دارفور.. ماذا حلّ بمنازل الملوك؟

دارفور.. ماذا حلّ بمنازل الملوك؟
        

دارفور هي جزء أصيل من السودان، وهي داخل الحدود الدولية، التي اعترف بها العالم منذ استقلاله في عام 1956، وقد تعاقبت عليه حكومات السودان الوطنية، وتعهدت بحمايته وضمان استقلاله ووحدة ترابه... فما الذي أشعل النيران في هذا الجزء الغالي من الوطن؟

          دارفور تعني  «منازل الفور» ومكان وجودهم أو بلادهم . أما كلمة «فور» فهي مشتقة من كلمة فارو من لغة الفور القديمة «الملك» وكذلك كان الفراعنة يطلقون على ملكهم اسم «فارو»  والفور هم من مجموعة القبائل التي تنتمى الى قبائل غرب إفريقيا مثل الكاتوري والهوسا . وقد اختلطوا مع التنجور (الشاويين) والكنجارة - سكان جبل مره - حكمت دارفور عن طريق السلاطين فيما يسمى بالعهد القديم الذي كان آخر سلاطينه السلطان شاودوردشت 1416 - 1445، هذه الفترة لم يختلط فيها الفور بالمجموعات الأخرى لكنها كانت تعتمد التشريع الاسلامى في عهد شاو كقانون للدولة بالإضافة للعرف . وقد أسس شاو صلات قوية مع الحرمين الشريفين، وكانت له أوقاف، وأهدى له القائمون على الأمر بالحجاز النخيل، وقام بزراعته على امتداد وادي عين سيرو غرب كتم بدارفور.

          في مطلع الستينيات كانت كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم تهتم بالبحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية في جميع أنحاء السودان، وكانت تستغل الإجازة الصيفية لكي ترسل الطلاب لأقاليم السودان المختلفة لإجراء الاستطلاعات في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . وبما أننا كنا طلابًا بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد، فكنا في كل إجازة تختار لنا إدارة الكلية منطقة من مناطق السودان المختلفة لإجراء الاستطلاعات لقياس الوعي السياسي، بعد تحديد الأسئلة والطريقة العلمية، التي يمكن أن يجري بها الاستطلاع، وكان يقوم بإعدادها أساتذتنا من إنجليز وسودانيين. أمثال الدكتور جعفر محمد علي بخيت، ود. معتصم البشير رئيس قسم العلوم السياسية، ومستر نبلوك، ومستر تميست ، والدكتور عدلان الحاردلو الذي رافقنا في رحلتنا إلى جبال النوبة. وفى خريف عام 1969م، وقع الاختيار على دارفور، فتوجهنا إلى نيالا وأجرينا استطلاعاتنا ثم إلى كاس ثم اتجهنا غربًا صوب جبل مرة مرورًا بنيرتتي، واستقر بنا المقام باستراحة قلول في أعلى الجبل . كان الطريق وعرًا ومخيفًا بالنظر إلى ضيقه وعلوه. فحين تنظر إلى تحت وأنت بالسيارة ترى نفسك في السماء وأنت في طريق ضيق تصعد الجبل وتحتك هاوية سحيقة، ولكن السائقين ما أقدرهم وجمال الطبيعة يلهيك عن كل هذه المخاوف والجو ربيعي والخضرة نضرة والأشجار والأزهار ألوانها زاهية، حتى الطيور ألوانها مختلفة كألوان الزهور والأشجار والأعشاب. استقررنا باستراحة قلول التي أعدها الإنجليز إعدادًا مكتملاً بكل ما يتطلبه المقام من غرف وسرائر وفرندات ومطبخ وأواني طعام وبوتجاز وخلافه . وكان يمر علينا من وقت لآخر موظفو الغابات والبساتين وكنا نذهب معهم إلى مواقعهم ونسأل عن المانجو والليمون المزروع في كل المنطقة لماذا هو بهذا الحجم الفاخر فيقولون لنا إنهما هجين سوداني أمريكي من منطقة كالفورنيا. تلك كانت الإجابة وسألنا عن التبغ المزروع في تلك البساتين، ولماذا لونه لامع، فقالوا لنا إنه أجود من تبغ فرجينيا. في الطريق كنا نلتقي بالأهالي الطيبين، وكانت التحية دوما  آفيه تيبين ... آفيه تيبين ... آفيه تيبين)  أي (عافيه طيبين ... عافيه طيبين)، يكررها لنا أهلنا في جبل مرة، أينما ذهبنا ويأتونا بالهدايا كل يوم من فواكه وخضراوات ولحوم وخلافها. امتطينا الحمير والخيول لكي نقوم بزيارة سوق ناما البعيد قليلاً عن استراحة قلول. وأصر ملاك هذه الخيول والحمير ألا ندفع أي أجر لهم بالنظر إلى أننا طلاب بجامعة الخرطوم، وعندما وصلنا لسوق ناما، كان جميع التجار يصرّون على أن نتناول وجبة الإفطار معهم فاضطررنا إلى تقسيم أنفسنا إلى مجموعات كل اثنين أو ثلاثة يذهبون مع أحد المواطنين إرضاءً لهم، وكانت الطبيعة من حولنا خلابة والمناظر جذابة والأشجار مخضرة، والجو ربيعيا والنسيم عليلا. 

