ابن الأزرق.. بـين بدائع السلـك وروضة الإعلام

ابن الأزرق.. بـين بدائع السلـك وروضة الإعلام

عـرض تحـليلي ودراسة نقـدية

كتب عبدالله بن الأزرق كتابيه (بدائع السلك) و (روضة الإعلام) في أحرج فترة من تاريخ المسلمين في الأندلس, وهي فترة الانهيار العظيم للحضارة العربية والإسلامية, وخروج المسلمين من بلاد الأندلس. وتأتي أهمية هذين الكتابين من كونهما تأليفاً وتوليفاً للكثير من النصوص التراثية في مختلف العلوم الإسلامية.

على الرغم من تولي ابن الأزرق (831 هـ - 896 هـ) لوظيفة القضاء طوال حياته, حيث تولى قضاء مالقة, ووادي آشي, وغرناطة, وأخيراً قضاء القدس الشريف قبل وفاته حيث دفن, على الرغم من قيامه بالإفتاء, حيث كان أحد المفتين بغرناطة, حيث ذاعت فتاويه, وتناقلها الفقهاء في تصانيفهم, فقد احتفظ كتاب (المعيار المعرب) للونشريسي المالكي, بكثير من فتاويه, ونوّه المقري في (نفح الطيب) بهذه الفتاوي وأثنى عليها كثيراً, وعلى الرغم من قيامه بالتدريس تطوّعاً كغيره من علماء عصره, حيث تصدر للإقراء بالجامع الأعظم بغرناطة, حيث شهد تلاميذه بتصدّره للتدريس, وتميّزه بمكانة علمية كبيرة, حظي بها, مما حمل تلاميذه على الإشادة به والرواية عنه.

على الرغم من كل ذلك, فإن تميّز ابن الأزرق يتجلى واضحاً في مؤلفاته القليلة والنادرة, والتي تكشف عن عمق رؤيته العلمية والحضارية, حيث أكّد بمؤلفه (بدائع السلك في طبائع الملك), استمرار المدرسة الأشعرية في علم الاجتماع السياسي, وفي تطبيق المنهج الاستقرائي التجريبي على الظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.

وكتاب ابن الأزرق السابق لا يقل في تكامله, ولا في منهجيته عن مقدمة ابن خلدون - والتي يؤسس فيها هذا الأخير لعلم الاجتماع قبل علماء الغرب بكثير من القرون - وبالرغم من أن ابن الأزرق قد استند على المقدمة, وهي لازمة منهجية لمفكر توفي بعد ثمانين سنة من وفاة ابن خلدون فإنه خطا بالنظريات الاجتماعية السياسية لدى المسلمين, خطوات أوسع, ووصل بهذه النظريات, إلى مرحلة نضج, ومزج بين نظريات ابن خلدون ونظريات أخرى سياسية إسلامية, تستند على اتجاه ابن خلدون السياسي البحت, وهو علم الأخلاق السياسي, وهو علم لم يحظ عند ابن خلدون بمكانة واسعة, ورأى ابن الأزرق أن يضع له مكاناً بارزاً في علم الاجتماع السياسي, فحاول أن يوفق بين نظريات ابن خلدون ونظريات ابن رضوان والطرطوشي.

إضافة إلى أن ابن الأزرق, وقد تميّز بالأمانة العلمية الفائقة, يكشف لنا عن مصادره ومصادر مقدمة ابن خلدون, فبينما كان هذا الأخير (كتوماً) إلى أكبر حد, يستخدم نظريات غيره, دون أن يذكرها, نرى ابن الأزرق - وهو أولاً وقبل كل شيء فقيه أخلاقي, وراوية حديث متثبت, وقاض من قضاة المسلمين - يذكر مصادره بأمانة وصدق, ولا يكتم مآخذه ولا منابعه, ويعبر عن آرائه هو بالصيغة المشهورة (قلت).

