تنمية الثقافة أم ثقافة التنمية؟

تنمية الثقافة أم ثقافة التنمية؟

رصيد الحضارة العربية المتميز يؤهلها للتجاذب مع الثقافات الأخرى

ما طــرحـــه رئيــــس تحــرير (العـــربي) د. سليمان إبراهيم العسكري في (حديث الشهر) الذي تفتتح به مجلة العربي الشهرية العتيدة موضوعاتها الفكرية, تحت عنوان (أين الثقافة مما يجري حولنا?) والذي نشر في العدد (514) سبتمبر 2001 يحرك في قارئه حالة القهر التي تعبر عن أوضاعنا الثقافية القطرية منها والعربية, وغيرها من الأوضاع العربية التي يشاركه فيها المخلصون لأمتهم, والحريصون على دورها في عالم لا يرحم مَن تقوقعت فعالياته في حالات سكون, وتجاوزت مَن فقد الرؤية على حال المسارات التي تشكّل السباق الأكثر جهداً في السعي إليه والأعظم أثراً على مستقبل كل بقعة من بقاع العالم وقاطنيها وساكنيها.

يستفز رئيس التحرير في طروحاته وعي القارئ العربي, ويحمّله مسئولية فردية مباشرة في حال أمته, وهو إن قصد ذلك, فقد نجح في خدمة القضية المطروحة, وإن شارك في ذلك مفكّرين آخرين وعبر عن أسانيدهم, فيكون قد نجح في ذلك مرتين أولاهما في التعبير عن مجموعة تتشارك الرأي والموقف, وفي ثانيتهما الوصول إلى أولئك الذين وجدوا في طروحاته تعبيراً عن رأيهم ومواقفهم.

مقولة (عولمة الثقافة) كمثلها مقولة (تنمية الثقافة), مقولتان تظلمان الثقافة, وتضعان الثقافة في مصاف السلع المستهلكة, أو الفعاليات محدودة الصلاحية محددة التأثير. فالثقافة ليست مهنة, كما أنها ليست نشاطاً إنسانياً خاضعاً لتشريعات وقوانين مؤسسية, وهي, أي الثقافة, رابطة دائمة ديمومة التاريخ بتراثه وإنجازاته للأمم التي لها شأن تاريخي, ولها دور تاريخي, ولها وجود فعلي في المجتمع الإنساني فكرياً وعقدياً ودينياً, كما هو حال الأمة العربية على سبيل المثال. أما ربط تغير أنماط التشكيلات الثقافية وموضوعاتها, وعدد طروحاتها وتنوع اجتهاداتها, فهي خاضعة بطبيعة الحال إلى التغيرات التنموية, ومتأثرة بها سلباً أو إيجاباً, وهذا التناقض بين (السلبية) و(الإيجابية) لا يعزل الثقافة عن جوهرها, ولا يحرمها من أوصافها أو يخرجها عن أطرها التي يظل للصراع المحلي فيها دوره في حيويتها ومزاياها وعلى تشكيلاتها التعددية.

في هذه الحقبة من المرحلة الأولى للألفية الجديدة, نشهد كيف انتصرت العلوم والتقنيات الحديثة على اختزال المسافات بين البلاد, وتقليل أهمية المساحة الكونية القارية, واختزال الزمن والتفوق على سرعته في الوصول إلى أبعد الأهداف الأرضية أو الفضائية. العالم الرحب الواسع, لم يعد بوسائل الاتصال والمواصلات المتطورة سوى أضيق من مدينة وفي حجم قرية, تصل الحكاية أو الإشاعة إلى كل قاطنيها, وفي الوقت نفسه وبالصيغة نفسها ومعالم الصورة التي تبدو الحكاية أو الإشاعة عليها.

عولمة الزمن

في وصف آخر, يمكننا القول, أنه جرت عولمة واسعة للزمن, وللمسافة ولطبوغرافية التضاريس الطبيعية بعد أن تمت وسائل كهربة الاتصال والتواصل بين مختلف الأقوام في شتى البقاع غنيّها وفقيرها, كبيرها وصغيرها, عالمها وتلميذها, متعلمها ومثقفها. بل يمكننا أن نذهب إلى أكثر من ذلك لنقول: إننا في عصر تعولمت فيه كل الظواهر ذات الخصائص التي يمكن قياسها, وكل المظاهر التي يمكن تحليل عناصرها وتفسير مكوّناتها, عندما وصل الإنسان بالعلم إلى المعرفة العلمية, وبالتقنية إلى تفاصيل المعرفة بالقياس والتحليل الذي وصل في دقته ما فاق البناء العلمي للمعرفة ذاتها, والقدرة الذكية للتقنيات عينها.

