انتفاضة التحرير الفلسطينية من تراب وأرجوان

انتفاضة التحرير الفلسطينية من تراب وأرجوان

قراءة في عرض مسرحي يفضح الأساطير الاستيطانية

إذا كانت الصياغة الجمالية غير قادرة على إلغاء الرسالة الفكرية, فإن التجريب في المسرح لا يعني أبداً الانفلات من قضايانا المصيرية الملحّة.

وسط الحياة اليومية الملتهبة في فلسطين المحتلة, لا يلتفت رامي الحجارة إلا للمسافة الواقعة بين وجوده على أرضه ودبابة العدو المقتحمة حياته, وهي المسافة التي يحقق بها حريته وحرية وطنه في الزمن الراهن, وهو حق له وواجب عليه, غير أن المسرح ليس كذلك بالضبط, أو هو كذلك وليس كذلك في الوقت نفسه, فالمسرح يواجه واقعه فعلاً, ويتقصى قانونه الحاكم عملاً, لكنه لا يقف أبداً عند حدود الرصد التمثيلي لما يحدث في هذا الواقع, فهو ليس بكاميرا تلفزيونية تنقل ما يحدث في متوالية من الصور, لترسلها عبر الأثير لمشاهد يتناول طعامه مسترخياً أو حتى قلقاً وهو يتلقى تلك المشاهد الدامية لحرب التحرير المبثوثة على شاشات التلفاز, وإنما المسرح يعيد تجسيد ما حدث ويحدث, ويرتب الوقائع ترتيباً خاصاً وفقاً لقوانينه الخاصة, لكي يقدم لمشاهد قادم بإرادته لموقع العرض لتلقي صياغته المسرحية لهذا الواقع وحوادثه المريرة. قد يرصد حكايات اليومي الساخن ليقدمها في صورة (قصص تحت الاحتلال), كما فعلت فرقة القصبة الفلسطينية, مع أحدث عروضها, الذي يحمل العنوان السابق, وشاركت به في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي, في دورته الأخيرة (سبتمبر 2001), مقدمة في زمن عرضها المسرحي مجموعة مختارة ومنظمة بنائيا تنظيماً خاصا من حكايات الإنسان الفلسطيني مقاوماً ومرتعباً وباحثاً عن الكرامة والإيمان, فهو في البدء والختام إنسان وليس مجرد شعار مرفوع على لافتة بيضاء. أو كما فعلت فرقة (عناد) الفلسطينية أيضاً بعرضها (وبعدين?!), حينما حملت للمسرح بنفس دورة المهرجان السابقة حجارة الواقع لتحوّلها لرمز النضال والمثابرة والإصرار على البقاء في مواجهة عمليات النفي والإبادة من عدو مدجج بالسلاح والصلف.

وقد تمتد المسافة بين رامي الحجارة والدبابة, لتشمل الوجود بأكمله, فتبدأ من اليومي / الحاضر, لتنفذ للتاريخي / الماضي, كشفاً لتلك الأساطير التي صاغها المحتل الاستيطاني حول نفسه, وتصديا لعمليات تزييف تاريخ شعب عاش ومازال يعيش رغم الصعاب على أرضه المحترقة, مثلما فعل العرض العربي (من تراب وارجوان) الذي قدم في الدورة الأخيرة لمهرجان جرش الأردني (أغسطس 2001), وشاركت في إنتاجه فرقة (مسرح عشتار) الفلسطينية وفرقة (مرآة ميديا للإنتاج الفني) الأردنية, وفرقة (مسرح التياترو) التونسية, وكتب مادته الأولية المعتمدة على الأساطير الكنعانية (مازن سعادة), وصاغ بناءه الدرامي (ناصر عمر) و (توفيق الجبالي), كما شاركت (رجاء بن عمار) مخرجة العرض (سوسن دروزة) الكتابة المشهدية, وساعدتها في الإخراج وإدارة المشروع بأكمله الفنانة (إيمان عون).