انهيار الأندلس

لقد كتب ابن الأزرق في وقت انهيار الحضارة العربية والإسلامية بعد أن تكوّنت للمسلمين فيها دولة عظيمة لقرون طويلة ازدهرت فيها الحضارة, وانتعشت فيها المدنية, وراجت بها أسواق العلوم والفنون والآداب, ولقد كانت التجربة الأندلسية جزءا من الدور الكبير الذي لعبه المسلمون في بناء صرح الحضارة البشرية. لقد كانت الأندلس بوتقة وبوابة: هي بوتقة بما انصهر فيها من عناصر إيجابية للحضارة العربية الإسلامية, فكان أن برز بين ظهرانيها شعراء أبدعوا فأمتعوا وعلماء اخترعوا فطوّروا, وفلاسفة نظروا فبهروا, وفقهاء اجتهدوا فنجحوا, من أمثال ابن زيدون, وابن حزم, والزهراوي, وابن البيطار, وابن باجة وابن طفيل وابن رشد, وهي بوابة أصبحت معبراً لعلوم العرب والمسلمين إلى قارة أوربا, بعد ترجمتها إلى لغات العلم آنذاك.

وأهم ما أخذته أوربا عن طريق الأندلس هو منهجية البحث العلمي. لقد ضبط المسلمون بعد جهد وعناء, منهجا علمياً قوامه العقل: نظراً وفكراً, وآلته التجربة: مادة واستقراء, ولا يمكن لهذه التجربة أن تمضي بسقوط الأندلس سياسياً, لأنها تجربة ثرية مقامة على مجموعة من العناصر كالعقلانية والتسامح, ولها جذور متأصلة في تراث كان ومازال, وهي جذور لاتزول بزوال الجذع المرئي فوق الأرض (أي الأندلس ككيان سياسي). إن تجربة الأندلس لم تمح فمازال الإسبان يعيشونها آثارا ومعمارا, زراعة وريا, ومازالت تعيشها أوربا علما ومنهجا, ومازال يعيشها العرب - وخصوصاً الأقطار المغاربية - سلوكا وفنا, نعم زالت الأندلس سياسياً كدولة, ولكنها تسرّبت كحضارة في مشارق الأرض ومغاربها لدى المسلمين وغيرهم.

ولا ننسى أنه بعد فتح المسلمين للأندلس, استوعب أهلها العلوم التي انتقلت إليهم من المشرق ثم شرعوا في إضافة الكثير من جهدهم الخاص لتطوير تلك العلوم, وأظهروا اتجاهاً يكاد يكون منفصلاً عن التيارات الثقافية المشرقية في أوجه كثيرة, وخاصة في الفترات اللاحقة من نضج الثقافة الأندلسية. ولا ننسى أيضا أنه في عصر ازدهار العلوم ظهرت المؤلفات المختلفة في الطب والفلك والتاريخ المحلي والعربي, وظهر كثير من أساطين العلم وعمالقة الأدب, مثل عبدالملك بن حبيب (المتوفي عام 852م) صاحب التاريخ الكبير, ومسلم الليثي الذي اشتهر بدراسة الفلك, وأحمد بن إياس الذي وضع عقاقير شافية تربو على المائة عقار نباتي, ووضع مؤلفات كثيرة يشرح فيها عمليات جراحية معقدة, وعباس بن فرناس (المتوفى عام 887م) الذي يعزى إليه صنع الميقاتة, وكذلك صناعة الزجاج من السيلكا عماد صناعة العدسات اليوم, ولا ننسى محاولته العبقرية للطيران, فضلاً عن أبحاثه في علم الكيمياء.

ولا يمكننا أن نحصى علماء الأندلس وأدباءه وفلاسفته, الذين يأتي على رأسهم ابن باجة عالم الرياضيات والفلك والفلسفة, وابن بسام الشنتريني صاحب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وابن جبير صاحب (رحلة ابن جبير) وابن عذاري صاحب (البيان المغرب) وابن طفيل الفيلسوف صاحب (حي بن يقظان) وأبو الوليد ابن رشد صاحب الفلسفة العقلية والنقدية الأوحد الذي كتب (تهافت التهافت) والمتصوّف محيي الدين بن عربي صاحب (الفتوحات المكية), هذا فضلاً عن علماء أجلاء من أمثال ابن البيطار وابن الرومية وابن الجياب وابن خاتمة وابن الخطيب وابن حزم, ومن يقرأ كتب التاريخ والطبقات تصادفه أسماء عشرات العلماء والصوفية والمفكرين والأدباء.

عصر من الفتن

أما عصر ابن الأزرق (831 هـ - 896 هـ) فقد كان عصر الفتن والاضطرابات التي أدت إلى سقوط الأندلس, وإن نظرة سريعة على التاريخ الأندلسي في القرن الخامس عشر الميلادي, لتبين بوضوح أن أهلها كانوا في صراع مع العدو, فقد عاش الناس على مدى ثمانية قرون وهم يوطّنون أنفسهم على أنهم أهل حرب, ولم يكن سقوط الأندلس نتيجة لحظة طارئة, بل إنه منذ وقعة العقاب ( 609هـ/ 1212م) والمسلمون يعيشون هزائم متتالية, (فقد جاءهم خوف الروم, وامتلأت قلوبهم رعباً, فكانوا لا يستطيعون قتالهم, فملك الروم أخذ أكثر بلادهم, وقواعدهم, وحصونهم, ومعاقلهم), ولقد كان سقوط الأندلس راجعاً بالدرجة الأولى إلى نظام حكم فردي مطلق مارسه حكام الأندلس, دون اعتبار لتعاليم الإسلام السمحة المنظمة لعلاقة الحاكم بالمحكوم, وأدى هذا التصرّف في مرحلة أولى إلى سقوط الخلافة الأموية بقرطبة, وقيام دويلات الطوائف في القرن الخامس الهجري, وأدى في مرحلة ثانية إلى سقوط جل المدن الكبرى في القرن السابع الهجري, وفي مرحلة ثالثة إلى سقوط غرناطة في أواخر القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي.

وعلى الرغم من السقوط العظيم والانهيار التام لدولة الأندلس العربية على المستوى السياسي والعسكري فإن بعض الدارسين قد أكد على أن مستوى الثقافة والفكر قد ظل رفيعاً في مملكة غرناطة حتى القرن التاسع الهجري, حيث استطاعت هذه الآداب البقاء رغم قلة ما كانت تستطيع غرناطة أن تهيّئه لها ولأصحابها من ظروف ملائمة للانتعاش بسبب ما كانت فيه من كفاح دائم مع النصارى.

وعلى الرغم من أن غرناطة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة, فإن النشاط العلمي والأدبي لم تخب جذوته نهائياً, ووجدنا من العلماء من واصل تزويد المكتبة العربية بما جادت به قريحته, كما أن حركة الإفتاء, والعناية بالنوازل لم تتوقف, وقد احتفظ كتاب (المعيار) للونشريسي بمجموعة مهمة من فتاوي فقهاء الأندلس في هذه الفترة, وعلى رأسهم صاحبنا ابن الأزرق, كما ظلت مجالس التدريس موئلاً للطلبة الوافدين لأخذ العلم والسماع عن الشيوخ, من أمثال الشيخ التجيبي والشيخ الدقوني المعاصرين لابن الأزرق, وقد يكون فيما ألفه هذا الأخير خير دليل على هذا النشاط العلمي الرفيع المتواصل.

رحلات ابن الأزرق

خرج ابن الأزرق من غرناطة عام 892 هـ أثناء سقوطها قاصدا فاس بعد أن أقام بتلمسان فترة من الزمن ثم رحل إلى الديار المصرية لاستنهاض سلطانها (قايتباي) الذي كان مشغولاً بحروبه مع الأتراك وصد غاراتهم المتكررة, ثم توجه إلى مكة, وأخيراً رحل إلى القدس حيث تولى القضاء فيها حتى وافته المنية عام 896هـ.

مؤلفاته: له في الشعر كثير من القصائد الطوال, قالها في مناسبات معينة أثبتها بعض مترجميه, خاصة المقري في كتابيه (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) وباستقرائها نكتشف در نظمه, وبديع لفظه, ورقة أسلوبه, وطرافة مواضعه, ودقة معانيه, وتنوّع أغراضه, أما مؤلفاته من النثر فأشهرها ثلاثة مؤلفات:

1- شفاء الغليل في شرح مختصر خليل: وهو كتاب في اللغة والنحو لم يؤلف على مختصر خليل مثله إقناعاً ونقلاً, وفهماً, وذكر المقري أنه رأى منه نحو ثلاثة أسفار, ولا يدري هل أتمه أو لا... وتمامه يكون في نحو العشرين سفرا, وقد كتب المقري بتلمسان خطبته في كراسة, وقد أتى فيها بالعجب العجاب, وهي أدل على غزارة علمه, واتساعه في الفروع والأصول.

