إيزيس الحكيم

إيزيس الحكيم

استمر سعي الأدباء متواصلا في البحث عن تقديم حلول لقضايا معاصرة تمتد جذورها في زمن بعيد

ثمة وجه للشبه بين مسرحية (إيزيس) لتوفيق الحكيم وأي عمل أدبي يرجع إلى التاريخ, مثل (عبث الأقدار) أو (كفاح طيبة) لنجيب محفوظ أو غيرهما من الأعمال لغير نجيب محفوظ من الكتاب, وذلك ابتداء من مسرحيات أحمد شوقي التاريخية ((مصرع كليوباترا) و (عنترة) و (أميرة الأندلس) و (علي بك الكبير)), وانتهاء بأصغر كاتب معاصر يعيش بين ظهرانينا اليوم. والقاسم المشترك بين كل الفنانين الذين يعودون إلى الماضي القريب والبعيد هو الحاجة إلى قناع ومرآة, قناع يمكن أن يختفي وراءه المبدع ليضفي على رؤيته طابعاً موضوعياً مستمداً من أحداث التاريخ القديم. وفي الوقت نفسه, يتيح لقلمه أن ينطلق حرّاً دون عوائق. وتؤدي العودة إلى التاريخ دور المرآة حين يسترجع المبدع أحداث الماضي ليرى وقائع الحاضر منعكسة عليها, فيكشف مغزاها الإنساني الثابت, أو العكس, حين يقوم المبدع بقراءة الماضي في ضوء الحاضر الذي يخلع على مشاهد الماضي أضواءه وهمومه.

ويجرّنا ذلك إلى الحديث عن موقف الفنان المعاصر من أحداث الماضي, هل يلتزم بهذه الأحداث, ويقدم عناصرها كما هي, هل عليه أن ينظر إلى الماضي من خلال منظار الماضي فحسب أو العكس? أتصوّر أن مثل هذا السؤال يكشف عن إنجاز مبدع مثل توفيق الحكيم في مسرحيته (إيزيس). ولكي ندرك ذلك, علينا أن نتأمل أولاً أسطورة إيزيس وأوزيريس من حيث هي أسطورة, ثم نرى ما فعله الحكيم بها, وكيف عالجها معالجة درامية تهدف- في النهاية- إلى تقديم حل لقضية معاصرة وقديمة في الوقت نفسه.

أسطورة إيزيس وأوزيريس

كان في مصر القديمة أسرة من الآلهة كلها إخوة وأخوات, وكانت هذه الأسرة تتكون من الإله سخت, والإلهة نفتيس, والإله أوزيريس, والإلهة إيزيس. وقد تزوج سخت من نفتيس, بينما تزوج أوزيريس من إيزيس, غير أن سخت كان يكره أخاه أوزيريس كراهية شديدة: لأن الأخير جمع كل المحاسن والفضائل, فهو الإله المسيطر على كل أنواع الحيوان والنبات, وهو القادر على بث الحياة في كل شيء تمر عليه يداه, وهو فضلاً عن ذلك جميل المحيا, طيب العشرة, راجح العقل, كريم الشمائل, عظيم الشجاعة والقوة, وكان سخت يخشى أن يصارع أخاه وجهاً لوجه: إذ كان يعلم أنه أقوى منه بكثير, ولذلك أخذ يُعمل عقله في تدبير مكيدة تقضي عليه, وفعلاً أعد مأدبة لأخيه أوزيريس جمع فيها كل آلهةالوادي من بلاد الحبش إلى مصب النيل, وفي هذا الحفل, قدم للجميع الخمور الكثيرة حتى يستطيع أن يذهل بها أخاه عمّا يدبره له, وأحضر تابوتاً جميلاً بحجم أوزيريس ليغويه بجماله, وظل أوزيريس حذراً, إلا أنه سرعان ما لعبت الخمر برأسه, وهنا أقبل سخت بالتابوت الذهبي الجميل, وأعلن أنه هدية لأي إله من الحاضرين يصلح الصندوق أن يكون مرقداً له, فاستلقى كل إله في الصندوق ليجرب حظه, أو ليتظاهر بذلك, إلى أن جاء دور أوزيريس, فأغلق عليه الغطاء, وألقى بالصندوق في النيل, وحملت الأمواج الصندوق إلى أن بلغ البحر الأبيض المتوسط, وهناك حملته أمواج المتوسط إلى شاطئ لبنان, فرسا عند بلدة ببلوس, حيث نمت على الشاطئ شجرة ضخمة حفظت داخل جذعها التابوت, وحدث أن خرجت الإلهة عشتروت- ملكة ببلوس- كي تتريض على الشاطئ فأبصرت الشجرة, وأعجبت بها, ومن ثم أمرت أن تقطع وأن يقام منها عمود ضخم وسط قصرها ومعبدها.

