النافـذة المغلقـة

النافـذة المغلقـة

الأوراق البيضاء مازالت بيضاء منذ ثلاثة أشهر وأكثر, وثلاث نقاط لا أكثر في قمة إحدى الصفحات تحتضر في انتظار أن ينتصب القلم فوقها ليبعث فيها الحياة.

السكون صار عنوان هذه الغرفة صار كل نزلائها. الكتب تسترخي من الملل. وحده القلم لا يستطيع كبت غيظه. السخط يكاد يتدفق من فوهته.

الحيطان الأربعة واجمة. لا بريق في المرآة. لا نسمة تعبر النافذة.

لن أذرع الغرفة ذهابا وإيابا ولن أفرك يدي بحيرة أو أصرخ بأعلى صوتي وأحطم هذا الجمود الذي يحيطني أو بالأحرى يسكنني. حتى ردات الفعل هذه لا أقوى عليها.

كم خذلتني الحياة? لم أعد أقوى على العد, لم أعد أذكر. حتى ذاكرتي خذلتني. لا أذكر إلا إني استنفدت كل ردة فعل ساخطة قد تخطر بالبال.

والآن ماذا بعد? ماذا أنتظر ومتى أتحرر??
كنت أظن أن وحدها خيبات الأمل تتحدانا في مواجهة قدرنا وإعادة ترتيب ذاتنا وكنت أؤمن أن الكتابة تحرر الإنسان من يأسه!.. ولكن ما قيمة قناعات الماضي إذا كان الماضي بذاته مجرد دعابة! دعابة غير مضحكة!

كلما أمسكت قلمي لأتحرر من آلامي أجدني أمجد هذه الآلام وأتعمد استرجاعها بكل تفاصيلها حتى استأثرت على كل كتاباتي وتملكت مني. لذلك هجرت أوراقي, لذلك رفضت أن أسجن داخل السطور وقد تحولت إلى قضبان. ولكن يبدو أن الأمر يشبه الهروب من سجن إلى آخر ومن آخر إلى آخر.. هي دوامة لا تتوقف.

لم تكن قصة حب انتهت بالفشل كملايين النهايات المماثلة, ولا تراجيديا عن تبخر الأحلام في زمن يحترق ويحرق معه كل عود طري وكل ورقة يانعة وكل قطرة ندى صافية. لم تكن أسطورة تبدد الأمل أو ملحمة انتصار الشر على الخير.. لن أظلم الماضي كما ظلمني وسخر مني وأدعي أن ما عشته كان إحدى هذه الحالات, يكفي أن أقول إن الأمل يتجسد في خيال كل امرأة بصورة رجل ما وأن ما حصل مع المرأة التي تنعكس صورتها أمامي في المرآة دون أدنى وميض أن الرجل أو الأمل الرجل لم يكن سوى الوهم الألم أو الألم الوهم.

* * *

بعد سكون العاصفة تلملم الطبيعة أشلاءها المبعثرة في كل صوب وتجهد في ارجاع كل شيء كما كان.

أما أنا فلم أعد أمتّ للطبيعة بصلة لم يعد تفكيري طبيعيا ولا طبعي ناريا ولا شعري خرنوبيا ولا عيوني عسلية ولا بشرتي حنطية حتى حواسي لم تعد تقوم بوظائفها الطبيعية.

وتشذيب أطرافي.. لن أجمع أوراقي وأرتبها ثم أفكر بإكمال ما بدأته.

تلك التجربة أو تلك العاصفة التي عشتها لم يجن فيها أحد علي ولم يكسرني شخص أو يهجرني حبيب أو يهزمني غريم.. شيء أقوى من كل هذا كسرني.

تلك التجربة عشتها لأعيشها فقط وليس لأكتبها لأنها تفوقت علي وانتزعت مني موهبتي وقلبت الطاولة علي. هناك قصص تكتبنا ولا تعود تسمح لنا بالكتابة. وهكذا تنقلب الأدوار بين الكاتب وقدره ليصبح الأخير هو الكاتب الحقيقي الذي لا حاجة له أن يبرهن عن موهبته ولا حاجة له أن يمسك القلم ويمعن في التفكير ويجود بالتعابير أو يبذل أدنى جهد في حبك الأحداث, هو يرمي بها كما اتفق ويضحك كلما أنهى جزءا من قصته المبكية.

كنت واحدة من ضحاياه. كتبني بحروف محترقة تنفض رمادها كما ينفض كاتب عصبي رماد سيجارته فوق أوراقه. وها أنا أتناثر كحبيبات الرماد فوق الورق الذي يبتلعني ثم يلفظني عبارات عبارات.

كم من مرة عادت الضحية من الموت لتنتقم من الجاني? سؤال ليس بحاجة إلى جواب إنه سؤال فقط.

كم من مرة قامت النهايات والمصائر من أكفانها البيـــضاء المسطرة والمرقمة لتنتـــــقم من المؤلف وتفـــــتك بقلمه الجاني? مازلت اسأل ومازال السؤال مجرد سؤال.