أبناء السلطة المركزية

          أجرينا استطلاعاتنا ولدهشتنا استوقفنا السؤال الخاص بالسلطة المركزية، فحين سألناهم عن رأيهم في الرئيس جعفر نميري (هذا السؤال يخص معرفة رأى المواطنين في السلطة المركزية) كانت غالبية الإجابات تقول (راجل كان أرسا أمك ما تراه أبوك) أي إذا تزوج الرجل أمك فهو بالطبع أبوك. وفي تحليل أساتذتنا للموضوع قالوا إن هذا يمثل الخضوع للسلطة المركزية. كان أساتذتنا الأجلاء يقومون بتحويل هذه الآراء إلى نسب بواسطة الكمبيوتر الوحيد في ذلك الوقت جلب إلى جامعة الخرطوم وافتتحه الزعيم إسماعيل الأزهري، وكان في حجم غرفة كبيرة. كان الأمن مستتبًا في استراحة قلول، وكنا ننام في الباحة المجاورة للاستراحة ليلاً، والغريب في الأمر أنه حتى النمور، التي كانت تزور المكان ليلاً ونشاهدها على مقربة منا تبين لنا من الأهالي أنها لا تهاجم الناس، إنها تأكل الفضلات فقط ثم تنصرف ... هذه حقيقة عشناها جديرة بالإشارة. من وقت لآخر، كنا نشاهد أجانب من النساء أو الرجال يمتطون حميرًا فسألنا في أحد المشاهد فقيل لنا إنهم من ألمانيا. ولا ندري في ذلك الوقت هل هم سواح أم من الباحثين؟!! كم تمنيت أن تستمر مثل هذه الاستطلاعات والبحوث العلمية.

          لعله من المفيد بعد هذه المقدمة أن نبحث عن الأسباب التي أدت لتغير الأوضاع في تلك المنطقة الآمنة، وما هي جذورها والواقع الذي نعيشه اليوم وآفاق المستقبل.