وكل ذلك, وإيزيس تبحث عن زوجها الغائب, وتبكي عليه دموعاً غزيرة كانت تجعل النيل يفيض من غزارتها, وأخيراً, استدلت على موقع أوزيريس, وتنكّرت في زي خادمة كي تعمل عند ملكة لبنان, وتشكلت بعد ذلك في هيئة نسر, وظلت تحوم حول العمود لتطوف بجثة زوجها, وحدثت المعجزة, إذ حملت بولدها حوريس دون أن يمسها بشر, واستمرت الحياة بها في القصر إلى أن اطمأنت لها الملكة, وعلمت بقصتها, فأمرت بأن يرد لها زوجها الحبيس في الشجرة العمود, وعادت إيزيس مع جثة زوجها إلى مصر, واستطاعت أن تبث فيه الحياة من أنفاسها, وعاشا في مصر بمكان منعزل بين أوراق البردي التي كانت تكسو مستنقعات الدلتا, وفي هذه المنطقة وضعت الإله الابن أو الابن المخلص حوريس.

وحين علم إله الشر سخت بذلك, أقبل من جديد ليحطم إله الخير أوزيريس, ويقتله مرة أخرى, فمزّق جسده أربع عشرة قطعة, قذف بكل واحدة منها في إقليم من أقاليم مصر الأربعة عشر, أما إيزيس فقد اتهمها بخيانة زوجها, وزعم أنها حملت حوريس سفاحاً, ودعا الآلهة إلى محاكمتها, ولكن الإله تحوت برأ ساحتها, وأثبت أن حوريس هو الابن الشرعي لأوزيريس. وحاول سخت- رغم ذلك- أن يفتك بحوريس الصغير لكن أمه خبأته بعيداً إلى أن كبر, وعندئذ أظهرته كي يجمع أشلاء أبيه. ومضى حوريس بجمع ما تفرق من جسد أوزيريس في أنحاء مصر إلى أن تحقق له ما أراد, فانصرف بعزمه إلى قتال عمه سخت قاتل أبيه. وينتصر عليه بالفعل, بعد أن ردّ الحياة إلى أبيه. هذه هي خلاصة الأسطورة كما رواها المؤرخ اليوناني بلوتارك. ولقد نقلها عنه بمزيد من التفصيل لويس عوض في كتابيه (المسرح المصري) و(دراسات في أدبنا الحديث) فليراجعهما من يريد زيادة في المعرفة.ولا يفوتني في هذا السياق تأكيد ارتباط الأسطورة بالاعتقاد الديني المصري القديم, وأن الأسطورة كانت بمنزلة شعيرة تؤدّى لاستجلاب الخصب إلى عالم الجدب, مبرزة طابعها التبريري الذي يفسّر فيضان النيل في موسم بعينه كل عام بعد طول جفاف وطول انتظار.

ودليل ذلك أن الفراعنة القدماء ظلوا يرون في أوزيريس إلها للخصب, ويؤمنون بأنه وحده الذي يبث الحياة في كل أنواع الحيوان والنبات, ويملأ الأرض بالخصب, أما سخت فهو إله الشر الذي يشبه الصحارى المجدبة التي تقضي على الخصوبة والحياة, أما إيزيس الجميلة فهي مصر العذراء التي تخصب كل عام بأنفاس أوزيريس وحدها, أما حوريس, فهو الإله المنقذ الذي يقضي على الشر, ويتيح لكل من قوى الحياة والخصب ممارسة الحضور الفاعل في الوجود.

