عن احتراق بـعـض الـتـفـاصيـل

عن احتراق بـعـض الـتـفـاصيـل

قصة قصيرة

آلمتني شكة طبيبة التحاليل وهي تأخذ عيّنة. فتحت عيني بعد وقت فأدركت أن كمية الدم كبيرة على نحو ما. أكّدت عليّ بضرورة تناول الإفطار في غضون عشر دقائق تحديداً ثم المكوث ساعتين والعودة بعدها, كنت أشعر بشيء من الارتباك في الرؤية والسمع والشم والإحساس والتواصل مع البشر, وفي أنفي رائحة دائمة لا أعرف مبعثها, تشبه على نحو ما رائحة الخبز المحروق أو الأرز المحروق أو القطن المحروق, ربما كانت رائحة القلب المحروق.

وفي أذني صوت دائم لا ينقطع بصراخ وأنين وأصوات زحام وجري وهرولة, وكأن العالم في حالة فزع وهلع وبكاء ونحيب, فأتخيّل أنني جالسة أمام جهاز التلفزيون, وما إن تقع عيناي على الشاشة إلا وترى الكوارث والنكبات, زلازل وسيولا وسلالات جديدة من الأمراض الفاتكة وملاجئ ومخيّمات ومجاعات وحروبا أهلية, وعارضات أزياء تعرّي البطون والأفخاذ والنهود وترتدي قطعاً من بقايا الحرب, بلاستيكا محروقا أو معدنا مجنزرا أوخرقا بالية. آخر صيحات الموضة في العالم تنسق وتنسجم مع ما يحدث, ولا غبار عليه حتى داخل أغنيات فيديو كليب تشيع في نفسي حالة من التشظّي والكآبة.

كل هذا يحرّض عليّ حزنا قررت مقاطعته منذ زمن, ليس لأن لديّ البديل السار والمبهج, ولكن لأنني أكره أن يظل الحزن رفقة سيئة, تدفع في اتجاهي بتداعيات رمادية وتدفع في فمي بمزيد من المرارة وإلى عيني بمزيد من العتمة.

منذ أيام آلمتني أسناني, فأكّد لي الطبيب أنها سليمة بدرجة ما, وأوصاني بالذهاب إلى أخصائي أنف وأذن وحنجرة, أخبرته أنني أسمع دبّة النملة وأصواتاً غريبة ووشيشا دائما لا يهدأ, وفي أنفي رائحة غريبة لخبز محروق أو سكر محروق أو قلب محروق, وهناك صعوبة بالغة في البلع والتنفس والتركيز والتفكير.

أفرط الطبيب في الكشف على أذني وأنفي وسقف الحلق والحنجرة ثم تنهّد وهو يسألني:

- متزوجة?
- لا.. لا..
- ولماذا لا...?
نزع السمّاعة من أذنيه وجلس يدخّن سيجارة ويستقبل مكالمة على الموبايل, جهاز صغير الحجم شغل الناس بشكل مدهش.

بعد أن أنهى المكالمة, تنهّد وهو يبدو مأزوماً وأوصاني بالذهاب إلى أخصائي أمراض نساء, ابتسمت فربما أدرك الرجل بحسّه الذكوري بأنها قد تكون أزمة منتصف العمر, على الرغم من إحساسي المقيم بأنني مازلت طفلة شقية تلعب بالأشياء بغية لحظة كشف ودهشة, وصبية يافعة نضرة, وشابّة جميلة وحالمة, وأكثر قدرة على الحلم من بنات إحسان عبدالقدوس.

في أقرب عيادة أمراض نساء, تنهدت الطبيبة وهي تنحي جهاز الضغط جانباً وتسألني سؤالاً نسوياً.

طمأنتني أن كل شيء على ما يرام, ثم تركتني لتستقبل مكالمة على الموبايل, وأنا أحسّ أنني أبداً لست على ما يرام. لم تنتظر الانتهاء من المكالمة, فأكّدت عليّ بضرورة الذهاب إلى أخصائي في أمراض القلب.

وطبيب القلب ملأ عينيّ بكثير من التوتر وهو يقيس الضغط ويرسم القلب, ويملأ الروشتة بمهدئات والتأكيد على عمل تحاليل وأشعات. أرتديت ملابسي وجلست إلى مكتبه وأنا أسمع سلسلة متوالية من التهديدات بأن ضربات القلب سريعة وغير منتظمة, وأنه يجب علي الإقلاع تماماً عن التدخين والانفعال والتوتر وأكل الحادق والحلو.

ابتسم طبيب القلب وهو يعطيني الروشتة وسألني:
- بتدخني?
- لا...
- ولماذا لا?

بدت (الروشتة) مزدحمة بأدوية وتعليمات وممنوعات ومحظورات وفي الشارع تحت الأضواء الشاحبة وحركة السيارات المتعجلة, كانت عيناي تتراوحان بين اليقظة والنوم, وتغوصان في كثافة التنبيهات والتعليمات. بعدها رحت أرمق العالم بعينين دامعتين ترصدان صوراً غائمة وعقل يفكر في قلب مشكوك في أدائه, وشباب صغير, فتيات وفتيان على الجانبين يمسكون بأجهزة موبايل على آذانهم, وكأنهم يكلمون أنفسهم, دهشت لذلك الكيان الدقيق الذي انتشر بشكل مروع في الشوارع والبيوت والأتوبيسات والسيارات هذه الأيام.

هذا الصباح, كسرت الحاجز النفسي بيني وبين طبيبة التحاليل وذهبت, ما أثقل مثل هذه المشاوير.

معمل التحاليل مثل مركبة فضاء معدنية في فيلم من أفلام الخيال العلمي, حتى وجوه الأطباء والممرضين والمرضى حالة معدنية شديدة الحياد والبلادة, قررت التمرّد على التعاليم الكهنوتية لطبيبة التحاليل النحيلة مثل قلم جاف بلا سن, وقررت احتساء فنجان من القهوة, ذلك المشروب الذي صرت لا أستطيع تجاهل احتياجي الشديد والملحّ له, بعد أن اعتدت تجاهل احتياجي الصارم لأشياء أخرى وكثيرة في الحياة منها الملح والسكر والأزواج والأشقاء والأصدقاء والآباء, بعد أن صار عليّ كل صباح أن أعتذر لكل هؤلاء والدنيا بأنني امرأة حسّاسة ومرهفة وضعيفة وهشّة ونبيلة وقوية.

ظللت لزمن طويل أدخل في مواجهات حادّة مع أبي وأخي وزوجي ورئيسي في العمل وجاري الملتحي وسائق الميكروباص والفقر والجهل والمرض ورجال كثيرين, وبعد أن أدرك الجميع أنني امرأة غير ذات نفع, تركوني للزمن وحفنة من الأمراض, وقد صرت أرى أن الجمال والأحلام والأماني والمشاعر والعواطف والأفكار النبيلة تسقط وتقوض بعضها ببعض مثل الفخار.

أكّدت لي طبيبة التحاليل الطويلة النحيلة التي تشبه القلم الجاف بلا سن بضرورة تناول الإفطار والعودة بعد ساعتين.

كان الوقت مبكراً لدرجة تطيح بأي أمل في العثور على كافتيريا, تسمح بتعاطي فنجان من القهوة وقدر من الهدوء, ولحظة نادرة لتأمل ما مضى وما هو حاضر, وما هو منتظر أن يحضر, وأي الأواصر تجمع بين أزمنة الثلاثة.

لاحت من بعيد فتاة جميلة ترتب مقاعد من القش في شرفة كافتيريا مفتوحة على الشارع بسلالم معدنية مزدانة بأصص من الزهور, فدخلت وأقبلت عليّ الفتاة بابتسامة معدنية أراها كثيراً على شفاه الفتيات اللائي يعملن في مثل هذه الأماكن, بدت نظراتها مثل نظرات صقر أراه كثيراً على الجبل المقابل لشقتي يناور العصافير والحمام واليمام وأراه كثيراً في الأحلام.

كان المكان بسيطاً ومريحاً إلى حد ما. دكك خشبية مفروشة بالكليم البدوي المزركش بألوان الحياة, وسجاجيد ذات رسوم ريفية حيّة, ووسائد من بقايا الصوف وقصاقيص القماش المغزول بالآلام والأحلام وعدد من الشيش النحاسية بزجاجات ذات رسوم لأبطال السير الشعبية.