جذور المشكلة في دارفور

          الباحث في التاريخ يجد أن الصراع بين القبائل على الماء والكلأ يعود إلى ما قبل أيام الإمبراطورية العثمانية، التي كانت سلطنة دارفور تمثل طرفًا من أطرافها مجاورة لسلطنات التنجر، ووداي وكانم والهوسا ومملكة سونقى ومالي، وكانت القبائل في هذه السلطنات متداخلة ولا تعرف الحدود الجغرافية، التي رسمها الاستعمار، وهي مزيج من القبائل الإفريقية والعربية منها القبائل المستقرة والأخرى تتألف من البدو الرحل. القبائل المستقرة تمتهن الزراعة فيما يعتمد الرحل على تربية الإبل بصفة غالبة، وكذلك الضأن وهي تجوب هذه المساحات الشاسعة من دارفور شمالاً وجنوبًا، وتمتد هذه الرحلات العربية في المنطقة والمناطق المجاورة لها لتصل إلى تشاد والنيجر وشمال وشرق إفريقيا الوسطى. تبلغ مساحة دارفور حوالي 570 ألف كيلو متر مربع ويقطنها حوالي 6 ملايين نسمة والقبائل الغالبة فيها هم الفور والزغاوة والبرتى والتاما والبرقو والمساليت والتعايشه والرزيقات والمسيرية وبني هلبة والمعالية والسلامات والمحاميد والترجم والفلاتة. وبالرغم من وجود لغات خاصة بكل قبيلة من هذه القبائل فإن اللغة العربية هي اللغة الغالبة ويدينون جميعهم بالديانة الإسلامية. والمنطقة معروفة بكثرة الخلاوي والمسائد التي تقوم بتنشئة الأطفال على حفظ القرآن منذ نعومة أظفارهم. لقد تفاقمت المشكلة مع استفحال الجفاف والتصحر الذي ضرب دول الساحل والصحراء، وكذلك دارفور وغرب السودان بصفة عامة. لذلك هربت القبائل من عربية وغير عربية من الدول المجاورة إلى السودان لما يتوافر فيه من قدر يلبي حاجاتهم المعيشية فأحدث هذا تغيرًا ديمغرافيًا في المنطقة. ولا ننسى أن الحرب في جنوب السودان، قد ألقت بظلالها على إقليمَي دارفور وشرق السودان، حيث إن الحركة الشعبية لتحرير السودان كان من بين أهدافها إضعاف الحكومة ومحاولة إسقاطها، فانقضت كطائر ذي جناحين يوجه منقاره صوب الخرطوم ويزحف بجناحيه من الغرب والشرق. وأطلقت على هذه المناطق اسم المناطق المهمشة وزوّدت المتمردين في المنطقة بالسلاح وساهمت في تدريبهم عسكريًا ودعمهم لوجستيًا . وفى عام 2002 م، تم تشكيل حركة تحرير دارفور ثم تحولت إلى حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور وفي عام 2003 م تكونت حركة  العدل والمساواة بقيادة د. خليل ابراهيم، وتجدر الإشارة إلى أن القائدين من الحركة الإسلامية ومعظم مؤيديهم من قبائل الفور والزغاوة والمساليت . لكن الحركات الدارفورية متعددة فهنالك التحالف الفيدرالي بقيادة محمد إبراهيم دريج والجبهة الديمقراطية بقيادة إسماعيل نواي وحركة تحرير السودان جناح احمد عبدالشافي وجبهة الخلاص التي اتفق عليها كل من خليل ابراهيم ودريج وشريف حرير وخميس عبدالله أبوبكر . هناك أغلبية صامتة في دارفور لم تحمل السلاح ولم تنضو تحت لواء هذه الحركات، وفي تقديري سيظل هذا الأمر بعيدًا عن الأنظار إلى حين انعقاد مؤتمر الحوار الدارفوري - الدارفوري، ويبرز أثره جليًا عند إجراء الانتخابات، التي تم الاتفاق عليها في اتفاقية السلام الشامل مع الجبهة الشعبية لتحرير السودان.

واقع مؤتمرات الصلح

          ترى حكومة السودان دومًا أن قضية دارفور لا يمكن حلها إلا عن طريق التفاوض وهي قضية داخلية ترتبط بالتنمية مراعاة للحفاظ على النسيج الاجتماعي ولم ترفع الحكومة السلاح في وجه المتمردين إلا حفاظًا على هيبة الدولة وتوفير الأمن لسكان دارفور وسيادة القانون وحماية الحدود. لذا فقد توالت مؤتمرات الصلح، التي أشرفت عليها الحكومة وقبلت بالوساطة التشادية، حيث تم التوصل إلى اتفاق أبشى واتفاقية انجمينا في 8 أبريل 2004 م وقبلت الحكومة دخول الاتحاد الإفريقي لمراقبة وقف إطلاق النار. هذه المساعى الحميدة كللت بالنجاح، لكن هناك قوى كانت تعمل دومًا على تقويض مثل هذه المساعي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والمنظمات الكنسية والمنظمات الطوعية الغربية ومنظمات كمنظمة (Human rights watch )، هيومان رايتس ووتش، التي اتخذت حقوق الإنسان كمدخل لها وقامت بتسييس المشكلة وتسويقها عالميًا والذهاب بها إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وإلى الصحف والفضائيات والإذاعات بكل اللغات واللهجات . كما قامت تلك المنظمات الطوعية الغربية بجمع التبرعات لإنقاذ دارفور، طافت بذلك كل العالم واستنفرت المعنيين والمعنيات والممثلين والممثلات للتعاطف مع أهل دارفور . إزاء كل هذا كانت الحكومة تتعامل وفق ما يحفظ سيادة السودان وسلامة أراضيه واحترام مواطنيه والدفاع عنهم وعن أراضيهم . وواصلت أسلوب التفاوض ودعت المجتمع الدولي للتعاون وأهمية مراقبة وقف إطلاق النار والنزع المتزامن لسلاح المتمردين والميليشيات القبلية المتفلتة، وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين وتقديم الإغاثة لهم، كما ظلت الحكومة تركز على تقديم الخدمات للقرويين وتنفيذ المشروعات الخاصة بدارفور كمشروعات الصحة والرعاية الاجتماعية وإنشاء السدود والخزانات والطرق والمدارس وبناء المطارات وتأهيل ما دمرته الحرب. استقبلت الحكومة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في يوليو 2004 م الذي زار دارفور، وتم التوقيع على خارطة طريق لحل المشكلة سلميًا، وحسم المسائل الإنسانية. انهالت بعد ذلك الوفود على دارفور وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث زارها كولن باول وزير الخارجية السابق وزارتها كوندوليزا رايس الوزيرة الحالية ورئيس الوزراء البريطاني, ودوفلبان وزير خارجية فرنسا ووفود عالية المستوى من هولندا وإيطاليا وألمانيا والاتحاد الأوربي والكونجرس الأمريكي وأعضاء مجلس الأمن الدولي وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق وجاك أسترو وزير خارجية بريطانيا وبرنار كوشنير وزير خارجية فرنسا الحالي وغيرهم كثر .

          بالرغم من كل العقبات والضغوط المكثفة وتعنت المتمردين بسبب الإشارات السالبة، التي تروجها لهم الدول الغربية ومنظمات المجتمع المدني ومجموعات الضغط بالولايات المتحدة الأمريكية، وتشرذم الحركات حاملة السلاح ، عقدت  جولات عدة بأبوجا بنيجيريا، وتم - بحمد الله - التوصل إلى اتفاقية سلام دارفور في 5 مايو 2006 م وقعتها مع الحكومة الفصائل الرئيسية لحاملي السلاح، وممثلون من الدول المراقبة من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والمنظمات الإقليمية والدولية، وباشرت الحكومة بعد ذلك تنفيذ هذه الاتفاقية في مجالات المشاركة في السلطة، حيث تم تعيين منى أركو مناوي رئيس الفصيل الموقع لاتفاقية سلام دارفور في منصب مساعد رئيس الجمهورية ورئيس السلطة الانتقالية لدارفور، وكان ذلك في 3 /8 / 2006 م . كذلك تم تعيين وزراء بالمركز والولايات ونواب برلمانيين بالمجلس الوطني القومى ومجالس الولايات. وفي مجال قسمة الثروة تم تخصيص مبالغ لتمويل مشروعات التنمية بالإقليم وللترتيبات الأمنية وإعانة المتضررين جراء الحرب. كذلك تم تعيين مفوضية لعودة اللاجئين والنازحين، وبدأت المشاورات لعقد مؤتمر الحوار الدارفوري الدارفوري. تلا ذلك صدور قرار مجلس الأمن رقم 1706  متضمنًا تحويل قوات الاتحاد الإفريقي وعددها 7 آلاف جندي إلى قوات للأمم المتحدة على أن يرتفع عددها إلى 22 ألف جندي أممي، تعمل تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة دون مراعاة لسيادة السودان، واستقلال القضاء فيه ، وأهليته لتحقيق الأمن لمواطنيه. في  الوقت ذاته، أصدر المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية  أمرًا بتسليم اثنين من السودانيين للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وحفاظًا على استقلاله وسيادته، كان لزامًا على السودان أن يرفض القرار رقم 1706، وكذلك الأمر الذي أصدره المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، أما الآن فقد تجاوزتهما الأحداث. لا بد لنا أن نؤكد هنا أنه لكي تكون دارفور مكانًا لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية، فلابد أن ترتكب الجرائم، التي ذكرت بداخلها، ولا بد أن يكون السودان طرفًا في اتفاق روما أو يكون قد قبل باختصاص المحكمة الجنائية الدولية وفق المادة 12(2). وبما أن السودان ليس طرفًا في اتفاق روما، ولم يقبل باختصاص المحكمة، فإن ارتكاب الجرائم في أى موقع في إقليمه او بواسطة أحد مواطنيه لا يكون مبررًا قانونيًا لانعقاد اختصاص للمحكمة الجنائية الدولية. كذلك فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية اختصاص تكميلي للقضاء الوطني وفق المادة (1) من ميثاق روما، ولا ينعقد لها الاختصاص إلا في حال إذا كان النظام القضائي فاشلاً أو غير نزيه، أو كانت الدولة غير راغبة في المادة (17) .

          لم يكن القضاء السوداني فاشلاً أو غير نزيه، فقد شكلت حكومة السودان لجنة للتحقيق، وتقصي الحقائق لجرائم ارتكبت في دارفور وبموجب توصيات تلك اللجنة، قامت النيابة بالتحقيق والتحري ووجهت تهمًا لبعض المواطنين، وقام القضاء السوداني بممارسة اختصاصاته وأصدر الأحكام في بعض هذه القضايا، وقد عرف القضاء السوداني -  وبخاصة في إفريقيا والوطن العربي- باستقلاله وحيدته ونزاهته. تراوحت الأحكام التي أصدرها القضاء السوداني بين عقوبة الإعدام والسجن والتعويض والبراءة، وما زال يمارس سلطاته واختصاصاته في كل الشكاوى والبلاغات التي قامت النيابة بتحرير تهم فيها .

          لقد تعاملت الحكومة مع المجتمع الدولي بمرونة وإيجابية، فقد وافقت على الاجتماع التشاوري بأديس أبابا في نوفمبر 2006 م الذي أفضى إلى وثيقة توافق تعطي الأولوية لتفعيل العملية السلمية بقيادة الدكتور سالم أحمد سالم عن الاتحاد الإفريقي ويان الياسون عن الأمم المتحدة، بهدف العودة للتفاوض مع غير الموقعين على اتفاق أبوجا، وقد أدت مساعيها إلى انعقاد اجتماعات أروشا في 7 أغسطس 2007 م مع الفصائل غير الموقعة والوصول إلى توافق حول المفاوضات المستقبلية، وإمكان مشاركة فصيل عبدالواحد محمد نور في المباحثات لاحقًا على أن تجري هذه المباحثات خلال الثلاثة أشهر القادمة. احتوت وثيقة أديس أبابا على توافق تعطى فيه الأولوية لتفعيل العملية السلمية بقيادة سالم أحمد سالم عن الاتحاد الإفريقي، ويان الياسون عن الأمم المتحدة كما اشرنا آنفًا. كذلك تم الاتفاق على ثلاث حزم  دعم خفيف ودعم ثقيل وعملية هجين مختلطة بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي . في نوفمبر 2006 م اعتمد مجلس السلم والأمن الإفريقي مقررات أديس أبابا واعتمدها وتم تعيين وزير خارجية جمهورية الكنغو الشعبية رودلف أدادا ممثلاً مشتركًا للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. جرت بعد ذلك اجتماعات في نيويورك، وكذلك على هامش القمة العربية بالرياض، كما انعقد مؤتمر دولي بالجماهيرية الليبية، وكل هذه الاجتماعات أجازت توافق أديس أبابا داعية لتكامل مساراته السلمية، والتركيز على حفظ السلام مشيرة إلى ضرورة تنسيق وتوحيد المبادرات حفاظًا على اتجاه البوصلة. تم الاتفاق على تفاصيل العملية الهجين في اجتماع الأطراف الثلاثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وحكومة السودان في يوم 12 يونيو 2007 م بأديس أبابا مؤكدين أن قيادة وصيغة هذه القوات إفريقية مع تطبيق النظم الإدارية والمالية للأمم المتحدة . كذلك تمت تسمية الجنرال مارتين لوثر من نيجيريا أقوى قائد للقوات الهجين وتولى قيادة القوات الإفريقية إلى حين بداية العملية الهجين في ديسمبر القادم ودلالة على تعاون الحكومة مع المجتمع الدولى قام أعضاء مجلس الأمن الدولي بزيارة الخرطوم والفاشر بدارفور في يوم 17 يونيو 2007 م بدعوة من حكومة السودان. كذلك انعقد مؤتمر باريس حول دارفور بدعوة من الرئيس الفرنسي نكولا ساركوزي في يوم 25 يونيو 2007 م، ولم يشارك السودان والاتحاد الإفريقى فيه انطلاقًا من مبدأ توحيد المبادرات الذي أشرنا إليه آنفًا، ووفق ما جاء في بيان طرابلس، بيد أن المؤتمر أعطى الأولوية للعملية السلمية، واحترام سيادة ووحدة السودان . 