موقف الحكيم من الأسطورة

توقف الحكيم أمام هذه الأسطورة ولفت نظره الصراع الدائم بين أوزيريس (إله الخير والخصب), وحوريس (إله الشر والجدب), ولكنه نقل هذا الصراع من مجراه الأسطوري ووجّهه وجهة جديدة. ودليل ذلك ما يقوله في تذييل المسرحية من أنه: (ليس المقصود هنا تصوير الحياة الفرعونية, أو بسط العقائد المصرية القديمة, بل المقصود... إبراز شخصيات الأسطورة إبرازاً جديداً إنسانياً, وتخريج معناها على المفهوم الحي في كل عصر وفي العصور الحديثة على الأخص). ويقصد الحكيم بهذه الكلمات إلى أنه لا يريد من الأسطورة جوانبها اللاعقلية الساذجة, وإنما القيمة الإنسانية الحية الجديرة بأن تناقش, وأن تعالج, وأن ننظر في مرآتها إلى مشكلات حياتنا, والنتيجة هي ما انتهى إليه من أن الصراع بين أوزيريس وسخت أو طيفون هو نموذج للصراع بين رؤيتين مختلفتين للحياة, تنظر كل واحدة منهما إلى الحياة نظرة جد مختلفة, فأوزيريس يصدر عن نظرة مثالية خالصة, ترى أن الحكم ينبغي أن يقوم على أشرف الطرق, وينبغي أن يهدف إلى الخير المحض ونفع الشعب, دون أدنى اهتمام بالمصالح الشخصية, أما سخت, فيصدر عن نظرة مادية نفعية شريرة, ترى أن الوصول إلى الحكم لا يمكن أن يتم عن طريق ذلك, بل عن طريق الخداع والخيانة, ولا بأس من القتل والظلم في سبيل تحقيق الغاية الأساسية التي هي حكم الناس.

ويوضح الحكيم ذلك في تذييله, عندما يقول: (ما حقيقة الصراع بين أوزيريس وطيفون? ربما كان في نظر المعاني الحديثة صراعاً بين رجل يعرف كيف يخدم الناس, ورجل يعرف كيف يستخدم الناس), هذا هو التفسير الجديد الذي خلعه الحكيم على الصراع الأسطوري القديم بين أوزيريس وطيفون أو سخت. وقد دفع هذا التفسير إلى أمرين محددين في المسرحية. أولهما: استبعاد كل العناصر اللامعقولة في الأسطورة, خصوصاً تلك التي لا يتقبلها العقل الحديث, وذلك في مثل قصة الشجرة التي نمت حول تابوت أوزيريس, وحمل إيزيس لحوريس دون أن يمسّها بشر, ثم بثها الحياة في أوزيريس من جديد, وغير ذلك من الظواهر والمظاهر التي تتعارض والمنطق العصري للعقل العملي. وثانيهما: تحوير بعض العناصر القديمة للأسطورة وتغييرها. والمقصد هو تأكيد معنى التفسير الجديد للأسطورة.

والنتيجة هي استبعاد الحديث عن عشتروت ملكة ببلوس وجعلها ملكاً, وجعل إيزيس تنجب حوريس إنجاباً طبيعياً من زوجها. وضمن الحكيم لنفسه- بهذين الأمرين- تقديم أحداث معقولة ذات صبغة واقعية, تبتعد عن الطبيعة اللاعقلية للأسطورة, وتقترب من عقول الناس, وتمكنهم من استيعابها والموافقة عليها. وقد ساعده ذلك على النجاح في تجسيد القضية التي يعالجها, وعدم السقوط في مهاوي الاستطراد أو المبالغة الساذجة التي وقع فيها غيره من السابقين عليه.

الصراع في المسرحية

الصراع الرئيسي في المسرحية هو الصراع بين نظرة أوزيريس ونظرة طيفون إلى الحياة, تجسيداً للصراع بين الخير والشر, النزعة النفعية والنزعة المثالية, ويوجد إلى جانب هذا الصراع صراع فرعي, يغذي الصراع الأول ويعمّقه في نفس المشاهد, أعني صراع الفنان بين أن يلتزم بقضايا الجماهير ويساعدهم على مجابهة مشاكلهم, متورطاً في قضايا حياتهم اليومية وصراعاتهم السياسية الاجتماعية, أو أن ينعزل عنهم في برج عاجي, كما لو كان يجافيهم ليعرفهم. وهذا الصراع يمثل قطبيه كل من الكاتب توت والكاتب مسطاط, ويتجاوب هذان النوعان من الصراع في المسرحية على نحو يجعل منها ضفيرة مزدوجة, تجمع الصراع الأساسي بين أوزيريس وطيفون, والصراع بين توت ومسطاط. أما الصراع الأول, فيبدأ بانشغال أوزيريس بخير الشعب وتفانيه في خدمته, ولكن بواسطة الانعزال فيما يشبه البرج العاجي, كي يتفرغ للاختراعات المفيدة للناس, ولم يكن أوزيريس يعرف أنه بذلك يترك المجال لأخيه كي يستبد بالناس وينظم أعوانه للاستيلاء على الحكم. وبالفعل, أخذ أعوان سخت في سلب خيرات الناس, بل أخذوا يحرمونهم من نتائج ما أبدعه عقل أوزيريس المنعزل. وكان مصير أوزيريس نفسه الإلقاء في النيل, واستيلاء طيفون على الحكم, معلناً فلسفته النفعية البرجماتية في الحياة, تلك الفلسفة التي أوجزها, عندما قال لشيخ البلد: (إن أمامي عملاً جسيماً: الحكم يقظة دائمة, والحاكم يجب أن يكون كالذئب ينام بعين مفتوحة, ومن ينعس بملء جفنيه كالأطفال كشقيقي, فإنه قد يصلح كاهناً أو عالماً ولا يصلح حاكماً).