2- كتاب بدائع السلك في طبائع الملك: يقول عنه المقري في (نفح الطيب) كتاب مفيد في موضوعه, لخص فيه كلام ابن خلدون في مقدمته التاريخية, مع زوائد كثيرة عليه (كما يذكره أيضاً في كتابه (أزهار الرياض). وحقيقة لخص ابن الأزرق فيه بعض فصول مقدمة ابن خلدون, وعرض لنظرياته المتعددة, ونظم بعض هذه النظريات تنظيماً منهجياً, وأخذ من المقدمة نصوصاً متعددة وشرحها, ولكنه تجاوز ابن خلدون تجاوزاً كبيراً, وهذا ما دعا المؤرخين القدامى إلى القول بأنه أضاف (زوائد كثيرة), و (زاد عليه زيادة كبيرة نافعة).

كانت خطة ابن الأزرق أن يورد النص الخلدوني, إما كما هو, وإما يلخصه, وإما أن يفسره ثم يعلق عليه بأقوال آخرين, مؤيدين ومدحضين, وبآرائه هو مؤيداً أو مدحضاً. وفي الحقيقة, فإننا - وكما يذهب إلى ذلك الدكتور علي سامي النشار في مقدمة تحقيقه - نجد علم الاجتماع السياسي لم يتوقف عند ابن خلدون, بل نجده ينضج ويخصب ويزداد غنى عند ابن الأزرق, كما هو واضح في كتابه (بدائع السلك).

بل إننا نجد ابن الأزرق في عرضه لنظريات ابن خلدون - وقد كان قريباً من عهده وعصره - يقدم نظرياته وأفكاره ومصطلحاته تقديماً نقدياً ويزيل كثيراً من الغموض والالتباس عن مفاهيم ابن خلدون ومصطلحاته بأسلوب واضح رصين, ويقدم لنا الدكتور النشار بعض الملاحظات عن هذا الكتاب الذي يجمع بين علم الاجتماع والسياسة, ويرى أن من مآثر ابن الأزرق أنه يكشف بوضوح عن مصادره ومصادر ابن خلدون, وهي ميزة اختص بها ابن الأزرق, حيث يرجع الحق لأصحابه, وهو القاضي المتثبت, فكان يورد النصوص المتعددة والآراء الكثيرة لمفكرين سبقوا ابن خلدون وكتبوا في نفس نسق ابن خلدون السياسي والاجتماعي, فوضح لنا مصادر ابن خلدون في نظرياته عن الدولة أو العصبية والشوكة والعوارض الذاتية وغيرها من أفكاره لدى المسعودي وابن حزم والغزالي والآمدي والماوردي وغيرهم من مفكرين متعددين, مما يؤكد أنه كانت للرجل عقلية تحليلية وتركيبية استطاعت أن تربط بين النصوص المتشابهة والمختلفة وأن تضعها في نظام علمي متناسق.

أمانة علمية

وفي الحقيقة هذه الخصيصة تجدها أيضاً واضحة في كتابه (روضة الإعلام) حيث تميّز بكثرة اطلاعه وغزارة المادة التي يجمعها ويحللها وينسبها إلى أصحابها ذاكراً تلك المؤلفات التي ربما طواها النسيان, ومن هنا فأمانة ابن الأزرق العلمية واضحة في منهجه في التناول وفي معالجته لشتى موضوعات الفكر والثقافة, وكثيراً ما افتقدنا هذا النهج من أخلاقيات البحث العلمي عند كثير من الكتاب والمفكرين والأدباء, بل إننا نجد صعوبة بالغة من معرفة أصول أفكار ونظريات بالغة الأهمية عند مفكر كبير مثل ابن خلدون, لا يكشف عنها, إلا حينما نقرأ مؤلفات ابن الأزرق.

