المتظاهرون بالثقافة
عرض: أحمد عمر شاهين يحاول هذا الكتاب الخطير أن يكشف زيف فلاسفة ما بعد الحداثة وينزع عنهم أقنعة الثقافة. ربما يكون هذا الكتاب أحد أهم الكتب الثقافية التي صدرت خلال ربع القرن الأخير, وذلك لأسباب عدة أولها: أنه يتناول موضوعا كانت له, وما زالت, شهرة وغلبة ثقافية طوال هذه الفترة, وهو موضوع ما بعد الحداثة بنظرة نقدية علمية موضوعية, وثانيها: ان المؤلفين من كبار أساتذة الرياضيات والطبيعة في جامعتين من أكبر الجامعات الأوربية, وثالثها: ان العاصفة التي أثارها في الدوائر الثقافية حين صدوره بالفرنسية في أكتوبر 1997، ثم بالإنجليزية ومن ترجمة المؤلفين أواخر عام 1998، ما زالت قائمة لم تهدأ بعد, فقد كتبت حوله مئات المقالات في الصحف والمجلات، وآلاف التعليقات على شبكة الإنترنت مؤيدة أو معارضة, مهاجمة أو مدافعة عن المؤلفين, مما يظهر أهمية الموضوع الذي تناولاه. خدعة في مقال بدأت فكرة الكتاب بخدعة, يقول المؤلفان (لعدة سنوات ونحن نراقب بدهشة وحزن صعود اتجاهات ثقافية في بعض الدوائر الأكاديمية الأمريكية, خاصة في أقسام الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية التي تبنت فلسفة ما بعد الحداثة - وهو اتجاه رافض بشكل أو بآخر التراث العقلاني لعصر التنوير - عن طريق بحوث نظرية ليس لها صلة بالعمل التجريبي, وبمعرفة ثقافية نسبية تعتبر العلم لا شيء أكثر من رواية أو أسطورة أو بنية اجتماعية وسط أشياء أخرى كثيرة). وردا على هذه الظاهرة كتب آلان سوكال مقالا في مجلة Social Text الأمريكية سنة 1996، بعنوان (تجاوز الحدود: نحو تأويلات تحولية للثقل النوعي للكم), وهو عبارة عن محاكاة تهكمية لما يسمى بما بعد الحداثة, حشاه بشكل مكثف باقتباسات واستشهادات ومقتطفات موثقة مأخوذة من مؤلفات مجموعة من المفكرين البارزين الفرنسيين والأمريكيين ولم يفطن المشرفون على المجلة إلى الخدعة ونشروا المقال باعتباره يسير مع خط ما بعد الحداثة. ويقول المؤلفان (حين أطلعنا عددا من الأصدقاء العلماء وغير العلماء على الملف الذي يحتوي على هذه المقتطفات, بدأنا نقتنع بأنه يستحق النشر لجمهور أكبر.. فكان هذا الكتاب الذي نشرح فيه بمصطلحات غير فنية, لماذا كانت هذه المقتطفات عبثية ولا تعني شيئاً, كما أردنا أن نناقش الظروف الثقافية التي مكنت مثل هذه البحوث من تحقيق شهرة كبيرة, وتظل حتى الآن دون أن يكشفها أو يفضحها أحد). إن المؤلفين أرادا ببساطة أن يوضحا ان مثقفين مشهورين من فلاسفة ما بعد الحداثة يستخدمون في كتاباتهم, وبشكل متكرر, المفاهيم والمصطلحات العلمية بطريقة خاطئة: إما باستخدام أفكار علمية خارجة عن السياق تماما ودون أي تبرير, أو أنهم يلقون باللغة الاصطلاحية العلمية أمام القراء - غير العلماء بالطبع - دون اعتبار للمقام أو حتى للمعنى الذي يريدونه, مما يجعل كتاباتهم بلا معنى أو تحمل مفاهيم خاطئة. وينبه المؤلفان إلى أنهما ليسا ضد استخدام مصطلحات أحد العلوم في ميدان علم آخر, لكنهما ضد الاستقراء غير المنهجي لهذه المصطلحات. ويقولان (هل يمكننا أن نرفض مثلاً أن تكون لنظرية جوديل Godel أو نظرية النسبية علاقة مباشرة لدراسة المجتمع؟ أو أن تستخدم (مسلمة الاختيار) لدراسة الشعر؟ أو يكون لعلم التوبولوجيا (فرع من الرياضيات يبحث الخصائص الهندسية للأشكال) علاقة بالنفس الإنسانية؟ لكن مع الأسف الامر ليس كذلك عند فلاسفة ما بعد الحداثة.). يتناول الكتاب بالنقاش والتحليل ما جاء في مؤلفات فلاسفة ما بعد الحداثة من سوء استخدام للمفاهيم العلمية, وعدم الفهم الذي يحيط بحوثهم, ولغتهم الغامضة عمداً, وفكرهم المشوش, مع تأكيد أن الاقتباسات التي وردت في الكتاب هي قمة جبل الجليد فقط. وخصص المؤلفان فصلاً لكل فيلسوف من جاك لاكان Lacan إلى جوليا كريستيفا Kristeva، ومن أريجاري Irigary إلى برونو لاتور Latour، ومن جان بودريلاردBaudrillard إلى جايلز ديلوز Deleuze ، ومن جوتاري Guattari إلى فيريليو Virilio مع مقتطفات مطولة تصل إلى صفحات أحياناً حتى لا يقال إنهما يستقطبان جملة من سياق أو فقرة من كتاب, وحللا هذه المقتطفات وبيّنا بالدليل العلمي أنها خالية من المعنى أو مغلوطة. بالإضافة إلى هذه الفصول المتخصصة, هناك ثلاثة فصول شارحة, وهوامش للمفاهيم العلمية المتعلقة بالموضوع, وأيضاَ المراجع التي يمكن الرجوع إليها كنصوص شارحة, كل ذلك ليصل الكتاب إلى القارئ غير المتخصص. سوء استخدام العلم ويوضح المؤلفان اللذان جعلا العنوان الفرعي لكتابهما (سوء استخدام فلاسفة ما بعد الحداثة للعلم),أنهما يعنيان بسوء الاستخدام أحد المعاني التالية: 1- الاعتماد بشكل مطول على النظريات العلمية التي لا يعرف الكاتب عنها شيئاً أو في أحسن الأحوال يفهمها بصورة ضبابية.. مع استخدام المصطلحات العلمية دون اهتمام بما تعنيه هذه المصطلحات بالفعل. 2- استخدام مفاهيم من العلوم الطبيعية, وتطبيقها على العلوم الإنسانية والاجتماعية دون إعطاء أي مبرر تجريبي أو مفهوم لهذا الاستخدام.. فمثلاً إذا أراد أحد علماء البيولوجيا أن يستخدم في بحثه أفكاراً أولية من التوبولوجيا الرياضية أو التباين الهندسي, فلا بد من تقديم بعض التوضيح والشرح, لكن فلاسفة ما بعد الحداثة يفعلون العكس: فلاكان Lacan مثلا يرى أن بنية موضوع العصاب هي نفسها بنية النتوء المستدير! وكريستيفا ترى أن اللغة الشعرية يمكن أن ينظر إليها بمصطلحات نظرية الكم, وبودريلار يرى أن الحرب الحديثة تدورفي فضاء غير إقليدي Non - Euclidean ، كل ذلك دون شرح أو تفسير.. فماذا يفهم القارئ من أقوالهم إذن؟ 3- عرض معارف سطحية بتغليفها بمصطلحات فنية في السياق وهي لا علاقة لها بالموضوع على الإطلاق. والهدف بلا شك هو التأثير على القارئ وتخويف غير المتخصص في العلوم. والأدهى أن بعض الأكاديميين والمعلقين في وسائل الإعلام قد وقعوا في هذا الفخ. لقد قال (رولان بارت) إنه قد تأثر بشدة بدقة (جوليا كريستيفا)! وأعجبت (اللوموند) باستقراء (بول فيريليو) المعلوماتي ! 