وتكشف هذه الكلمات عن مأساة أوزيريس الذي عرف كيف يخدم الناس, لكنه لم يعرف كيف يستخدمهم, فسقط سقطته التراجيدية التي استغلها أخوه للقضاء عليه.

ولقد عرف طيفون كيف ينال الملك, وعرف أيضاً كيف يستخدم الناس ويستغلهم, ولم يهتم إطلاقاً بأن يخدمهم, فنجح في الوصول إلى السلطة والانفراد بها, بعد أن تم له أمر الانتصار على أخيه.

وقد شوّه صورة الحاكم العظيم في أذهانهم, ولم يترك منها سوى أقبح الهيئات والصفات, الأمر الذي صدم أوزيريس عندما سمع بأذنيه الناس يلعنون ذكراه, وكانت النتيجة هي قراره بالانصراف عن الحكم, واعتزال الصراع الملوّث للمصالح, ومن ثم الاعتصام بمثاليته التي دفعته إلى تعليم الفلاحين البسطاء- الذين لم يكونوا يعرفون حقيقته- طرائق الفلاحة والزراعة, أما الحكم, فاشمأزت منه نفسه لاحتقاره وسائل أخيه. ولا تتركه إيزيس في حاله, وإنما تكشف له عن حقيقة الموقف, قائلة: إن الذي صدمه ليس الناس, بل طرائق الحصول على الحكم. ولكنه لم يعد مهتماً بذلك, فقد هجر غواية السياسة وبريق الحكم وانتهى الأمر. وبالطبع, لا يترك طيفون أخاه في حاله. لقد كان حب الناس لأوزيريس- أو للرجل الأخضر كما يسمّونه- عملاً سياسياً يهدد مركز الأخ الشرير, ذلك على الرغم من أن الرجل الأخضر لم يكن يهدف إلى القيام بعمل سياسي, ومن ثم تبدأ المطاردة الجديدة, المطاردة التي تؤكد أن أوزيريس- دون أن يدري- كان يعمل على الوصول إلى الحكم بأشرف الطرق وأنبلها.

وتفرض هذه النتيجة السؤال الجذري الذي يطرحه مسطاط الكاتب على نفسه, وهو يحاور زميله توت: (الآن اتضح لي كل شيء, إن لم يستطع طريق شريف كطريق أوزيريس أن يوصل إلى الحكم, فما هي النتيجة? ما هو المصير?

توت: دعك الآن من هذه الكلمات السامقة, لتقصر الوصف على واقع الأمر, إن إخفاق أوزيريس معناه, بصورة أبسط, أن العلم والعمل لخير الناس ليسا بأفعل الوسائل المؤدية إلى الحكم.

مسطاط: ما هي أفعل الوسائل إذن?

توت: ربما وسائل طيفون).

نهاية حتمية

ويجسّد الحوار السابق الصراع في المسرحية تجسيداً واضحاً, كاشفاً في الوقت نفسه عن النهاية الحتمية لأوزيريس الذي يتصدى له طيفون ويقتله قتلاً بشعاً.