وهناك ملاحظة أخرى نجدها واضحة عند ابن الأزرق, فهو حين يتأثر بمنهج ابن خلدون العلمي, فإنه يدفع به إلى نتائجه المنطقية, بل إننا نجد ابن الأزرق يطبق في كتابه (بدائع السلك) المنهج الاستقرائي في عرضه للموضوع, فعل هذا ابن خلدون من قبل, وابن خلدون - كما نعلم أشعري تجريبي حسّي - وكذلك ابن الأزرق, ولكن المنهج يتضح أكثر فأكثر عند ابن الأزرق, فنرى هذا بوضوح في استخدامه لقياس الغائب على الشاهد, ولمسالك العلة ولقواعدها, وللاطراد وللعادة ولتحليل الجزئيات المستقراة, ثم جمعها في أصول عامة, وقد يقال: إن التفريعات والجزئيات تكثر لديه أكثر من ابن خلدون, ولكن هذا هو المنهج الاستقرائي, كان أكثر وعياً به من ابن خلدون.

والذي يقرأ كتاب ابن الأزرق (بدائع السلك), سيرى أنه كشف لنا عن ميراث كبير في علم السياسة, ووجه نظرنا إلى مجموعة من الكتّاب السياسيين, سبقوا ابن خلدون, وكشفت عنه الأيام حين حققت مخطوطاتهم في العصر الحديث, ومن أهم هذه الكتب كتاب (الشهب اللامعة في السياسة النافعة) للوزير ابي القاسم ابن رضوان, وقد أشار الدكتور النشار إلى أنه قد قام بتحقيقه ونشره, وأهمية كتاب (الشهب اللامعة) تعود إلى أنه كان مصدراً أساسياً لابن الأزرق, علاوة على أن ابن رضوان كان معاصراً لابن خلدون, بل صديقاً وزميلاً, ولم يذكر ابن خلدون هذا الكتاب.

وفي الحقيقة, كل مفكر إن هو إلا حلقة في سلسلة الفكر الذي سبقه, وهذه خاصية إنسانية أساسية, حيث إن العلم ينمو عن طريق التراكم المطرد والانتخاب الذكي الذي يقوم به كل مفكر, ولا يمنع هذا على الإطلاق من أن يضيف المفكر على آراء سابقيه جدة منهجه وطرافته, وأصالة فكره, ونبوغه الذاتي, ولا يمنع هذا على الإطلاق من أن يصوغ ما وصل إليه من مواد فكرية, بمؤشرات وعوامل تنقدح في بنية مجتمعه المعاصر, وأن يفسر بكل هذا, المجتمع الذي يعيش فيه, والذي ينعكس عن آرائه, ويجب أن نلاحظ - وهذا واضح لمن يستقرئ كتابه هذا ويحلله - أن ابن الأزرق على الرغم من أنه نهج نهجاً حسيّاً واقعياً - وقد كانت هذه سمة الأبحاث الاجتماعية السياسية في المدرسة السياسية الإسلامية - فإنه كان يضفي على هذه الواقعية الحسّية اتجاهاً أخلاقياً قريباً من المثالية الإسلامية, وهو علم الأخلاق السياسي.

ومن هنا لا يكون غريباً أن يلاحظ محقق الكتاب أن ابن الأزرق هنا يختلف عن ابن خلدون اختلافاً جوهريا, فقد كانت غاية ابن خلدون أن يفسر التاريخ وأن يرى في حوادثه, فلسفة, أو مذهباً, يجمع بين الحوادث, في شجرة العلل, والعلل تطرد في مسارها المنتظم, سنّة الله في خلقه, ولا يخرق العادة سوى تدخل القدرة الخالقة, ودون هذا التدخل, يعيش المجتمع في جبرية مطلقة, فالمكان هو المكان, والزمان هو الزمان, والأشياء متكررة معادة, وحوادث المكان والزمان تتشابه وتتلاحق في الشرق وفي الغرب. ولكن تدخل الله (باد) وقد حدث, حين قاد هذا التدخل, الأمة العربية الفقيرة من الجزيرة القاحلة إلى حيث ساد العرب الزمان والمكان, ثم حكمت فيهم السنن الاجتماعية, فأخذوا يتحسّرون شيئاً فشيئاً, ويتقلصون رويداً رويداً, حتى عادوا إلى (الفقر) ثانية وأصبحوا ملكاً لكل مكان ولكل زمان, ولم تكن هذه أبداً غاية ابن الأزرق, إنه بدأ كما بدأ ابن خلدون, من المنطلق نفسه, يفسر الظواهر الاجتماعية, ويحاول تحليل العوارض الذاتية, ويطبّق المنهج الاستقرائي الأصولي نفسه, الذي طبّقه ابن خلدون, ولكنه لم يتوقف عند التفسير المادي للظواهر كما هو, إن التاريخ لا يتوقف, والدورة الحضارية لا تنتهي, بل يعود الزمان ويمتلئ المكان, إذا ما صلح الراعي والرعية, إذا لم يحدث صراع بين الحاكم والمحكوم, ولهذا لم يوافق ابن الأزرق على نظرية ابن خلدون في أطوار الدولة. إن الدولة تعيش أبداً إذا تحققت العدالة, بين الحاكم والمحكوم, إذا لم يحدث نزاع بين الحاكم والمحكوم, ولهذا يتكلم عن الظلم والاحتجاب, ويتكلم عن فساد الجباية والاحتكار, وعن مسئولية الحاكم تجاه رعيّته وتجاه جنده.