ونجد دلائل عدة على استمرار عمليات العولمة في الاقتصاد والتجارة, في الحرب والقتال, في وسائل الإعلام ووسائطه ومادته, كما نجد مثل هذه الدلائل في بعض الأنماط الاستهلاكية, وفي بعض المظاهر السلوكية, ولكننا سنجد أنفسنا في طريق زلق عندما نفكر في الثقافة وأنماطها وأشكالها وفي قضية العولمة, التي أخذت تشغل مساحة طاغية من الفكر الحديث, والتحليل والدراسة, ورصد المواقف من هذه القضية, التي مازالت قضية جدلية تستحوذ على اهتمام كل التيارات الفكرية المعاصرة, وتشكل الموضوع المحوري في طروحات المفكرين ورؤاهم لواقع العالم الحالي, والمستقبل الذي ينتظر دول هذا العالم وأممه وأقوامه وشعوبه.

تتجلى أهمية تاريخ العولمة, بغض النظر عن امتداد هذا التاريخ في الزمن الغابر بحاضر العولمة التاريخي, وبالتأكيد فإن هذه الأهمية تزداد شفافيتها بالتاريخ المستقبلي غير الطويل للعولمة أي المستقبل الذي لا يتعدى خمس حقب زمنية, عند اقتراب نهاية النصف الأول من القرن الحالي. فلم يعد لتاريخ بداية العولمة إلا أهمية تاريخية فحسب, تفوقها, لربما أهمية المراحل التاريخية التي مرت العولمة بها في التاريخ الإنساني الذي شهد قيام الإمبراطوريات مترامية الأطراف, جامعة شعوب العالم وأقوامه تحت جناحيها, تحكم في بقاع الأرض الشاسعة بأيديولوجياتها وعقائدها, وتصيغ العالم بقوالبها بعد أن ظنت أنها إمبراطوريات قائمة إلى الأبد, وأن قوتها وحضارتها هي نهاية مطاف الحضارة الإنسانية, ثم سقطت هذه الإمبراطوريات وتهاوت, واندثرت, ولكن بقي العالم بدوله وشعوبه على اتصال بعضه بعضا, وبقيت العلاقات الدولية والتبادلات الدولية للوفود والمنتجات والثقافة, والفكر قائمة, بأساليب تقنية ما فتئت تتغير وتتطور في سباق جلي نحو الوصول بالدولة إلى القمة, أي إلى أن تكون دولة قوية عسكرياً, واقتصادياً, وموارد, ومنتجات, وهذا ما نعاصره وما نشهد آثاره وتحوّلاته في هذه الحقبة من الزمن, بشكل واضح ومتسارع.

على الرغم من كل التراث التاريخي لفكر العولمة, ومحاولات الإيهام بحتمية العولمة, والأحداث العالمية وعلاقاتها, وفلسفة القوى الأعظم وقدراتها العسكرية والسياسية شديدة التأثير والتخويف وإثارة الرعب, إلا أن كل ذلك لم يؤد إلى نجاح أي من المحاولات التي حاول أساتذة العولمة ومنظروها والمروّجون لها والتي سعت إلى وضع (نظرية العولمة) أو إلى وضع مقترح لنظرية العولمة يمكن أن يسوق إلى صياغة هذه النظرية ووضع أسسها العلمية والعملية, والاستعانة بمظاهرها الملاحظة أو نتائجها الملموسة. فقد افتقد هؤلاء القدرة على وضع أو اقتراح عناصر لنظرية العولمة, لافتقارهم إلى توافر عناصر مثل هذه النظرية, لأنها لم تكن في غالبيتها عناصر موضوعية يمكن أن تشكل موضوعاً مفسراً ومفهوماً لصياغة نظرية مقبولة ومعترف بها. ولعل افتقاد إمكان صياغة (نظرية العولمة) يعود في جوهره إلى علاقة الثقافة بالعولمة كمفهوم وكمضمون لهذه القضية التي ظلت تشكّل مطمعاً من مطامع القوة والتفرّد بالعسكرة والتسلط والاستعلائية.