وماذا لو ثار أبطالي علي واستيقظت فيهم شهوة الانتقام? ماذا سأقول لهم? سأقول لهم عذرا أيها الأبطال وأيتها القصص وأيتها الضحايا ليست الضحية الحقيقية سوى أنا.. عذرا أنا لم أقتلكم عمدا أنا المقتولة بكم, أنتم الحقيقة وأنا الخيال عذرا لأن قدركم لم يأت كما تحلمون لأنفسكم أنا أيضا لم يكن قدري على مستوى أحلامي.. عذرا عذرا..

* * *

في الصباح جمعت كل أوراقي, حشرتها في كيس أسود ألقيته في مستودع الزبالة الأقرب إلي داري وجلست على قارعة الطريق انتظر سيارة البلدية لتمر وتأخذ ما في المستودع من نفايات!

حصل ما انتظرته وكان منظرا قاسيا ولكن قلبي كان أقسى.

عدت إلى غرفتي وعندما وقع نظري على المكتب العاري ارتعبت لمنظره وأحسست بالخوف من دون أن أدرك مصدره وسببه. كان خوفا عاريا أيضا. اقتربت باشفاق من المكتب, مسحت يدي وجهه الأملس وكم تمنيت أن تعرقل ورقة مرورها إلا أن هذا لم يحدث.

فتحت الدرج الأول وخيل إلي أني افتح فم أسد وأن أسنانه ستنقض عليّ وتفــتك بي. بنفس الشراسة فتكت بي رزمة الأوراق البيضاء فأقفلته بسرعة.

فتحت الدرج الثاني وهذه المرة كنت أفتح علبة الخدع التي تثب منها دمية مطاطية سخيفة والدمية الساخرة لم تكن سوى القلم. سخر طويلا مني وتحسر على ما حل بي. ما أصعب أن يشفق القلم على أصابع كانت تحمله وتدلله وتهبه الحياة! وما أصعب الفراق هو شعور مؤلم أكثر من أي ألم آخر. ولكن لن اسمح لأي شيء بأن يرجعني عن قراري, لن أعود للكتابة أبدا.. أبدا.

* * *

اعرف أنها ليست غافلة عن تجاهلي لها طوال هذا الوقت. أعرف أنها مستاءة مني ولكن لا تراجع. وفجأة تفتح النافذة بقوة ولكن لا عواصف لا هواء ولا حتى نسمة عابرة.. أفهم ما تريده أنها تستفزني ولكني لن اكترث لها ولن أجابهها كما اعتدت. سأدير ظهري لها أيضا.

خرجت بل هربت من غرفتي, طلبت مكانا جديدا لا يمت بصلة لما ورائي.

عدت وكلي يقين أن الهواء النظيف صار عملة نادرة مثله كالقلب النظيف.. كدت اختنق خيل إلي أن هناك منفذا واحدا لوصول الهواء إلى رئتي وأن هذا المنفذ ليس سوى درجي. فتحتهما, انتشلت ما فيهما وجلست من دون أن أفكر ماذا أفعل وماذا سأكتب, كتبت بضعة سطور (الأوراق البيضاء مازالت بيضاء منذ ثلاثة..) لم ارفع رأسي إلا بعد أكثر من ساعة . رفعتها لأرى النافذة تلك التي كانت ملهمتي وصديقتي وأول قرائي. لم انتظر حتى تطلب مني أن افتحها. فتحتها معتذرة خاشعة وعدت للكتابة بحبور وانطلاق وكأنني فتحت نافذة في قلبي ليدخل إليها النور بعد ظلام طويل.

عدت انظر عبر النافذة إلى منظر ألفته إلا أني ما مللته يوما. أمعنت النظر رأيت مشهدا ابتسم له حتى القلم الذي بين أصابعي, رأيت فتاة مندمجة في لعبة الفتيات الأزلية, تحمل بيد أوراقا بيضاء وبأخرى مسطرة خشبية. خرجت مسرعة إليها وصدق ظني حين اقتربت منها. الأوراق التي بين يديها ليست سوى أوراقي.

عبثا حاولت إقناعها أنها لي وأني أريد استرجاعها إلا أنها كانت عنيدة وكانت تكرر: (لو كنت تريدينها فلماذا رميتها?).

أصرت الفتاة على الاحتفاظ بلعبتها الجديدة ولم أرد أن انتزعها منها بالقوة, تفهمت تفكيرها وعدت. عدت غير حزينة فرغم كل شيء وجدت أوراقي من يعتني بها ويحبها ويقرأها ويحتفظ بها. وفي الوقت الذي كنت أظن أني قتلتها كانت تحيا وكنت أنا الميتة.

غبت في أفكار تنفع لأكثر من قصة, لم يوقظني سوى صوت الأوراق في يد الفتاة وقد هبت نسمة سرعان ما تحولت إلى ريح وراحت تلاعب الأوراق وتداعب شعر الفتاة.. ولم أتأكد من اشتداد الريح إلا عندما لاحت لي أجنحة بيضاء ترفرف فوق مكتبي وتتراقص ثم تهوي مقهقة منتشية.

اعرف جيدا لماذا تضحكين أيتها الأوراق وأعرف أكثر أنك اشتقت إلي وأن لدينا عملا كثيرا. ها أنا قادمة.

 

بسمة الخطيب