4- استخدام عبارات وجمل هي في حقيقتها بلا معنى. بعض هؤلاء المؤلفين يجد نشوة حقيقية باستعراض كلمات مرصوصة وراء بعضها البعض تختلف اختلافاً كبيراً في معناها ولا رابطة بينها. بالإضافة إلى توضيح سوء الاستخدام هذا, فقد حلل المؤلفان أيضاً التشوش الفلسفي والعلمي والذي يقوم عليه فكر ما بعد الحداثة, وقدما نقداً علمياً لمشكلة النسبية المعرفية Epistemic Relativism عند هؤلاء الفلاسفة, وبيّنا أن سلسلة من أفكارهم المشتقة من تاريخ وفلسفة العلم لا تملك التضمين الجذري الذي يعزى إليها غالباً. والغريب, كما يقول المؤلفان, أن هؤلاء الفلاسفة يتحدثون بثقة تفوق بكثير كفاءتهم العلمية. فيتباهى (لاكان) بأنه يستخدم أحدث وسائل التطور في التوبولوجيا.! ويتفاخر (لاتور) بأن (أينشتين) من الممكن أن يتعلم منه! إنهم يتخيلون أن بإمكانهم استغلال مكانة العلوم الطبيعية العالية, لإعطاء منهجهم قناعا من الصرامة العلمية, وهم مقتنعون أن لا أحد سيلاحظ ما يفعلونه, ويفضح ممارساتهم. كما يوضح المؤلفان أنهما لا يهاجمان الفلسفة أو العلوم الإنسانية والاجتماعية في عمومها, بل على العكس, فهما يشعران بالأهمية القصوى لهذه العلوم, ويريدان تحذير أولئك الذين يعملون في ميادينها ـ خاصة الطلبة ـ من بعض ظواهر الدجل والخداع الثقافي, ويريدان, على وجه الخصوص, هدم سمعة أن بعض النصوص صعبة لأنها عميقة, ففي حالات كثيرة هذه النصوص تبدو غير مفهومة لأنها في الحقيقة, وللـدقة, لا تعني شيئاً. ويخصص المؤلفان فصلاً كاملاً ليردا فيه مقدماً على الاعتراضات التي قد تراود بعض القراء حول الهدف من الكتاب. فقد يتساءل البعض: هل إساءة استخدام المفاهيم عند هؤلاء المفكرين ناتج عن احتيال مقصود أو خداع نفسي غير مقصود أو منهما معاً? إن الاجابة عن هذا السؤال ليست مهمة في رأيهما, فهدفهما هو إثارة موقف نقدي ليس تجاه أفراد بعينهم, بل تجاه تيار فكري في أوربا وأمريكا ساهم وشجع هذا النوع من البحوث.وقد يقول البعض: إن المؤلفين لم يفهما النصوص التي تناولاها, لكن إذا تعلق الأمر بمفاهيم رياضية وطبيعية محددة المعنى فلا مجال لعدم الفهم خاصة عند علماء تخصصهم هو هذه الموضوعات. وينبه المؤلفان إلى أن نقدهما لا يتناول الأخطاء التي لا حصر لها, بل يركز على عدم العلاقة الواضحة للمصطلح العلمي مع الموضوع المفروض أن يبحثه. وربما يقول قائل إن هذه المصطلحات تستخدم كتشبيه أو كرمز.. ويرد المؤلفان بأننا لسنا هنا في مجال كتابة قصيدة حتى يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.. أما لماذا هؤلاء الكتاب دون غيرهم.., فيوضح المؤلفان انهما لا يكتبان موسوعة من عدة مجلدات لفضح الجميع فمجالهما محدود هو سوء استخدام المصطلحات التي تنتمى إلى مجال تخصصهما - الرياضيات والطبيعة - سوء الاستخدام الذي أصبح (موضة) مؤثرة في الحلقات الثقافية, سوء الاستخدام الذي لم يسبق أن تعرض له أحد بالفضح والتحليل.. للفت النظرإلى ذلك وليس دراسة الظاهرة بالتفصيل. طلقة في حرب الثقافة ويؤكد المؤلفان أن أي تفسير للكتاب بأنه غطاء لمهاجمة (س) من الناس أو الأفكار سواء كانت فكرا فرنسيا أو ثقافة يسارية أمريكية أو مهما كان.. يفترض مسبقا أن (س) قد انتشر بطريقة زائفة وهناك من يكشفها. ويقول المؤلفان (لا نريد أن ينظر لكتابنا كطلقة أخرى في الحروب الثقافية, أو على الاقل وجهة نظر يمينية كأن يقال اليسار الأكاديمي ضد اليمين الأكاديمي, أو اليسار الثقافي ضد اليسار الاقتصادي, إن الافكار التي عرضناها هنا لا علاقة لها مفهومياً ومنطقياً بالسياسة, إن الكتاب يمس مجالاً أوسع من موضوعه بسبب الرابطة الاجتماعية بين تيارات مثقفي ما بعد الحداثة التي ننتقدها وبعض قطاعات اليسار الأمريكي الأكاديمي, ولولا هذا الارتباط لما ذكرنا السياسة على الإطلاق. الكتاب يواجه سياقاً أساسياً مختلفاً تماما في فرنسا عنه في العالم المتحدث بالإنجليزية, فبينما للمؤلفين الفرنسيين الذين ننتقدهم تأثير عميق وكبير على التعليم العالي الفرنسي, ولهم مريدون كثيرون في وسائل الإعلام ودور النشر وطبقة المثقفين - ولهذا السبب كانت ردود الفعل الغاضبة ضدنا - فإن أمثالهم من الأنجلو-أمريكيين ما زالوا أقلية داخل الدوائر الثقافية مما يظهرهم أكثر راديكالية وأقل تخريبا مما هم عليه. لكن كتابنا ليس ضد الراديكالية السياسية, إنه ضد التشويش الثقافي, وليس هدفنا انتقاد اليسار, لكن المساعدة بالدفاع عنه من الجزء الحداثي منه). الكتاب باختصار يتناول فرعين من النقد: - تحليل مجموعة من إساءات الاستخدام الهائلة للمصطلحات العلمية عند فلاسفة ما بعد الحداثة التي اكتشفها (آلان سوكال) وأطلق على أصحابها عنوان الكتاب (المتظاهرون بالثقافة). - نقد (النسبية المعرفية) وسوء الفهم لمعنى علم ما بعد الحداثة. والعلاقة بين النقدين علاقة حتمية سوسيولوجية, فالمتظاهرون بالثقافة من الفرنسيين يتوافقون مع الكثير مما تقول به الدوائر الأكاديمية المتكلمة بالإنجليزية - حيث النسبية المعرفية هي عملة مملكة ما بعد الحداثة. ولأن المقتطفات التي حللها المؤلفان من النصوص ما بعد الحداثية تتجاوز الصفحة أو الصفحتين في المرة الواحدة, فمن الصعب الاستشهاد الكامل بها, لكني سأختار هنا جملتين للتوضيح فقط, إحداهما للاكان Lacan والأخرى لكريستيفا. يقول لاكان (في هذا الفضاء من اللذة, هناك شيء ما يحد ويغلق ويشكل مقاما ما, وعند التحدث عنه فإننا ننشئ نوعا من التوبولوجيا). ويقول (سوكال): في هذه الجملة استخدم (لاكان) أربعة مصطلحات فنية من الرياضة التحليلية (فضاء, يحد, يغلق, توبولوجيا) لكن دون أن يلتفت لأي اعتبار لمعناها, ولذا فالجملة غير مفهومة من وجهة النظر الرياضية والأكثر أهمية أن (لاكان) لا يشرح للقارئ علاقة هذه المفاهيم الرياضية بالتحليل النفسي, وحتى لو كان مفهوم (اللذة) واضحا وله معنى محدد, فلم يقدم (لاكان) سببا في كون هذه (اللذة) فضاء بالمعنى الفني لهذه الكلمة في التوبولوجيا. وتقول جوليا كريستيفا (إن انسجام (مسلمة الاختيار وفرضية التعميم الكمي المتصلة) مع (مسلمة النظرية القاعدية) تضعنا في مستوى الاستدلال المنطقي حول النظرية, وهكذا فإنه في النظرية الشارحة (وكذلك في حالة الاستدلال العلاماتي Semiotic ) نصل إلى اكتمال الفكرة كما قال بها (جوديل..). ويقول المؤلفان (هنا تحاول المؤلفة أن تؤثر على القارئ بلغة اصطلاحية فنية. لقد استشهدت بنظرية شارحة رياضية منطقية, دون أن تهتم بالتوضيح للقارئ محتوى هذه النظرية, والأكثر ما علاقتها أصلا بعلم اللغة. فمن الصعب تخيل أن فرضية الكم التي تخص أوضاعا مطلقة لا يمكن عدها, أن يكون لها استخدام أو تطبيق على علم اللغة, فكل لغة, من الإنجليزية إلى الصينية, لها أبجدية محددة, وكتب مكونة من تتابع محدد للحروف, ومهما كانت مطلقة الطول فهي في النهاية تقع تحت بند المعدود. وبالتالي فإن هذه الجملة في حقيقتها ليس لها معنى).