عجزت الأسس النظرية للعولمة, كما عجزت الرغبات العولمية في جعل العولمة إطاراً عالمياً تتجمع في محيطه الداخلي قوى عالمية فكرية وعملية, ومصالح ورغائب, وتظل في حدوده الداخلية, وظهر هذا العجز جلياً عندما هيأت الكوادر العولمية كل إمكاناتها للبحث في العلاقة بين الثقافة والعولمة, وربط الثقافة بصيغ عولمية كما أخضعت الممارسات التجارية, وكما خضعت الرغبات الاستثمارية, وكما استغلت الموارد الطبيعية في عمل غير متوازن في تحقيق المنافع المادية والمالية, وكما ارتبطت الفعاليات الاقتصادية بنظم معولمة تمكنت منها ومن إخضاعها لمنظومات تشريعية أملتها ظروف العالم الاقتصادية والتجارية والاستثمارية غير المتوازنة وغير المتكافئة منذ بدأت المجتمعات في الأخذ بهذه الأنشطة ومقوماتها وفعالياتها.

أي أن العولمة ظلت حكراً على ما كان معولماً بطبيعته وبضرورته التي فرضتها طبيعة العلاقات الدولية بين الأمم.
فالعلم و(الحقائق العلمية) معلوم بطبيعته لأن حقائقه غير قابلة للتبديل أو التنوّع, والمنتجات الصناعية والتقنية معولمة بحكم ظروف التبادل السلعي والتجاري بين الدول, تحت أحكام تتنوع وتتبدّل تبعاً لطبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية, وأيضاً العلاقات السياسية والاستراتيجية, إلا أن إنتاج التقنية ذاتها, وتقنيات الإنتاج الصناعي كانت محتكرة وهي كذلك إذ جاءت العولمة لتؤكد حقوق الاحتكار حيث ان سلاطنة العولمة هم أصحابها وهم منتجوها, والمحتفظون ببراءات اختراعها, وتصاريح إنتاجها وملكياتها الفكرية والإبداعية, وهي غير قابلة للتعولم, ما لم يتم استبدالها بأفضل منها, أو بغيرها الأكثر جدوى والتي تحل محل سابقتها, حيث توصف السابقة بالتقليدية التي يلفظها معدل ربح اقتصاديات الاحتكار العولمي.

تفاعل الثقافات

والثقافة بطبيعتها, وطبيعة عناصرها ومكوناتها غير قابلة للعولمة, فالثقافة بأشكالها وأنماطها وواقعها الثقافي تتميز بالتنوع, كما أن التعددية الثقافية من أبرز سماتها. وللثقافة قوة معنوية مشدودة إلى قوميتها, ومترامية في تطلعاتها. وكانت الثقافة منذ نشأتها تحمل معها خصائصها وميزاتها التي أفردت واقعها بارتباطها الوثيق ببيئتها, وبتفاعلها الدينامي مع الثقافات الأخرى, لتلعب دورها في زيادة الوعي, والكشف عن معرفة ما لدى الآخر لفهمه والتفاهم معه, لا لتقليده والانصياع لروابطه التاريخية والتراثية. فقد عمّقت الثقافة وعي أبنائها إلى تراثهم وتاريخهم, ومتنت ارتباطهم الحسّي بجذورهم, وأثرت وضعهم النفسي وحصّنت وعيهم القومي والانتمائي.