إن ابن الأزرق يلجأ إلى الأئمة العظماء الذين وقفوا في وجه الحاكم, إلى الطرطوسي في (سراج الملوك) وهو يعظ حكام مصر ويتهددهم بالانتقام الإلهي, وإلى سلطان العلماء عز الدين ابن عبدالسلام في (قواعده) ونحن نعلم كيف قاوم عز الدين ابن عبدالسلام سلاطين مصر, وكاد يشعل الثورة عليهم, فعل هذا حفظاً على الشعب وحماية لحقوقه الاقتصادية, وإلى ابن الحاج في (مدخله) ونحن نعلم أن هذا الفقيه المغربي كان يعيش في مصر, يحارب ويجاهد احتكار السلاطين وكبار التجار والأغنياء, ويقنن حتى الأسعار في الأسواق, وإلى ابن فرجون في (تبصرة الحكام) وهو يتكلم عن آداب القاضي وعدالته, وقبوله للصلات والهدايا والرشاوى, وإلى كثير غيرهم.

أسباب الفساد

لم يكن فساد المجتمع العربي والإسلامي راجعا عند ابن الأزرق في كتابه هذا إلى نظرية في أطوار الدول, بل إلى نظرة ورؤية حسيّة, إلى ما انتاب هذا المجتمع من فساد مادي وانحلال اقتصادي وانعدام كل ثقة بين الحاكم والمحكوم, بالإضافة إلى التمزّق السياسي الذي ساد البلاد الإسلامية المتعددة, وقد رأى هذا التمزق السياسي في بلاد الأندلس في رقعة صغيرة من دار الإسلام, في مملكة غرناطة, رآها وهي تهوي تحت أقدام طاغية الإسبان يتنازعها أطماع الأمراء, يختلفون ويقتتلون, والعدو على الأبواب, وحين وصل إلى (فاس) وجدها تحترق بين المرينيين والوطاسيين, والأمر نفسه وجده في تونس, ثم انتقل إلى مصر والمماليك حينئذ في نزاع مع الأتراك, ولم يعرف الرجل اليأس, كان يؤمن أن العودة ممكنة, إذا ما تخلص الحاكم من أطماعه, وإذا ما تخلص المحكوم من أطماره, فكتب ابن الأزرق: أخلاقية الحاكم وأخلاقية المحكوم, وهذا هو ما يميّزه عن ابن خلدون.

إذن قد كان ابن خلدون عبقرية عصره بلا منازع, ولكن لم يكن العبقرية الفريدة الوحيدة في سلسلة الفكر الإسلامي, إنه كان جوهرة غالية في هذه السلسلة, لكنه استفاد أعظم استفادة بتراث الأشاعرة وانعكس على كل جزئية من جزئيات نظريته, فكرهم ومنهجهم, وهذا أيضاً ما أكّده الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (العصبية والدولة),ومن المعلوم أن ابن خلدون تأثر بالمؤرخ (فلوروس) الملخص لمعشرات طيطي, والذي عاش مؤرخاً وكاتباً ذائع الصيت, وقد عرف برأيه في تجديد حياة الدولة في أربعة عصور, عصر النشأة والعظمة والانحطاط والاندثار, التي اقتبسها عنه ابن خلدون فيما بعد.

كما أن ابن خلدون كان يحسن اللهجة البربرية المستعملة في بلاط الحفصيين, واستفاد مما كتبه البربر باللغة البونيقية, وما كتبه نسابو البربر المطاطي والنفوسي وابن كواد وابن الوراق والبرزالي والنضرومي, ويضيف (حسن السائح) في بحثه (ابن الأزرق شارح ابن خلدون) إلى هذا التراث ما أخذه ابن خلدون عن كتاب الأنساب وابن قتيبة فيما كتبه عن أخبار إفريقية في تاريخه, والمسعودي في مروج الذهب وابن حزم في الجمهرة, والفيروزي مؤلف أنساب البربر, والجرجاني في تهذيب التاريخ, والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات علاوة على معرفته بالفلسفة اليونانية وبخاصة كتب أرسطاطليس. ويضيف الدكتور النشار أنه أخذ أفكار العصبية والدولة نفسها من سابقيه وبالأخص المسعودي والغزالي, وصاغ كل هذا بمنهج تاريخي استقرائي هو منهج الأشاعرة من متكلمين وأصوليين ومحدثين, وفعل كل هذا ببراعة, وكتم في الغالب مصادره.

وانتقل التراث السياسي والاجتماعي إلى ابن الأزرق, ولم يكتم وباح, وأضاف إلى ابن خلدون, كما أضاف ابن خلدون إلى سابقيه, وكان لابد للتراث الأزرقي أن يعيش من بعده, ولم تنقطع حلقات السلسلة أبداً, وقد كشف لنا العلامة المغربي (محمد منوني) - في كتابه القيم (مظاهر يقظة المغرب الحديث) ونتيجة استقراء علمي لمؤلفات التراث - امتداد علم السياسة أو علم الاجتماع السياسي في العالم بعد ابن الأزرق, والذين تأثروا بابن الأزرق ومؤلفاته مثل الغالي محمد الحسني الإدريسي العمراني (المتوفى عام 1289هـ) في كتابه (مقمع الكفر بالسنان والحسام, في بيان إيجاب الاستعداد وحرب النظام) وكذلك محمد ابن العلاف السفياني العبدلاوي (المتوفى 1312هـ) في كتابه (تاج الملك المبتكر ومداده من خراج وعسكر).

آخر الكتب

أما الكتاب الأخير لابن الأزرق (روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام): فقد حققته الباحثة المغربية سعيدة العلمي, عن مخطوطة قديمة ناقصة وأربع مخطوطات أخرى أحدث, موجودة بخزانة الكتب بالرباط, وموضوع الكتاب التعريف بمكانة العربية من سائر العلوم الإسلامية, وقد جعل المؤلف العربية نقطة المركز, ومحيط الدائرة ما تبقى من العلوم الإسلامية, وقد شملت هذه العلوم خمسة عشر علماً هي: علم العربية, وعلم الاشتقاق, علم التصريف, علم النحو, علم المعاني, علم البيان, علم البديع, علم القراءات, علم أسباب النزول, علم الأخبار والآثار, علم السنن, علم أصول الفقه, علم الفقه, علم الكلام, علم الموهبة.

وانطلاقاً من هذا التصوّر حبك ابن الأزرق موضوعه, فجاء روضة مشتملة على أنواع شتى من العلوم, ولكل علم آلته الموصلة إلى فهمه, وآلة العربية: علم النحو, ولذلك اهتم بتقريب مدلوله, وبيان فضل علمه, بل اعتبر تعلمه وتعليمه واجبين, لأن العربية هي المرقاة لفهم الكتاب والسنّة, فيها يقوم زيغ الكلام أحسن تقويم, ولم يكتف بذلك, بل عرض لوجهة نظر الشرع أيضاً فيه, وحكم استنباطه, متبعاً آثار السلف في ظهور الحاجة إلى تعلمه, وقدم لذلك من الأدلة العقلية والنقلية ما لا يحصى, ويبقى له فضل تفصيل موضوعه, وتقريب مضمونه, بما قدمه في ديباجة الكتاب, ومن هنا نجد محققة الكتاب تشير على القارئ أن يحصّن نفسه بهذه الديباجة التي صدرها ابن الأزرق لمؤلفه, وإلا حاد عن فهم ما وضع له الكتاب أساساً لكثرة اشتباه أجزائه, ولما اشتمل عليه من عناوين عامة, وأخرى فرعية, وما فيه من حكايات وروايات ومسائل متنوعة وأحكام مختلفة.

 

بركات محمد مراد