رفض الصمت

يبني صنّاع العرض عملهم على فكرة المسرحة, التي تقسم المسرح إلى حاضر واع, وماض مستدعى, وتلغي أي اندماج في الشخصيات المقدمة, وأي إيهام بواقعية ما يحدث, وبالتالي لا يعيش المتلقي زمناً تاريخياً, بقدر ما يشاهده متجلياً أمامه من لحظته الآنية, فيمكنه الحكم عليه بعقل واع, خاصة أن هدف العرض من تقديم مادته التاريخية بشكل مسرحي, هو الحكم عليها, لا مجرد الانغماس فيها, لذلك تتأسس سينوجرافيا العرض على فضاء مفتوح, يعلو في خلفيته حائط يبدو مصمتا, فرض عليه الصمت, كتاريخ هذا الشعب المطموس في أوراق العالم وأبواقه الإعلامية. غير أن الحائط لا يفتأ يفتح باباً بعد باب, لتحضر منه وقائع الأمس البعيد, تتجسّد وتتحدث مفجرة أمام أعيننا ذلك التناقض بين تاريخ حقيقي كان على أرض الواقع وآخر مزيّف فرضته السياسة والأساطير الملفقة, ومصوغة في بناء تعبيري جمالي معتمد على لوحات تشكيلية مرئية ومسموعة ومتحرّكة, ينأى بها العرض عن المباشرة, ويربط سياقه في الوقت نفسه بموضوعات الساعة الساخنة, وذلك عبر تلك اللعبة المسرحية التي ترتكز على اثنين من الممثلين الحكائيين, يعلنان منذ البدء أنهما جاءا ليقدما (عرضا يرضي كل الأذواق), عرضاً يشخصان فيه ما حدث ويحدث, (قد نتقمص أرواحاً عاشت في الماضي, فنجد أنفسنا نسل ملوك, أو شعب صعلوك), وهو عرض يبغيان منه بألاعيبهما إمتاع متلقيه, كما تفعل كل أجهزة البث التلفزيونية ببرامجها المتعددة: (مسابقات, ما يطلبه المستمعون, الخط المفتوح, قضايا ساخنة, صباح الخير يا بلد,.... إلخ), غير أن الواقع الدامي يفرض نفسه عليهما, ويجبرهما على تقديم عرض آخر, بوقائعه وحكاياته الداخلية محيطيها بالتعليق الساخر والنقد الحاد, والكشف المباشر عن مصادر تلك الوقائع, وذكر أسماء من يروّج لها صراحة.

لا يعتمد العرض المسرحي بنائياً فقط على وجود ممثلين يخاطبان الجمهور طوال فترة ظهورهما, ويتحوّلان تدريجياً معه ليمثلا ضمير المجتمع الجمعي, بهدف كسر الإيهام, وتأطير التاريخي بإطار عصري مفتوح. بل يستخدم أيضاً تقنية التمثيل داخل التمثيل, حيث يشخّص لنا مجموعة من الفنانين يصوّرون عملاً تلفزيونياً, تدور أحداثه في العصور التاريخية القديمة, مقدماً بذلك حكاية الملك الكبير مع شعبه بأرض كنعان, وهو ملك جبّار حكم البلاد في ظروف صعبة, حيث حلّت بوطنه اللعنة ويبست الأرض, ونهش الجوع أحشاء الشعب, واجتاح الغزاة البلاد, فاشتدّ الغيظ بالملك, وكفر بإلهه رب الأرباب الطيب (أيل), وتحوّل لعبادة (بعل) الذي يعد عند العبرانيين إله الشياطين, لذا ثار عليه شعبه, إلا أن الملك الغاضب نكل به وسفك دمه في مذبحة كبرى, مما أدى به لطلب السلام من جيرانه (العبرانيين), والاتفاق معهم على تملك بعض من أرضه. كل ذلك في مشاهد غير مكتملة, تبدأ بالممثلين يحكيان بشكل مباشر تلك الحكاية التي استمدها العرض فعلاً من كتاب (اللآلئ - التوراة الكنعانية), للكاتب (ديل ميديكو), ثم يستكمل العرض مشاهد تلك الحكاية دون تكامل, بسبب عدم حفظ الممثلة القائمة بدور (إيزابيل) محظية الملك الكنعاني الكبير لكلمات دورها, وذلك لأن سرد الحكاية ليس هو الهدف, بل إن الغاية من تلك المشاهد هي التأكيد على أنها حكاية مزيفة (من مراجع مشبوهة) صيغت لتشويه صورة الملك الكبير وشعبه الكنعاني, الذي هو أصل الشعب الفلسطيني الحالي, في الوقت الذي سرق فيه العبرانيون (مواصفات أيل وألصقوها بإلههم يهوه, صادر العبرانيون الأناشيد الكنعانية وأسموها بالمزامير, اقتبسوا حضارة كنعان وادّعوا بأنها قصص توراتية).