قرار القوات الهجين

          لا بد لنا في هذا المقام من الحديث عن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1769 بشأن ولاية القوات الهجين في دارفور والذي قبلته حكومة السودان ولتوضيح الحقائق نورد ما يلي :-

          صدر هذا القرار بعد مشاورات مطولة ومفاوضات مكثفة استمرت لأكثر من شهر، وتم التوصل إلى توافق حول نص هذا القرار وهو يخص ولاية تمويل العملية الهجين في دارفور بالسودان.

          لقد ظل المجلس منقسمًا حول هذا القرار بسبب تمسك السودان بضرورة استيعاب تحفظاته وشواغله. ويقينا أن نؤكد هنا أن النص الذي تم اعتماده قد استجاب للعديد من تحفظات حكومة السودان مقارنة بالنص الأول والثاني لمشروع هذا القرار .

          ومن بين ما تم حذف الإشارة إلى قرارات مجلس الأمن السابقة بما في ذلك القرارات الخلافية مثل القرار رقم 1593 الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية والقرار 1591 المتصل بالعقوبات، وقرار مجلس الامن 1706 المقرون بالفصل السابع .

          كما تم تعزيز الفقرة التي تؤكد التزام مجلس الأمن الدولي بسيادة السودان على أراضيه واستقلاله وسلامة أراضيه، وعزم مجلس الأمن الدولي على العمل مع حكومة السودان باحترام كامل لسيادته.

          تم حذف الفقرة التي تتضمن حق التدخل من جانب المجتمع الدولى لحماية المدنيين في حالات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية .

          كما تتضمن فقرة حول التعاون بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية في صيانة الأمن والسلم الدوليين وفق ما هو مضمن في ميثاق الأمم المتحدة (أي الفصل الثامن) .

          في الإشارة إلى موافقة السيد رئيس الجمهورية على نشر العملية الهجين حذفت كلمة دون شروط، وتم استحداث فقرة منفصلة للتأكيد على الصفة الإفريقية للعملية .

          وتمت الإشارة إلى موافقة حكومة السودان على نشر العملية الهجين وفق ما ورد تفصيلاً في الاجتماع رفيع المستوى في أديس أبابا في 12 يونيو 2007 م، كما تمت الإشارة إلى قرار مجلس السلم والأمن الإفريقى بتاريخ 22 يونيو 2007م، وكذلك الاتفاق الثلاثي بين السودان والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى بتاريخ 11-12 يونيو 2007 م .

          وقد قبل السودان هذا القرار لالتزام مجلس الأمن بسيادة السودان على أراضيه، وصدور القرار تحت الفصل الثامن وليس السابع، وتأكيد الصفة الإفريقية لقوات حفظ السلام بدارفور وضمان تمويل قوات الاتحاد الإفريقي إلى حين الانتقال للقوات الهجين مع تكفل الأمم المتحدة بتمويل العملية الهجين وأهمية العملية السياسية في حل مشكلة دارفور، وحث غير الموقعين للدخول في المفاوضات فضلا عن تأمين استراتيجية الخروج من دارفور .

          إن حالة الاستقرار التي تعيشها دارفور الآن بالمقارنة بما كان يحدث في الماضي، انعكست عليها إيجابيًا العلاقة مع الجارة تشاد، التي تشهد تحسنًا مضطردًا. كما أن التعاون مع المجتمع الدولي بدأ يسير في الاتجاه الصحيح بعد توافق أديس أبابا حول العملية الهجين، كذلك برهنت اجتماعات أروشا أن الحركات المسلحة أصبحت تميل إلى العملية السلمية، وقد أثمرت جهود النائب الأول لرئيس الجمهورية سلفاكير ميار ديت، ولعبت الوساطة الأريترية دورًا إيجابيًا بجمع المتمردين ، وأفلحت الوساطة الليبية الحميدة في عقد اجتماع طرابلس في يوم 15 يوليو 2007. وكل هذه الاتجاهات تبعث الأمل المرجو في تحقيق السلام الشامل في ربوع دارفور . 

آفاق المستقبل

          لا بد لنا أن نؤكد أن تلك الحرب الشرسة قد مزقت النسيج الاجتماعي وزعزعت الاستقرار، وأوقفت التنمية، وشردت أهل القرى وفتحت الباب للتدخلات الخارجية، وأدت إلى تشرذم القبائل وتركت آثارًا نفسية سالبة، وكرّست الأحقاد وعدم الثقة، وأزهقت أرواحًا بريئة، وشرّدت الأسر، وحوّلتهم إلى لاجئين ونازحين، لذا فإن الضرورة تقتضي الوقف الكامل لإطلاق النار ومراقبته مراقبة صارمة وإعادة الأمن والسلامة للمواطنين وتحقيق السلام الاجتماعي ورتق النسيج الاجتماعي وتهدئة الخواطر ورد الحقوق بإعطاء كل ذي حق حقه، مع نبذ العنف ونزع السلاح وتشجيع الحوار السلمي وترسيخ ثقافة السلام والتداول السلمي للسلطة.

          كما أن استيعاب المقاتلين في الحياة المدنية، وإيجاد فرص عمل للعاطلين من المواطنين وبخاصة الشباب يعد مطلبًا أساسيًا، مع مطالبة المجتمع الدولي بدعم العملية السلمية وتهيئة أهل القرى بأعجل فرصة ممكنة للعودة إلى قراهم بعد تأمين مناطقهم وتأمينهم من الخوف الذي نتج عن الهجمات الهمجية، التي تعرضوا لها حيث ليس من المعقول أن يقتنعوا بالعودة دون استتباب الأمن، كما أنه ما لم يستتب الأمن فلا تضمن مشاركتهم في الانتخابات القادمة والعمل على تحقيق عملية التحول الديمقراطي بمشاركة جميع القوى السياسية دون إقصاء، وفتح المجال واسعًا لحرية التعبير بالكلمة وليس بالسلاح وفي ظل سيادة القانون.