وضعت حقيبتي إلى جانبي وجلست أتصفّح في غير حماس جرائد الصباح التي أحرص على شرائها على الرغم من مساهماتها الشريرة في إذكاء ذلك الإحساس المتفاقم بالحزن والكآبة, إلا أنني لابد وأن أفعل وكأنه طقس وثني أمارسه دون وعي أو إرادة منذ كفرت بكل جميل في هذه الحياة.

حمدت الله أن صوت الكاسيت الذي فتحته الفتاة على أغنية ذائعة الصيت لا أستطيع تحديد كلماتها جيداً راح يشوّش علي إدراكي لكل الأخبار السيئة التي أقرأها عن العالم. ظللت وحدي في المكان حتى جاء بعض الشباب كل منهم يمسك بموبايل وبعض الأوراق. لم يمر وقت طويل حتى ازدحم المكان بكثير من الشباب والعجائز الذين يحرصون على تناول الشيشة وبعض النظرات.

كانت ابتسامة الفتاة مثل تحية الصباح تقدمها مع الشيشة وانحناءاتها السخيّة التي تسمح ببعض الهبات والعطايا وهي ترصّ التبغ فوق الفحم المحروق, فتبدو من ثوبها مساحة لابأس بها ترضي مزاج العجوز الذي يعاود في طلبها مرة من أجل مبسم بلاستيكي وأخرى من أجل مزيد من التبغ والفحم.

جاءت الفتاة لتسألني عمّا أشرب, فطلبت منها قائمة المشروبات فنظرت إليّ بغير حماس وتحرّكت على إيقاع الأغنية, وأدهشني وقع خطواتها على الأرض والشباب والعجائز يتابعونها وكل يحتضن الموبايل.

مرّ وقت طويل وقد تجاوزت الساعتين تماماً دون أن أدري وراحت الفتاة ترفع من صوت الكاسيت, وأنا أرى النهار غير صالح لمثل هذه التفاصيل. الأغنية ذات الإيقاع الراقص والكلمات غير المفهومة, ووجه الفتاة المثقل بماكياج ونظرات, وابتسامات متواطئة مع فتحة صدرها, وخطوات ذات إيقاع موح ومغرض وواعد بأشياء لا تقال إلا بلغة يفهمها العجائز.

ازدحم المكان بكثير من الفتيات جئن أيضاً من أجل تناول القهوة والشيشة, وسرعان ما عبئ المكان بالدخان, وحين انقشع كانت الشمس قد غابت, وكذلك نتف الضوء الباقية, وشعرت برغبة في السعال, ولم أمنع نفسي ووجدت أن فنجان الكابتشينو يعد تغييراً حيوياً, يحتوي على كمية لا بأس بها من اللبن الذي قد يشعرني بدرجة من الودّ مع احتراق النهار سريعاً, ورأيت أنه من الضروري والحتمي تناول قدر معقول من السكر.

وفي لحظة رأيت أحد الشباب وقد فتح الموبايل وراح يرسل نغمة ردّ عليه آخر برنة أخرى وانبرى ثالث يرسل نغمة مختلفة. بدوت لنفسي وكأنني امرأة تعيش خارج الزمن, لكنها شغوفة بالآخرين, وما تحويه الرءوس والعيون والصدور والقلوب. بعد قليل, راح شاب رابع يشارك بنغمة مغايرة, ومن الجانب الأيمن بادرت فتاة برفع نغمتها الخاصة وتلتها ثانية وثالثة وغيرها كثيرات.

بدت النغمات خليطا غير منسجم وغير متجانس وغير واضح المعالم حتى أنني شعرت بأن لا نغمة مفهومة. بعد وقت أحسست بأنه لم يكن مهماً أن تتضح نغمة خاصة بأحد, وسرعان ما راح الجميع يرسلون نغماتهم في وقت واحد. لم أجد إلا أن أسدّ أذني وأغلق فمي وكأنني أعطيت أنفي فرصاً جائرة ليشم رائحة الخبز المحروق والأرز المحروق والقطن المحروق والقلب المحروق والعمر المحروق.

 

نعمات البحيري