وقفة بريشتية

يؤكد العرض بتقديمه لتلك الحكاية ونقدها, على ذلك التزوير الحادث على أيدي المستشرقين المغرضين للتاريخ الفلسطيني, فقد فسّر المترجمون الأساطير الكنعانية, مثلما فسّروا الألواح الحجرية الأوغارتية, التي تم اكتشافها في أوائل القرن الماضي في رأس شمرا بالقرب من مدينة اللاذقية بشمال سوريا, وتضمنت حكايات كنعانية, فسّروها استناداً لمراجع توراتية, رغم أن التاريخ الفعلي يؤكد أنه لم يكن للعبرانيين وجود في زمن الملك الكبير. لكن الأقوى يكتب تاريخه, وتاريخ غيره, (على ذوقه) ووفق مصالحه, ومع ذلك فلا شيء مما مضى, بتاريخه الحقيقي. وبأساطيره المزيفة, يبرر ما يحدث اليوم على الأرض الفلسطينية, وهو ما جعل فريق العرض يقف في نهاية هذا الجزء من المسرحية, وقفة جماعية, بريشتية الفكرة والمنهج, صارخاً في وجه الجميع (مهما اختلطت الأزمان, وتشوّهت الحقائق في التاريخ القريب منه أو البعيد, سواء كانوا العبرانيين أو لم يكونوا, أو جاءوا قبل أو بعد الكنعانيين, سواء سرقوا أيل أم لم يسرقوه, لا شيء يبرر ما يحدث الآن في فلسطين).

كشف الحقائق التاريخية أمر مهم لذاكرة الشعوب, وسرقة وطن باختراع أكاذيب أسطورية والإلحاح الدائم بكل الوسائل لتثبيتها في لا وعي العالم قبل وعيه المنشغل بهمومه الخاصة, أمر له أهميته في تأكيد علاقة الإنسان الوجودية والمعرفية بوطنه, لذلك يعود العرض بعد موقفه السابق, الذي يبدو أنه موقف فكري نهائي من استدعاء الماضي, والكشف عن عمليات تزييفه, يعود مرة أخرى للماضي, عبر تقديم قصيدة حب مرئية صوتية بالغة العذوبة لمدينة القدس, أو (أور سالم) وفقاً للمسمى الكنعاني لها, مدينة السلام والزيتون والأرجوان, وهي بالفعل قصيد مسرحي, يتسامى على تفاصيل الواقع الصغيرة, ويصنع وجوداً جمالياً شفّافاً في فضاء المسرح بالإضاءة وحركة الممثل التعبيرية وزيّه المتميز, ويحكي حكاية أسطورية مقتبسة من كتاب (حكايا صلصالية) للكاتبة نادية الغزي, عن الفتاة (عائشة) أو (زائشة بنت النقاش) الذائبة عشقاً في مدينة السلام, وتود أن تفنى فيها, لكن ذات يوم يهاجم أبله مدينتها الأثيرة, يبدد فخارها الذي اشتهرت به, ويفضّ بكارة بناتها الجميلات, فيغيّر النهر مجراه, وتفصل هي عن جذورها, فيسيل الدم تحت قدميّ ربة الحب عشتار, غير أنها تهفو للعودة, مثلما يهفو كل فلسطيني اقتطع من أرضه, ونزع عن جذوره, وأصبح مجرد حقيبة متنقلة بين البلدان, تاركاً مجبراً معشوقته وزوجته (مريام, التي ترفض أن تقتلع من أرضها, وتفضل أن تسقط في نهر الأردن, كي تتوحد بإله النهر, مثلما توحّدت على مر التاريخ كل فتيات هذا الوطن: عائشة وشمشا ومريام وحتى آخر طفلة قتلتها الأيدي الغادرة في الصيف الماضي في مدن الزيتون, تلك المثمرة كل لحظة إنساناً فلسطينياً مناضلاً.

جمالية شعرية

ينقلنا العرض بسلاسة من حكاية واقعية لحكاية واقعية, ومن أسطورة لأخرى, فيضعنا أمام أسطورتي (أقهات بن دانيال) و (عناة وبعل) المقتبستين من كتاب (ملاحم وأساطير من أوغريت) للكاتب (أنيس فريحة), وتدور الأسطورة الأولى حول موضوع انتقام الأخت لقتل أخيها البطل النعمان غيلة, والعمل على إقامة العدل على الأرض, بينما تطرح الأسطورة الثانية قضية القدرة على الحرب والسلم معاً, غير أن الواقع يطرح أفكاراً تسعى لنسيان الماضي, وتطالب بالتسامح والتصافح بين المقتول والقاتل, بين من هدمت الدبابات بيته, ودمّرت المروحيات أرضه, ومغتصب الأرض بأساطير الأولين وترسانة القائمين على أمر العالم اليوم, إلا أن نهر البرتقال المتدفق في نهاية العرض في فضاء المسرح, يلغي أي فكرة لنسيان الماضي, ويقف ضد كل محاولة لتزييف تاريخ هذا الشعب.

رغم استغراق العرض في جمالية شعرية, من زاوية الصياغة المشهدية للصورة المرئية تشكيلياً بأداء الممثلين وأزيائهم والبقع الإضائية المتحركة معهم, وأيضاً من زاوية الكتابة الدرامية المعتمدة على المونولوجات الطويلة, فإنه لم تغب لحظة رسالته الموجهة عن جمهوره المتلقي, فالقضية ساخنة, والعرض الذي قدم بداية في بيت لحم بالأرض الفلسطينية المحتلة, ثم بالمدرج الشمالي بمدينة جرش القديمة, لم ينس أنه يصنع فنّاً مسرحياً راقياً, لا مجرد خطبة عصماء, أو موعظة يرسلها من فوق الجبل, وإنما هو يصوغ فنا يعتمد على الصورة, منطلقاً في الأساس من عالم الكلمة الواعية والمدركة لمسئوليتها وسط مجتمعها, صحيح أن بعض المشاهد المعروضة قد تتعثر دلالاتها في الوصول بسهولة لجمهورها, بسبب استغراقها في الصياغة التعبيرية الجمالية, أو تكثيفها لمحتواها الأسطوري بشكل تجريدي غير حاضر في ذاكرة المشاهد, مما يجعل من عملية فك شفرات العمل, وإعادة تجميعها في وعي المتلقي عملية ملتبسة. ومع ذلك, فإن مجمل العمل يؤكد على رقي الفن المسرحي العربي, بركائزه الفلسطينية الأردنية التونسية في هذا العرض.

 

حسن عطية







 





 





مشهد للمسرحية التي قدمتها (فرقة عناد)





الممثل يحكي حكاية اغتصاب الأرض بشكل مباشر





مشهد آخر من مسرحية (تراب وارجوان)