          بالإضافة إلى ما سبق تجدر الإشارة إلى ضرورة ترسيخ أسس نظام الحكم الفيدرالي وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل بجنوب السودان، وتعجيل حسم الأمور الخلافية وتنفيذ اتفاقية سلام دارفور وإلحاق غير الموقعين بالركب والعمل على تعميق أسس العدالة والديمقراطية والحرية والمساواة والمشاركة في اتخاذ القرار ومحاربة الفساد بكل أنواعه، وتوفير التمويل اللازم للقوات الهجين، ودعمها مادًيا وفنًيا وإداريًا ولوجستيًا، وكل هذا يقع في إطار التزاماتها التي يقضي بها القرار 1769، مع الاستفادة من المخزون المائي الهائل الذي أشار إليه العالم المصري الدكتور فاروق الباز، وبذا تنتهي مشكلة مزمنة بين المزارعين والرعاة كأحد أهم جذور المشكلة، والسعي إلى تطوير الإدارة الأهلية وتشجيع الحوار الدارفوري - الدارفوري، وبسط سلطة الدولة والحفاظ على هيبتها، مع الحفاظ على علاقات حسن الجوار وأمن الحدود خاصة مع الجارة تشاد وإفريقيا الوسطى، فضلاً عن معالجة الأوضاع الإنسانية وفق الاتفاق الموقع بين حكومة السودان والأمم المتحدة في 27 / 3 / 2007 م وترتيب العودة الطوعية بالتعاون مع المنظمات والمانحين والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، ولا شك أن جهود البنك الإسلامي للتنمية ومنظمة المؤتمر الإسلامي واتجاههم صوب إعمار دارفور، ومساعدة اللاجئين والنازحين ، تبعث على الأمل في الحديث عن آفاق المستقبل .

          لا شك أن الاستقرار في دارفور وجنوب السودان وشرقه سوف يفسح المجال أمام التنمية الشاملة في السودان، ويحقق السلام المستدام، لكي يتمكن من استغلال موارده الضخمة لصالح الشعب السوداني، وتبادل المنافع بينه وبين شعوب العالم ويخلق الجو الملائم بصورة أوسع من الآن بالنسبة للاستثمارات الوطنية والعربية والعالمية، كما أن سلام السودان سوف ينعكس على دول  الجوار التسع، ويساهم في استقرار المنطقة بأكملها سواء في دول الجوار الفرانكوفونية أو القرن الإفريقى أو الدول المتاخمة للبحر الأحمر، أو البحيرات الكبرى. كما يشجع  دول حوض النيل العشر على الاستمرار في مشاريعها التكاملية وفق مبادرة وادي النيل، ويشجع البنك الدولي والمنظمات الدولية على دعم هذه المشروعات .

          من هذا المنطلق نناشد المجتمع الدولي بالوفاء بالتزاماته نحو اتفاقية السلام الشامل واتفاقية سلام دارفور . وأن يكون صادقًا في تمويل العملية الهجين. ونتمنى أن تكف الدول الكبرى عن ممارسة الضغوط على حكومة السودان. وأن تلعب الدول العربية والدول الإفريقية والمنظمات العربية والإفريقية الدور المنوط بها في سبيل دعم السلام وتحقيق التنمية المستدامة في جميع انحاء السودان .

          على الصعيد الداخلي، فإن الوضع يقتضي تحقيق التوافق بين الأحزاب السودانية المختلفة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المصيرية وثوابت الأمه مع مواصلة السعي الذي يجري الآن لجمع الصف الوطني .

          من ناحية أخرى، فإن استدامة النظام الفيدرالي تقتضي نزع السلاح من جميع الفئات والمليشيات وتجفيف الساحة السودانية من حملة السلاح، ومصادرة كل الأسلحة المملوكة بالطرق غير القانونية لدى المواطنين، والعمل على بناء جيش نظامي فيدرالي مهني قوي وعالي المستوى، وتزويده بجميع احتياجاته اللازمة للدفاع عن الوطن وحماية أراضيه والحفاظ على نظام الحكم الفيدرالي وكذلك بناء شرطة فيدرالية عالية التأهيل والقدرات.

          فى الختام أتمنى للسودان الحبيب، وللشعب السوداني البطل المقدام النمو والازدهار على طريق العزة والنصر والشموخ، وأن يظل السلام تاجًا على رءوسنا جميعًا.

 

يوسف فضل أحمد   





موقع دارفور في غرب السودان على الحدود مع ليبيا وتشاد





هناك مخزون هائل من الماء تحت أرض دارفور ولكن كل سكانه يعانون من العطش





سوق القصب حيث تباع حزم العصير الحلو الذي تشتهر به دارفور





أطفال بلا مأوى ولاجئون بلا طعام.. متى تنتهي أزمة دارفور؟





لابد من إعادة إعمار دارفور مرة آخرى وإعادة اهلها إلى قراهم