التبادلات التجارية والسلعية والاستثمارية والسياسية وإلى حد كبير العقائدية مرتبطة بالجماعة بشكل أوثق وأكبر من ارتباطها بالفرد, أي أنها بطبيعتها تعامل جماعي يتعاطى فيه الفرد أعماله من خلال الجماعة. فهي بذلك نشاطات جماعية أكثر بكثير من كونها فردانية. ولهذا, فإن قابلية هذه الأنشطة للتعولم كبيرة للغاية, حتى تكاد تكون أسيرة لمتطلبات العولمة وشروطها وظروفها وطروحاتها. بينما نجد أن الحرية مثلاً, ذات طبيعة فردانية بشكل أوضح من كونها حقاً جماعياً. فهي حق فردي اتفقت عليه الجماعة, وليس العكس, وحرية الفرد في ممارسة حرياته في مجتمعه يهندسها هو ويصممها بطريقته ورغباته هو. ولذا فإن الحديث عن عولمة الحرية, التي هي نابعة من التراث الإنساني العتيق هو حديث خارج عن حدود الصدق, ومخالف بطبيعته لأسس تكوينه, ليصبح حديثاً خالياً من أي معنى ومن أي ذوق أو طعم. وكذلك الأمر بالنسبة للثقافة والحديث عن عولمة الثقافة.

فارتباطات الثقافة بجذورها القومية والنشأوية والتاريخية, تركت بصماتها الأزلية على أشكالها الرئيسة, وأنماطها الأساسية, وتياراتها المؤثرة في أبنائها وفي تكوين وعيهم لوجودهم المرتبط بنشأة هذا الوجود وتراثه وتاريخه ودوره في الكيان الحضاري العالمي. فالثقافة ليست علوماً ومعارف وسلوكاً ونمطاً فحسب, الثقافة أيضاً مكوّن الوعي الذي ارتبط بتاريخه, وامتداد لتراثه, تحصّن ديناميته وتؤقلم تفاعلها مع غيرها من الثقافات الأخرى. لتزداد تنويعاً, وتظهر أشكالها بتعددية منسجمة مع صراع المجتمع مع متطلبات التجديد والتحديث, وهي, أي الثقافة, على صلة موصولة بتاريخها وتراثها, مما يعطي للتجدد والتحديث قيمه الحضارية, لأن الانقطاع عن التاريخ والتراث, يعني ببساطة إلغاء دور الثقافة كفاعل في ثقافة العالم, والبحث عن ثقافة أخرى جديدة, تقود إلى ضياع التجديد, واندثار القديم وزواله.

أكد علماء الاجتماع النيريون أن الفروق بين البشر ثقافية وليست فروقاً بيولوجية, كما أكد هذه الحقيقة العلم الطبيعي وعلوم الاجتماع وعلوم النفس والتربية. وعمد البعض إلى وصف الإنسان بأنه كائن اجتماعي, وآخرون وصفوه بأنه كائن اقتصادي, وغيرهم وصفوه بأنه كائن ثقافي, وقال البعض إن الإنسان كائن إنتاجي... وهكذا, أي أن الإنسان (كائن كل شيء) مادام هذا الشيء من فعل الإنسان أو من فعل الطبيعة أو من فعل البيئة, أو من مجال النشاطات الحياتية التي يحيا الإنسان في مجالها ويواجه أحكامها ونتائجها. ولكن الإنسان لم يكن كائناً عالمياً إلا في حلم الحالمين وأمل الخيّرين الذين عجزوا عن صنع الخير الذي يوفر للإنسان هذه الصفة, إذ ظل الإنسان وليداً لانتمائه مشدوداً لثقافته وإن فكر عالمياً, فكان الطابع الغالب على سلوكه محلياً, أي مرتبطاً بمصالحه المحلية.

وإذا ذهب بنا الخيال إلى آفاقه غير المحدودة, هذا الخيال الذي يخلو من أي بقعة مهما كانت صغيرة من الحقيقة, وتصوّرنا قيام نظرية للعولمة شملت كل فعاليات الإنسان اليدوية والعقلية والعلمية والثقافية والنفسية وغيرها... مما يمكن عولمته ومما يستحيل على العولمة كالثقافة مثلاً, فإننا عندئذ سنجد أن وصفنا للعالم بأنه قرية صغيرة, لن يكون وصفاً حيويا, وسيكون من المناسب تماماً أن نصف العالم بأنه سفينة كبيرة تمخر عباب المحيطات والبحار, وعلى كل فرد (أو قوم, أو جماعة) أن ينصاع لأوامر القبطان وأن يلتزم بتعليماته بدقة ومهارة. فتصبح مثل هذه السفينة بمنزلة بوتقة الانصهار, التي يجد البشر فيها أنفسهم محشورين بمصيرهم, موحدين في أهدافهم, ثقافتهم واحدة, بغض النظر عن مشاعرهم ورغباتهم وأحاسيسهم.

فالعولمة ليست عملية مستقلة بذاتها, والثقافة بتشكيلاتها الثقافية ليست عملاً منفصلاً أو معزولاً عن ارتباطاته النشأوية والتكوينية, والعولمة كما هي مطروحة اليوم هي الشكل الجديد للسيطرة على أحداث العالم وموارده وثرواته, وهي ذات طابع قسري, يتعرض مناوئها لعقوبات مختلفة, قد تكون ضربة عسكرية, وقد تكون حصاراً اقتصادياً, وقد تجد في تجويعهم, أي المناوئين, سبيلاً إلى إذعانهم, وقد تحاصر تجارتهم وتبتلع أموالهم ومواردهم بشتى السبل.

ثقافة الأقوى

وفي ظل ظروف العولمة, الساعية لعولمة ما يمكن عولمته, فإن على الثقافة مسئولية شائكة في السعي إلى زيادة عالميتها, وانتشار عطائها باستثمار وسائل الاتصال والتواصل مع الثقافات الأخرى, دون انتقائية أو مواربة أو نفاق, لنتمكن من صياغة أشكال مؤثرة من ثقافة العولمة التي تساهم في الحد من طغيان القوة, واستبداد النظرة الاستعلائية, وتحجيم مفردات التفوق لثقافة السيد القوي, وفردانية القرار في مصير شعوب العالم وفي مسعاها إلى تحقيق ذاتها, وتدبير شئون كيانها, وأن المسئولية الجسيمة لثقافة العولمة, تتعدى الإيضاح والتحريض على فرض الأمر الواقع بالقوة والترهيب والتخويف, لتلعب دورها في كف يد الدول القوية عن ضرب توجهات الدول الساعية إلى تبوؤ مركز حيوي في استثمار العلوم والتقنيات, وفي بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية التي تحفظ لها سيادتها, وتصون لها كرامتها, وتدفع عنها أذى العدوان من القوى الطاغية.

أما أكثر المهام الثقافية إخلاصاً لرسالة الثقافة وانسجاماً مع دورها الطليعي في حياة الأمم والشعوب, فيتمثل في السعي الدءوب لرفع سوية مخرجاتها إلى المستوى العالمي, وتكثيف إنتاجها وتعميق مجهوداتها في إثارة الوعي العالمي. وإنارته للتعرف على مخاطر إقامة (النظام العالمي الجديد) وأهمية المشاركة الجماعية لأكبر الشعوب وأصغرها, أقواها وأضعفها في صياغة أسس هذا النظام وتشريعاته التي إن اقتصرت على الدولة التي يكرر زعماؤها أن أمريكا يجب أن تأتي في المقام الأول دائماً. وأولئك الذين يجدون أن مسئولية مصير العالم, هي مسئولية أوربية محضة, وبعض الدول القليلة الأخرى, فسيأتي هذا النظام مقصوراً على رؤية القوة, التي تهمــــــّش الضعيف, ومن منطلق الغني الذي يتباهى بإحسانه على الفقير, ومن منظور المصلـــــحة الضيــــقة التي تقتضيــــها مصالح الكبير المنفرد في التحكم بأحداث العالم, والمسيّر لسياسات الكون, دون موافقة المسيسين أو رضاهم.

فإذا كانت العولمة, لما يمكن عولمته, مساراً مفروضاً, ومطروحاً بجدية, تضخم فيه المزايا ويحذر من معاندتها, فإن النظام العالمي الجديد, إذا شاءت الظروف إلى قيامه, وهو أمر غير مستبعد, بل وممكن, فإنه سيكون نظاماً إلزامياً فيه من العقوبات وخلق الصعوبات لغير الراغبين في الاندماج فيه, ما يثير الخوف والرعب والقلق. فإذا تركت مهمة صياغته إلى الإمبرياليات القديمة دون سواها, فإن تجديدات السبل الإمبريالية ووسائلها ستخطو بالعالم إلى مسارات سيكون الخروج عنها, أو التفرّع منها من المهام الصعبة باهظة التكاليف.

قد تكون في العولمة, لما يمكن عولمته وتجوز, بعض المنافع العالمية, لأنها تكون مسيّرة إلى حد كبير بالإبداعات التقنية ووسائلها وأدواتها, التي يمكن ملاحقتها, وإن باللهاث والتعب, ولكن (قيام نظام عالمي جديد), ستكون نتائجه مؤطرة بأطره التشريعية التي لا نتوقع أن تكون فوائدها حتى ذات طابع عالمي فعلي عملي, مهما بدا شكله عالمي الطابع حسن الصياغة, أنيق الإخراج.

أثبتت التجارب السياسية والاجتماعية في مختلف دول العالم, أن العلاقة بين الثقافة والديمقراطية, ليست علاقة طردية دائماً, فكثير من الأنظمة الدكتاتورية, ولدت نخباً ثقافية عجزت قسوة الدكتاتور عن كبتها أو طمسها, أو خنقها. وفي عالم اليوم, فإن عجز كبت المثقفين أو قهرهم يزداد بروزا, لأن أساليب الاتصال والوصول إلى أكثر معاقل الدكتاتور إحكاماً وتعقيداً, أضحت من أسهل الوسائل وأقلها كلفة! خاصة إيصال الرأي أو الفكر أو الموقف أو الإبداع الثقافي في المواجهة المحتومة والمستمرة في عالم الصراع الفكري والسياسي والاقتصادي والمبدئي. ولكن ذلك لا يعني أيضاً أن الديمقراطية ليست ضرورية للثقافة لأن العكس صحيح, فالأجواء الديمقراطية تساهم بكفاءة في عملية (الازدهار الثقافي) وتسهل للثقافة المحلية سبل التواصل مع الثقافة العالمية, والدخول في ميدانها دون خوف أو تردد.

نستذكر, ونحن نقرأ إضاءة د. العسكري حول المداخلات النقدية للخطة التي وضعتها (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) والمتعلقة بإنشاء المشروعات العربية الكبرى في صناعة الثقافة, نستذكر سياسات الدول العربية كافة الاستثمارية, والتي أخذت تتنافس في مجال تقديم المحفّزات والمغريات للمستثمرين لإقامة المشروعات الاقتصادية من صناعية أو زراعية أو سياحية أو خدمية, وتمنحهم الإعفاءات السخية من الرسوم الجمركية والضرائب الأخرى وفي تقديم الدعم والتسهيلات لإقامة مثل هذه المشروعات, يأتي هذا السخاء الرسمي )الحكومي) للمستثمرين في المشروعات الاقتصادية, دعما وتشجيعاً لإقامة المشروعات لأهميتها الاقتصادية والاجتماعية, على الرغم, من أن هذا السخاء الحكومي من الدعم والإعفاءات, لا يمكن له أن يحفز أي مستثمر عاقل على إقامة مشروع لم تثبت جدواه وربحيته أصلاً, فيأتي هذا السخاء إضافة على ما يحققه المشروع من ربح مادي, ولا يشكّل في حد ذاته, أي السخاء, دافعاً لإقامة المشروع.

سطوة الرقابة

أما عندما يتعلق الأمر بالثقافة وصناعتها التي توفر للمجتمع موادها ومصادرها وتعمم فوائدها, وتبني (القواعد الثقافية) لكل الأجيال ولمختلف المشارب الثقافية وإسهاماتها في التوعية والتنوير وتحرير العقل من عبودية الجمود, والسلوك من طواعية الانقياد للجهالة والاستغفال, فإن السياسات الحكومية في مثل هذا الاستثمار تكون غزيرة إعلامياً, مقننة مادياً عند مكافأة المبدعين وحسب, وعند الفوز بجوائز ثقافية محددة. والدعم الحكومي (للاستثمار الثقافي) محدود ومكبّل بميزانيات فقيرة مقارنة مع ما توفره من ميزانيات سخية تمنحها لاستثمارات هي مربحة مادياً بطبيعتها, أي الاستثمارات في المشروعات الاقتصادية.

كان الطابع العام للسياسات الحكومية في الدول العربية هو الخوف من الثقافة ومن التوسع في انتشارها في كل بلد, وكانت للرقابة على النصوص والأقوال والأفكار والرسومات والآراء سطوة, خلقت حالة ثقافية أطلق عليها (ثقافة السلطة) وعلى مثقفيها (مثقفو السلطة) وهذه السياسات تخلخلت أركانها, ولم تعد كما كانت قبل عشرين سنة أو أكثر, وهي عينها السياسة التي حجبت التوجه نحو تشجيع الاستثمارات الثقافية.

حالة الثقافة الطبيعية, أنها تعيش في صراع مستديم, ودون استقرار, فالاستقرار الثقافي هو بداية مرحلة إفلاس المثقفين, وانتكاس الحركة الثقافية محلياً, وبطبيعة الحال إقليمياً وعالمياً.

ولكن يظل السؤال القائم, حول طبيعة هذا الصراع الذي يشكّل مركزية التكوين الثقافي في أي مجتمع وحول موضوعاته, وإنجازاته وآثاره على التحوّل الذي تشهده المجتمعات, وأيضاً على تكوين الوعي العام الذي يترك أثره على التيارات الفكرية التي تتنازع المواطنين, وتطبع سلوك التناحر أو التناطح أو التنافس أو الجدل حول هذه التيارات الفكرية, والآثار المباشرة لكل ذلك التي تكشفها الأصول الديمقراطية في توجيه هذه التيارات وتوسعها وانكماشها أو انحسارها في كل مرحلة من مراحل المشاغل السياسية والديمقراطية التي تتمخض عنها التحوّلات الداخلية في المجتمع الواحد, وعلى ردّة فعل هذا المجتمع تجاه الأحداث الخارجية وما تتركه من آثار على ذلك المجتمع. ومما لاشك فيه, أن الديمقراطية ليست (سلطة ديمقراطية) وهي ليست (تياراً ديمقراطياً) أي لا تكوّن ديمومة لتبوؤ مركزية التأثير لفكر واحد, أو عقائد أو أيديولوجيات سائدة وشاملة, فهذه الحالة, ليست بحاجة إلى ديمقراطية لأن حاجتها إلى أتباع ومؤيدين وراضين وحسب.

صدى عالمي

أما العلاقة بين محلية الثقافة وعالميتها, فهي علاقة متصلة, أي أن الإبداع الفكري, أو الأدبي أو الفني من أي نوع كان, ينشأ محلياً ويكتسب بعدها شهرته العالمية. فالمبدع الأردني الذي يروي قصة حياة أردنية معالجاً إياها بصدق ورؤية إنسانية أو أبعاد إنسانية, يجد صدى نتاجه على الصعيد العالمي, وهكذا هو الحال بالنسبة لأي مبدع أو عمل إبداعي, فالعالمية للأدب كصفة لا تعني أبداً أن الأديب كتب عملاً شمل فيه تجارب عالمية, بل عملاً محلياً برؤية إنسانية يراها الناس في مختلف مجتمعاتهم معبّرة عن مكنونات الإنسان كمخلوق منسجم مع قيم عالمية, وأحاسيس إنسانية وانفعالات يختص بها هذا المخلوق الإنساني, ويجد لها مثيلاً في مجتمعه أينما كان وبأي ثقافة اتصف.

المعايير القيّمة التي تمثلها الحرية والعدالة والصداقة والخير والكرامة والعيش الكريم وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والطهارة وغيرها هي معايير عالمية ومحلية في الوقت نفسه, وإن اختلفت أشكالها وأنماطها تظل أصولها وأطرها عالمية الطابع والانطباع, وتظل قيمها عالمية في مختلف الحضارات والثقافات والمجتمعات.

من المفيد أن نتذكر دوماً, أن كل المصطلحات التي نتداولها والأفكار التي نتبادلها حتى يومنا هذا هي مصطلحات وأفكار لها تاريخ إنساني طويل, يعود إلى نشوء الفكر وتكوّن الثقافة في المجتمعات الإنسانية القديمة جداً. وإذا استطاع أحد اليوم أن يبتكر فكرة جديدة, أو مصطلحاً إنسانياً جديداً, ليس له تاريخ طويل, ومفاهيم قديمة بأثواب مختلفة القياس والموضة والألوان, فإن فكرته على الفور ستصبح فكرة عالمية. سواء كان مقيماً في مجتمع بدائي أو مجتمع نام أو مجتمع متطور.

 

سمير عميش