وعندما يحاول مسطاط في حضور صديقه توت إفهامها أنه يريد لحوريس الوصول إلى الحكم, ولكن على أساس مبادئ أبيه أوزيريس, تصيح إيزيس متوجهة بالخطاب إلى توت قائلة: (لا تُصـغ إلى هـذا الساذج يا توت, إنه ينسى أننا نعد لمعركة, وأن خصمنا في هذه المعركة رجل قوي مغامر بارع الوسيلة, واسع الحيلة, وهو فوق ذلك مطلق اليدين يطعن بكل سلاح, في حين أننا نريد أن نكتّف حوريس بقيود الشرط, ونقدمه لخصمه مغلول اليدين, مكشوف القلب).

ويكشف الحوار عن انتقال الصراع من الخارج إلى الداخل, ومن ثم توتر إيزيس نفسها ما بين النقائض التي أصبحت تنطوي عليها, والتي تتكشف في الحوار الذي ينطق المكبوت من الصراع الداخلي الذي يدور في أعماقها, لقد كانت إيزيس, أولاً وقبل كل شيء, ملكة وزوجاً وأمّاً, تريد أن تعيش في كنف زوجها وتجلس معه على العرش, فلما تعذّر ذلك, سعت إلى أن تضمن لابنها حوريس أن يرث عرش أبيه ويسترد مكانته المغتصبة, حتى لو تحالفت مع شيخ البلدة. وترفض أقوال مسطاط ومثالية زوجها, وبالفعل, تنجح حيلتها ويصل حوريس إلى الحكم, وتتكشف الحقائق أمام الشعب, فيحطم طيفون ويرفع حوريس, ويمجّد ذكرى أوزيريس. وهنا يقول لها توت: (كم من الجهد بذلت فـي حياتك يا إيزيس كي يعرف الشعب الحقيقة?), فترد عليه قائلة: (ليس يهمني الجهد, كل أملي أن يكون زوجي أوزيريس في خلوده صافحاً عنّا, راضياً عمّا فعلنا).

ولكن, هل يمكن أن يصفح عنها أوزيريس حقّاً, وهل يمكن أن يرضى عمّا فعلته? أغلب الظن أن الإجابة لن تكون إلا بالنفي من وجهة نظر المثاليين الذين يرفضون توسيخ أيديهم بالجوانب النفعية العملية من الممارسة السياسية, وأحسب أن الإجابة لابد أن تكون بالإيجاب عند المعارضين لهم, لكن المهم على أي حال هو أن توفيق الحكيم, من خلال تصويره للصراع بين كل من أوزيريس وطيفون, كان يجسّد قضية ظلت تلح عليه, وكان يحاول أن يبحث عن إجابة السؤال الجذري: من الذي يستحق الحكم? هل هو الذي يعرف كيف يخدم الناس أم هو الذي يعرف كيف يستخدم الناس? هل هو الحالم الذي يعمل منعزلاً في برج عاجي- مهما كان عمله, أم الذي يعرف كيف ينظم الجماهير ويخادعها? هل المستقبل لرجل العلم والدين أم لرجل السياسة والدعاية?

وليست الإجابة عن هذه الأسئلة بعيدة عن مجال الفن, حيث يعمل مسطاط وتوت, فالمجلى الإبداعي لهذه الأسئلة في مجال الفن يقود إلى الصراع بين الكاتب الملتزم والكاتب اللاملتزم, وهو الصراع الذي شغل الأذهان زمن كتابة المسرحية, وكان ملحاً على توفيق الحكيم نفسه بوصفه داعية (البرج العاجي) بمعناه الإيجابي, والواقع كان توت أقرب إلى شخصية أوزيريس, في المسرحية, ومن ثم أقرب إلى حلم توفيق الحكيم. كان يكتفي بأن يسجل ويغني ويرفّه عن الناس, دون أن يحاول أن يلتزم بقضاياهم, أو يقودهم في معركة نضالهم من أجل مستقبل أفضل. أما مسطاط, فكان على العكس منه يؤمن بدور الفنان الإيجابي في الحياة, ويؤمن بأن عليه أن يحرّك الجماهير ويعلمها كيفية المطالبة بحقوقها, ولذلك يصطدم الاثنان عندما تأتيهما إيزيس طالبة العون في أول المسرحية, فيقول توت إن قلمه للتسجيل لا للحرب, فيرد عليه مسطاط بأن قلمه للمحتاجين إليه أولاً وأخيراً.

ولكن الأحداث لا تترك (توت) على حاله, وتعلمه أن الانعزال الكامل للفنان وهم مستحيل, وأن الفنان عليه أن ينحاز وأن يختار حينما يواجه تقاطع الطرق وتصارع الاتجاهات التي لابد أن يتخذ موقفاً منها, ويصل توت إلى إدراكه الجديد بوظيفة الفن في الحياة حين يصطدم بالأحداث ويتفاعل معها, وذلك على النحو الذي يؤدي به إلى التخلي عن فكرته, ويعي أن عليه أن يتخذ موقفاً إيجابياً من المشكلة التي كانت تواجهها إيزيس, والتي كان عليه أن يواجهها معها.

وفعلاً يختار توت طريق المقاومة, ويساعد إيزيس بقدر طاقته, وعلى الرغم من أن مسطاط يختلف معهما, عندما تتفق إيزيس مع شيخ البلد, فإن (توت) يواصل الطريق إلى النهاية, ويتصدى لطيفون مدافعاً عن حوريس, كاشفاً للشعب الحقيقة, وفي ذلك كله, ما يجعل من توت نموذجاً للكاتب الأمين الذي يتخلى عن موقفه السلبي عندما تتضح أمامه الحقيقة, ويفرض عليه الواجب الاختيار الحاسم بين الأضداد, فيقدم كل ما يستطيع لشعبه كي يبصّر أفراده بالحق والخير والجمال, ويستبدل بالحياد الانحياز في مواجهة أعداء هذا الشعب, ولم يكن من قبيل المصادفة أن يطلق الحكيم على نوع هذا الكاتب اسم توت, الاسم المحرّف من تحوتي الإله العظيم الذي انتصر لإيزيس, وأثبت شرفها وأمومتها لحوريس.

الأحداث والشخصية

هذا عن الصراع الأساسي في المسرحية, فإذا انتقلنا إلى الأحداث أمكن القول إن الأحداث في المسرحية أحداث تتسلسل تبعاً لقانون السببية, كل حدث ينبع من الحدث الذي يسبقه ويمهّد للحدث الذي يليه إلى أن تصل المسرحية إلى نهايتها شبه الطبيعية, ولعلنا نلاحظ من الحديث عن صراع الشخصيات أنها شخصيات لا تأخذ صفة واحدة, وإنما هي شخصيات متوترة حيّة, تؤثر في الأحداث وتتأثر بها في الوقت نفسه.

فإذا توقفنا على شخصيتي طيفون وأوزيريس مثلا, لاحظنا على الفور أن الشخصيتين كلتيهما شخصيتان نمطيتان, حافظتا على خصالهما ولم تتخليا عنها على الإطلاق, إذ لم تغيّر كلاهما موقفها من الأحداث, ويرجع السر في ذلك إلى طبيعتهما الرمزية, فكلتاهما رمز لأسلوب من أساليب الحياة, والرمز في مثل هذا النوع من المعالجة, خصوصاً في مسرح الحكيم, لا يحتاج بالضرورة إلى تصوير الجوانب المتعددة للشخصية, وإنما التركيز على جانب واحد من كل شخصية, ليصطدم الجانب المهيمن فيها بالجانب المضاد في الشخصية الأخرى, ومن خلال الصدام تتحرك القضية التي يريد المؤلف معالجتها.

ويعني ذلك أن مسرح الحكيم مسرح أفكار أساساً, وصفه غير ناقد بأنه مسرح ذهني, بمعنى أنه مسرح لا تتحرك الشخصيات الأساسية فيه ككائنات بشرية من لحم ودم, وأهواء متناقضة ومتضاربة, أو تسمو وتنحط, بل تتحرّك كرموز لأفكار.

حتى إن إيزيس مثلا هي التجسيد الإبداعي والموازاة الرمزية لنزعة توفيق الحكيم الوسطية, فهي لا تميل إلى الأطراف الحدية طوال المسرحية, وترفض العزلة الكاملة في الأبراج العاجية, وتحيل معنى البرج العاجي إلى معنى إيجابي تتقدم به الحياة وتحقق فضائلها, ولا تتردد في الإفادة من الأساليب التي يرفضها زوجها ما ظلت هذه الأساليب لازمة لتحقيق العدل والخير والجمال والحق في هذه الأرض. ولذلك, فإن حضورها العملي الخيّر يمثل الإجابة على الأسئلة التي تطرحها المسرحية, الأسئلة التي يجيب عنها الحكيم إبداعياً بما يؤكد (التعادلية) التي دعا إليها, والتي جعل من حضور إيزيس الدرامي الحي تجسيداً لها.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات