتبر الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبنك الأوربي المركزي رغم أنه يوجد في فرانكفورت ورغم أن بريطانيا ليست عضوا في اتحاد النقد الأوربي.

والشاهد الثالث والأخير الذي أتمثل به هنا هو اهتمام دولة كبرى مثل الصين بنشر اللغة الإنجليزية بين الأطفال في المدارس حتى ينشأوا على اتصال ومعرفة بتطورات الحركات العلمية والتكنولوجية في العالم على الرغم من أن الصين تعتبر من أهم الدول التي تزاحم الغرب في كثير من مجالات البحث العلمي وفي إنتاج البرمجيات, ورغم أن اللغة الصينية تأتي في مقدمة اللغات التي ينطقها أكبر عدد من البشر. وتذكر باربارة وولراف, في عدد مجلة أتلانتيك, الذي سبقت الإشارة إليه, أن الصين تقوم الآن بإعداد أربعمائة ألف معلم لتعليم اللغة الإنجليزية لأطفالها, وهو عدد له دلالته ومؤشر على الاعتقاد بأن الإنجليزية مؤهلة لأن تكون هي لغة العولمة المقبلة مثلما هي لغة الإنترنت.

هل تنقسم الإنجليزية?

وليس ثمة ما يدعو إلى الحديث عن مدى انتشار الإنجليزية وتسللها إلى غيرها من اللغات التي تستعير الكثير من ألفاظها وتمزجها مع ألفاظ لغاتها الوطنية في الكلام اليومي العادي, فهذا أمر مشاهد ومسلم به وإن كان يثير كثيرا من الشكوى الناجمة عن الخوف من ضياع نقاء اللغات الوطنية, ولذا نكتفي بهذا القدر من الشواهد المؤيدة للاتجاه القائل باحتمال أن تصبح الإنجليزية لغة العولمة وإن كان هذا لا يتعارض مع استمرار وجود عدد لا بأس به من اللغات (القوية) واحتمال ظهور قوى جديدة تزاحم أمريكا (وبريطانيا والمجموعة الإنجليزية) في نفوذها السياسي والاقتصادي وتعمل بالتالي على نشر لغتها أو لغاتها على حساب الإنجليزية. وترشح هذه التوقعات شرق آسيا وأمريكا اللاتينية بل والمنطقة العربية. أي أن هناك بعض الشكوك القوية حول احتمال أن تصبح اللغة الإنجليزية هي لغة المستقبل التي يمكنها توحيد العالم خاصة وأنها هي ذاتها تتفرع الآن وتنقسم إلى عدد كبير جدا من اللهجات المختلفة المتباعدة بعضها عن بعض والتي قد تتطور لتصبح لغات منفصلة ومتمايزة. بل إن ثمة من بين المفكرين من يرفض تماما فكرة أن تسيطر أي لغة واحدة بحيث تصبح هي اللغة الوحيدة السائدة وأداة التفاهم الوحيدة بين مختلف شعوب العالم, لأن ذلك معناه القضاء على التنوع اللغوي الذي هو أساس التنوع الثقافي الذي ينبغي المحافظة عليه لصالح الإنسانية.

والظاهرة الأخرى الخطيرة التي تثير قلق الكثيرين والتي تتعلق بما نحن فيه من إمكان قيام لغة عالمية واحدة تربط في المستقبل بين مختلف المجتمعات والثقافات هي الاختفاء السريع والمطرد لكثير من اللغات كنتيجة مباشرة لتغلب اللغات (القوية) على حساب اللغات الضعيفة, وهو ما يحققه انتشار وسائل الاتصال والمعلومات الحديثة وبخاصة الإنترنت. ويتوقع كثير من علماء اللغة اختفاء ما يزيد على نصف عدد اللغات الموجودة في العالم الآن والتي تقدر بأكثر من ستة آلاف لغة خلال النصف الأول من القرن الحالي. وتظهر خطورة الوضع بوضوح حين نعرف أن معدل اختفاء اللغات يفوق ضعف معدل اختفاء الثدييات وأربعة أضعاف معدل اختفاء الطيور, وأنه لو استمر الأمر على هذا الحال وبهذه المعدلات فإن عالم المستقبل لن يشهد سوى حوالي عشر لغات قوية أو أكثر قليلا حسب ما تقول روزماري أوستلر في مقال لها في عدد ربيع عام 2000 من مجلة Whole World. وتقدر جريدة التايمز اللندنية في عددها بتاريخ 21 ديسمبر عام 2000 أن اللغات (الضعيفة) تختفي بمعدل لغة واحدة كل أسبوعين تقريبا وأنه لن يبقى من لغات العالم خلال القرن الحالي سوى ألفي لغة فقط. بل إن هناك من يرى أن الوضع سيكون أكثر سوءا من ذلك, وأنه بقدوم عام 2100 قد يكون أكثر من 90% من لغات العالم قد سقطت من الاستخدام وزالت تماما أو في سبيلها إلى الزوال, وأن حوالي 5% فقط من اللغات هي التي ستكون في مأمن من الزوال والاندثار لكثرة عدد المتكلمين بها وقدرتها على الانتقال - لسبب أو لآخر - إلى الأجيال التالية. فالذي يساعد على بقاء واستمرار ما يعرف أحيانا باسم (اللغات السليمة صحيا) هو تعليم اللغة للأطفال بينما انصرافهم عن تعلم لغتهم الوطنية معناه دخول هذه اللغة في دور الاحتضار مهما كثرت أعداد المتكلمين بها من الأجيال الأكبر سنا. ويقدر بعض علماء اللغة - في هذا الصدد - عدد اللغات الموجودة في العالم الآن بحوالي 6800 لغة (حية) ولكن 90% من هذه اللغات يتكلمها أقل من مائة ألف نسمة, بل إن بعضها (حوالي 46 لغة) لا يعرفها سوى شخص واحد فقط وبذلك سوف تموت بموته, كما أن هناك حوالي 357 لغة يتكلمها أقل من خمسين شخصا, بينما يوجد ما يتراوح بين 200 إلى 250 لغة فقط ينطقها أو يتكلم بها أكثر من مليون نسمة وتأتي على رأسها إحدى اللغات الصينية (لغة الماندرين) والإنجليزية والإسبانية كما تدخل العربية طبعا في زمرتها.

موت اللغات

والمفارقة هنا هي أن للعولمة دخلا كبيرا في موت هذه اللغات (الضعيفة) لأنها بدلا من أن تساعد على تقويتها وانتشارها لكي تسهم بدورها في تحقيق التفاهم والتقارب بين الشعوب حسب ما يقضي به منطق العولمة فإنها تقضي عليها كنتيجة مباشرة لارتباط العولمة بالهيمنة الاقتصادية للقوى السياسية والاقتصادية الكبرى التي تفرض بشكل مباشر أو غير مباشر لغاتها على الدول المتخلفة اقتصاديا وهو ما يفسر إلى حد كبير - وعلى ما سبق أن ذكرنا - انتشار اللغة الإنجليزية إلى الحد الذي يؤهلها في رأي الكثيرين لأن تصبح هي اللغة العالمية الكبرى أو لغة العولمة. ومع ذلك فإن هناك عوامل أخرى تساعد على اختفاء كثير من اللغات مثل التعصب العرقي والديني واللغوي الذي يحارب لغة الأقليات.

وقد أدى الشعور بفداحة الأخطار التي تهدد (حياة) هذه اللغات (الضعيفة) إلى الاهتمام الذي يبديه منذ بعض الوقت علماء اللغويات والصوتيات بتسجيل (أصوات) اللغات المهددة بالانقراض وبعض خصائصها الأخرى قبل اندثارها حتى لا تضيع ثروة إنسانية يصعب تعويضها.

ومن ناحية أخرى هناك بعض الجهود التي تبذل من أجل (اختراع) لغة جديدة تتناسب مع استخدامات الكمبيوتر والإنترنت وتتميز بالسهولة والبساطة حتى يمكن تقبلها واستخدامها بغير عناء ولذا يرمز إلى هذه اللغة بكلمة (سهلEasy ). ولكن لم تتضح بعد كل ملامح هذه اللغة أو مدى إمكان تطبيقها والأهم من ذلك تحديد (اللغة) التي سوف تقدم بها هذه اللغة الجديدة في بداية الأمر, وهل هي اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة الإنترنت (في الوقت الحالي على الأقل).

الآلة القارئة

وإذا كان الهدف الأخير من إيجاد لغة واحدة عامة وعالمية هو تسهيل التقارب والتفاهم بين الشعوب فإن الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال والمعلومات الحديثة تعمل علي إزالة الحواجز بين المجموعات البشرية والثقافية المختلفة والمتباينة. وقد تكون الوسيلة الناجعة والمثمرة لتحقيق هذا الهدف هي تطوير عمليات الترجمة بين اللغات المختلفة بالاستعانة بالانترنت, بحيث تتم الترجمة فور نطق الكلمة وبحيث يتحول الكلام بأي لغة إلى نص مكتوب ومنطوق باللغة التي يراد الترجمة إليها, وبذلك يمكن تحويل النص إلى كلام, والكلام إلى نص مقروء من دون مجهود كبير. ومثل هذا التقدم سوف يفيد منه بغير شك فاقدو البصر والعاجزون عن القراءة والكتابة (الأميون). ويبدو أن التكنولوجيا حققت نجاحا ملموسا في هذا المضمار بحيث يقال إن الترجمة أصبحت ميسورة الآن بين حوالي خمسين لغة عن طريق ما يطلق عليه اسم الآلة القارئة Reading Machine بحيث يمكن للشخص أن يوجه كلامه إلى الكمبيوتر عن طريق ميكروفون خاص فيترجم الكمبيوتر كلامه في الحال إلى نص مكتوب باللغة التي يتم تحديدها مسبقا ثم تنطق هذه الترجمة الجديدة نطقا صحيحا وسليما. وهناك جهود أخرى كثيرة تبذل باستمرار لتطويع الكمبيوتر لإنجاز عدد من المتطلبات اللغوية الأخرى التي من شأنها تحقيق ذلك التقارب والتفاهم المنشودين دون الحاجة إلى (اختراع) لغة عالمية واحدة أو الانصياع والاستسلام لهيمنة لغة من اللغات القوية مثل الإنجليزية.

ويواجه العالم الآن بالنسبة لمستقبله اللغوي إحدى اثنتين: إما أن يتجه نحو مزيد من التجانس والتقارب نتيجة لاختفاء واندثار عدد كبير جدا من اللغات الضعيفة مما يعني في الوقت ذاته ضياع جهود آلاف السنين وظهور عالم جديد أكثر فقرا من الناحية اللغوية والثقافية رغم تقدمه التكنولوجي الصارخ, وإما أن تتمكن بعض - وإن لم يكن كل - اللغات التي تعتبر الآن ضعيفة أمام الانتشار الذي حققته الإنجليزية من الصمود والاحتفاظ بتكاملها الثقافي مع تطوير إمكاناتها بحيث تتلاءم مع المستجدات الحديثة في عالم الاتصال والمعلومات وتتعايش مع اللغات الكبرى وبذلك تسهم ولو بقسط بسيط في تحقيق التفاهم والتقارب بين مختلف الشعوب. والذي سوف يتحكم في فوز وتغلب أحد الأمرين هو ما يفعله البشر الآن بأنفسهم ولغاتهم ومدى الاعتزاز بهويتهم الثقافية وإدراكهم لأبعاد التغيرات التي يمر بها العالم الآن وقدرتهم على التكيف مع هذه التغيرات.

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات