قصة مترجمة: رجل شهير

قصة مترجمة: رجل شهير

قصة قصيرة للكاتب البرازيلي: ماشادوده أسيس
"ياه, أنت ميستانا إذن؟" سألت الآنسة موتا, بإيماءة إعجاب واسعة. وصححت في الحال أسلوبها الذي تخطى الرسميات قائلة: "معذرة على سلوكي, لكن هل أنت هو حقيقة؟".

منزعجا ومحبطا, أجاب بيستانا بأن نعم, بأنه هو. كان قد أتى لتوه من عند البيانو, وهو يمسح جبينه بمنديل, وكان يقترب من النافذة عندما أوقفته السيدة الشابة. لم تكن حفلة راقصة, بل مجرد حفلة مسائية ضيقة حضرها نحو عشرين شخصا أتوا ليتناولوا العشاء مع الأرملة كارمارجو في شارع البلاج بمناسبة عيد ميلادها, الخامس من نوفمبر 1875

يا للأرملة اللطيفة والمرحة! كانت تحب الضحك والفرفشة, رغم سنواتها الستين, وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي ضحكت فيها وفرفشت, ذلك أنها قضت نحبها في الأيام الأولى من 1876 يا للأرملة اللطيفة والمرحة! بأي قلب وروح نظمت حفلة راقصة بعد العشاء مباشرة, طالبة من بيستانا أن يعزف موسيقى لرقصة كادريل! ولم يكن عليها حتى أن تُكمل رجاءها ـ لقد انحنى بيستانا بأدب وأسرع إلى البيانو. وما كادوا يستريحون عشر دقائق, بعد رقصة الكادريل, حتى اندفعت الأرملة متوجهة إلى بيستانا من جديد لتطلب منه معروفا خاصا جدا:

"أي شيء تقولينه, يا مدام"

"هل يمكنك أن تعزف لنا الآن موسيقى البولكا التي من تأليفك "لا تضحكي عليّ يا حبيبتي"؟

ارتسم الضيق على وجه بيستانا, لكنه سرعان ما أخفاه, وانحنى في صمت بدون أدبه المألوف, وذهب إلى البيانو بلا حماس. بعد سماع المقاطع الموسيقية الأولى عمت الحجرة سعادة مستجدة.

أسرع السادة إلى السيدات, وبدأوا يتحركون زوجا زوجا على أنغام البولكا الأخيرة. الأخيرة تماما ـ فهي لم تُنشر إلا قبل ذلك بثلاثة أسابيع, وكان لم يعد هناك ركن أو شق في المدينة, مهما كان نائياً, لم تُعرف فيه هذه البولكا. كانت النغمة على شفاه الجميع.

كانت الآنسة موتا آخر من يشك في أن بيستانا الذي رأته على مائدة العشاء ثم وهو يعزف على البيانو, الرجل الذي كان يلبس سترة فراك ذات لون منطفئ, وكان له شعر أسود طويل مجعد, وعينان حذرتان, وذقن بلا لحية, هو بيستانا, مؤلف البولكا الشهير ـ وقد أخبرتها صديقتها بذلك عندما رأته قادما من عند البيانو, بعد رقصة البولكا. ومن هنا, السؤال بإعجاب. وقد رأينا أنه رد عليها بطريقة تنم عن الانزعاج والإحباط.

ومع ذلك, كانت السيدتان الشابتان لا تألوان جهدا في إفراطهما في إبداء ملاحظات متحلقة إلى حد أن الشخص الأشد تواضعا في غروره كان سيسعده أن يسمع تلك الملاحظات. أما بيستانا فقد تلقاها باستياء متزايد إلى أن أعلن أنه مصاب بصداع, وأخيرا استأذن للانصراف. ولا أحد, ولا حتى سيدة البيت, نجح في إقناعه بالبقاء. عرضوا عليه وصفات علاج محلية, وشيئا من الراحة, لكنه لم يقبل شيئا, وأصر على الانصراف, وانصرف.

فور أن صار في الشارع سار بسرعة, وخشية أن يكون لا يزال واردا أن يرجعوه. ولم يهدئ خطاه إلى أن انعطف عند ناصية شارع فورموزا. لكن حتى هناك, في تلك البقعة ذاتها, كانت تنتظره تلك البولكا الشهيرة والتي تفيض بالحيوية. كانت أنغام من أحدث أعماله الموسيقية الرائجة, معزوفة على كلارينيت, ترفرف خارجه من بيت متواضع على الجانب الأيمن, على مسافة ياردات قليلة وحسب. وكان هناك أشخاص يرقصون.

توقف بيستانا للحظة, وفكر في أن يعود من حيث أتى, لكنه قرر المضي قدما. وحث خطاه وعبر إلى الجانب الآخر من الشارع. وأخيرا تلاشت الأنغام بعيدا, ودخل بيستانا شارع أترادو, حيث كان يقيم. وعندما كان يوشك على دخول البيت, رأى شخصين يقتربان منه. بدأ أحدهما, أثناء مروره, في تصغير نفس البولكا بحماس وحيوية, والتقط الآخر إيقاع الموسيقى, وسار الاثنان كلاهما في الشارع, صاخبين ومبتهجين, فيما أسرع المؤلف الموسيقي, يائسا, إلى دخول منزله.

في البيت, تنهد بارتياح. البيت القديم, والسلم القديم, وخادمه الزنجي العجوز, الذي أتى ليرى ما إذا كان يريد أن يتناول العشاء.

"أنا لا أريد شيئا", صاح بيستانا. "اصنع لي بعض القهوة واذهب إلى فراشك".

خلع ملابسه, ولبس قميص نوم, وذهب إلى حجرة واسعة في القسم الخلفي من المنزل, وعندما أشعل الزنجي لمبة الجاز, ابتسم بيستانا وفي صمت قدم تحياته للبورتريهات العشرة المعلقة على الحائط.

كان بورتريه واحد منها صورة زيتية, للكاهن الذي كان قد قام بتربيته, وعلمه اللاتينية والموسيقى, والذي كان, وفقا لأقاويل لا طائل من تحتها, والد بيستانا ذاته.

وإنها لحقيقة واقعة أنه ورثه المنزل القديم, بالإضافة إلى الأثاث, الذي يعود تاريخه إلى زمن بيدرو الأول. وكان الكاهن قد ألف بعض قطع موسيقى التراتيل وكان مجنونا بالموسيقى, المقدسة أو الدنيوية, وغرست هذه الأذواق في الشاب, أو أنها نُقلت إليه عبر روابط الدم, إذا كان لنا أن نصدق بعض التصديق الألسنة التي تلوك. لكن هذا أمر لا شأن له بموضوع قصتي, كما سترون.

كانت البورتريهات الأخرى للمؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين: سيماروزا, موتسارت, بيتهوفن, جلوك, باخ, شومان, وثلاثة آخرين. وكانت بورتريهات منها حفرا على الخشب, وأخرى مطبوعة على الحجر. لكنها كانت تحتل مكانها اللائق كالقديسين في كنيسة. كان البيانو هو المذبح وكانت تسبيحة المساء مفتوحة هناك: كانت سوناتا لبيتهوفن.

وصلت القهوة, عب بيستانا الفنجان الأول عبا وجلس إلى البيانو. نظر إلى بورتريه بيتهوفن, وفاقدا وعيه بنفسه, أخذ يعزف السوناتا ذاهلا أو مستغرقا, لكن بإتقان كبير. كرر القطعة. ثم توقف لحظات قليلة, ونهض,وذهب إلى إحدى النوافذ. وعاد إلى البيانو. وجاء دور موتسارت, وهكذا التقط نوتة موسيقية مطبوعة وقام بأدائها بنفس الطريقة, وقلبه في مكان آخر. ثم شغله هايدن حتى منتصف الليل وفنجان القهوة الثاني.

بين منتصف الليل والواحدة صباحا, لم يفعل بيستانا أكثر من النظر إلى البورتريهات والوقوف عند النافذة يحملق في النجوم. ومن حين لآخر كان يذهب إلى البيانو ويعزف واقفا, قليلا من الأنغام غير المترابطة على لوحة المفاتيح, وكأنه يبحث عن فكرة ما, لكن الفكرة لم تأت, فاستأنف وقفته عند النافذة.

بدت له النجوم أشبه بنوتات موسيقية كثيرة جدا مثبتة في السماء, تنتظر فقط شخصا ما يأتي ليفكها. وذات يوم ستغدو السماء خالية, لكن عندئذ ستغدوالأرض كوكبة من كراسات النوتات الموسيقية. ما من صورة, أو فكرة, أو لحظة تأمل, حملت أي تذكر للآنسة مُوتا, التي كانت في تلك الأثناء, في تلك اللحظة ذاتها, تنام حالمة به, هو المؤلف المشهور لبولكات محبوبة كثيرة جدا. وجعلت فكرة الزواج السيدة الشابة تخسر دقائق قليلة من النوم. ولم لا؟ كانت في حوالي العشرين من عمرها, وكان هو في الثلاثين على الأكثر. ونامت على لحن البولكا, التي كانت تحفظها عن ظهر قلب, بينما كان مؤلفها لا يفكر لا في البولكا ولا في الفتاة بل في الأعمال الكلاسيكية القديمة. واستجوب السماء والليل, متوسلا إلى الملائكة وحتى الشيطان. لماذا يعجز عن تأليف صفحة خالدة واحدة ليس إلا من هذا القبيل.

من حين لآخر كان يبدو وكأن بذرة فكرة كانـت تنبـت خارجة مـن أعماق لا وعيه. فكان يُسرع إلى البيانو لكي يمنحها الحياة, ليترجمها إلى أصوات, لكن بلا طائل: تلاشت الفكرة. وفي أحيان أخرى كان يدع أصابعه, وهو جالس إلى البيانو, تتجول كيفما اتفق, ليرى ما إذا كانت ستسيل من بينها فانتازيات, كما سالت من بين أصابع موتسارت, لكن لا شيء, لا شيء مطلقا, لم يأت الإلهام, وبقي خياله خامدا. فإذا ظهرت بالصدفة فكرة, واضحة كل الوضوح وجميلة, اكتشف أنها ليست سوى صدى من قطعة لمؤلف آخر, يتردد في ذاكرته. عندئذ كان ينهض, متضايقا, وهو يحلف أنه سيهجر الموسيقى ويذهب ليزرع البن أو ليعمل بائعا متجولا بعربة, لكنه بعد عشر دقائق كان يعود, وعيناه على بورتريه موتسارت, يقلده على البيانو.

الساعة الثانية, الثالثة, الرابعة. بعد الرابعة ذهب إلى الفراش ـ كان متعبا, ومحبطا, ومستنفدا انفعاليا, وكان عليه أن يدرس في اليوم التالي. نام قليلا, وتم إيقاظه في السابعة, ولبس, وأفطر.

"هل تود أن تأخذ العصا أو الشمسية؟" سأل الزنجي, متبعا توجيهات سيده, الذي كثيرا جدا ما كان ذاهلا عن نفسه.

"العصا"

"لكن يبدو أنها ستمطر اليوم"

"ستمطر", ردد بيستانا بطريقة آلية.

"يبدو فعلا أنها ستفعل, يا سيدي, السماء مظلمة تماما".

حملق بيستانا في الزنجى بشك وقلق. وفجأة أفلتت منه هذه العبارة: "انتظر حيث أنت!".

أسرع إلى حجرة البورتريهات, وفتح البيانو, وجلس, ومد أصابعه فوق لوحة المفاتيح. بدأ يعزف شيئا كان يخصه للغاية, بإلهام أصيل: بولكا, بولكا مرحلة, بلغة لوحات الإعلانات. لا مقاومة من جانب المؤلف الموسيقي. كانت أصابعه تستخلص الأنغام بسهولة, وتصلها ببعضها, وتتقاذفها ـ وكان يمكن القول إن ربة فنه كانت تؤلف الموسيقى وترقص في آن معا. نسى بيستانا تلامذته, ونسي الزنجي ينتظره بعصاه وشمسيته, بل نسي حتى البورتريهات التي كانت معلقة بوقار على الحائط. فقط كان يؤلف, داقا على المفاتيح ومدونا, دون المحاولات العقيم للمساء السابق, دون انزعاج, دون التماس أفضال السماء, دون استنطاق عيني موتسارت. لا تعب. وتدفقت الحياة, والسحر, والجدة, من قلبه, وكأنما من ينبوع لا ينضب.

واكتملت البولكا بعد قليل. حقا لقد صحح عددا من المقاطع الثانوية, لكنه كان يدندن بها بالفعل في الشوارع, وهو في طريق عودته إلى البيت.لقد أحبها. كان دم أبوته وموهبته الحقيقية يجري في عروق ذلك العمل الموسيقي الأخير, غير المنشور. وبعد ذلك بيومين, حمل البولكا الجديدة إلى ناشر مؤلفاته الأخرى من موسيقى البولكا, التي وصل عددها آنذاك إلى حوالي ثلاثين قطعة. وكان من رأي ناشره أنها "جذابة".

"وستحقق نجاحا كبيرا".

وطرح موضوع تحديد عنوان. وفي 1871 عندما ألف بيستانا البولكا الأولى, كان قد رغب في أن يعطيها عنوانا شاعريا فاختار عنوان "لالئ الشمس" هز الناشر رأسه, قائلا له إن العناوين ينبغي تصميمها مع وضع رواجها المستقبلي في الاعتبار كما ينبغي اختيارها لتلميحها إلى حدث ما مهم أو للأثر الآسر لكلماتها. وكان عنده اقتراحان: قانون 28 سبتمبر والحبيبات لسن للتدليل. "لكن ما معنى الحبيبات لسن للتدليل؟" سأل المؤلف.

"إنه لا يعني شيئا, لكنه سيغدو عنوانا رائجا في الحال".

بيستانا, الذي كان لا يزال ساذجا وغير منشور, رفض كلا الاسمين واحتفظ بالبولكا, لكن لم يمض طويل وقت قبل أن يؤلف بولكا أخرى, وأدى به تحرقه إلى الشهرة إلى نشرهما كليهما, بأي عنوانين بدا للناشر أنهما الأكثر جاذبية أو ملاءمة. ومنذ ذلك الحين كان هذا هو الإجراء المتبع.

والآن, عندما سلم بيستانا البولكا الأخيرة وانتهيا إلى موضوع العنوان, قال ناشره إن في رأسه عنوانا منذ أيام وأنه احتفظ به لأول عمل يتسلمه منه. كان العنوان صارخا, وطويلا, وملتويا: من فضلك استبق سلتك لنفسك يا سيدتي.

"ومن أجل المرة التالية", أضاف, "في رأسي عنوان آخر منذ الآن".

بيعت الطبعة الأولى بكاملها فور عرضها للبيع. وكفلت شهرة المؤلف الموسيقي رواجها, لكن العمل ذاته كان أصيلا ومواكبا لقطع موسيقية معدة لذلك الأسلوب. كان دعوة للرقص, وكان من السهل حفظه عن ظهر قلب. وفي غضون أسبوع حقق نجاحا باهرا. ولفترة من الزمن كان بيستانا واقعا حقيقة في حب تلك القطعة الموسيقية وكان يحب أن يدندن بها بصوت خافت. وكان يتريث في الشارع عندما يسمعها تعزف في بيت شخص ما, وكان يغضب عندما كانت لا تعرف جيدا. وسرعان ما عزفتها الفرق الموسيقية في المسارح, وذهب بيستانا إلى أحدها ليسمعها. كما أنه لم يتبرم عندما سمع مسبحا غير واضح المعالم يصفرها وهو يسير في شارع أترادو ذات مساء.

لم يدم شهر العسل هذا سوى أسبوع. فمثل كل المرات الأخرى, وحتى أكثر في هذه المناسبة, جعله مرأى الفنانين الكبار القدامى في البورتريهات ينزف من الندم. وغاضبا ومغتاظا, انقلب بيستانا ضد تلك التي كانت قد أتت لتواسيه مرارا وتكرارا, ربة الفن ذات العينين الشريرتين والهيئة المستديرة, تلك المستهترة والسهلة. وعند تلك المرحلة عاوده اشمئزازه من نفسه وكراهيته لكل من يسأله عن البولكا الأخيرة التي ألفها واستأنف محاولاته لتأليف شيء ما ذي مذاق كلاسيكي, حتى وإن لم يكن ذلك سوى صفحة واحدة, صفحة واحدة ليس إلا, لكن ذات جودة تسمح لها بالوقوف إلى جانب أعمال باخ وشومان.

دراسة بلا طائل, جهد بلا فائدة, ألقى بنفسه في نهر الأردن ذاك وخرج بلا عماد. هكذا قضى النهار والليل, واثقا وعنيدا, متيقنا من أن رغبته ستجلب النجاح ومن أنه طالما تخلى عن الموسيقى الخفيفة.

"لتذهب قطع البولكا إلى الجحيم ـ ليرقص الشيطان عليها!" قال ذات صباح عند انبلاج النهار, عندما ذهب إلى فراشه. غير أن قطع البولكا رفضت أن تذهب بعيدا إلى هذا الحد. لقد ذهبت إلى منزل بيستانا, إلى حجرة البورتريهات, وتدفقت بوفرة لم يكد يكون لديه معها الوقت ليؤلفها, ثم ليطبعها, وليستمتع بها أياما قليلة, وليمقتها, وليعود إلى المصادر الكلاسيكية, التي لم تنتج شيئا. وعاش ممزقا بين هذين البديلين, حتى زواجه وبعده.

"ممن سيتزوج؟" سألت الآنسة موتا عمها, كاتب المحكمة الذي كان قد زف إليها النبأ.

"يتزوج من أرملة".

"هل هي كبيرة؟"

"في السابعة والعشرين".

"جميلة؟"

"لا, لكنها ليست عديمة الجمال أيضا ـ بين بين ـ سمعت أنه وقع في حبها لأنه سمعها تغني في العيد الأخير للقديس فرنسيس في باولا. لكنني سمعتُ أيضا أنها تملك موهبة أخرى, لا هي بالنادرة أو الثمينة: إنها مصابة بالسل".

ليس من المفترض في كتبة المحاكم أن يكونوا موفوروي الحماس ـ إنهم فاترون, إن جاز القول. وفي النهاية أحست ابنة أخيه بقطرة بلسم, الأمر الذي داوى لدغتها الصغيرة من الحسد. وكان كل ما قاله صحيحا. فبعد ذلك بأيام قليلة, تزوج بيستانا من أرملة في السابعة والعشرين من عمرها, كانت مغنية جيدة وكانت مصابة بالسل. وستكون الزوجة الروحية لعبقريته المبدعة.

وقد قال لنفسه إن العزوبة هي بلاشك السبب وراء عقمه وصعوبة مراسه. ومن الناحية الفنية اعتبر نفسه الساهر المستهتر لساعات الصباح الأولى ـ ولم تكن مؤلفاته من البولكا سوى مغامرات شخص كسول.

نعم, يمكنه الآن أن يُنجب عائلة من الأعمال الجادة, العميقة, والملهمة, والمعدة بعناية.

تبرعم ذلك الأمل في ساعات حبه الأولى وأزهر في عشية زفافه. وتلعثم قلبه بقوله: "ماريا, امنحيني ما لم يكن بوسعي أن أجده في وحدة ليالي, وهرج ومرج أيامي".

وتخليدا لذكرى زواجها, سرعان ما اعتزم تأليف قطعة موسيقية حالمة. وسوف يسميها "أفيه ماريا" "السلام لك يا مريم". كان الأمر يبدو وكأن حظه السعيد قد حمل إليه بزوغ فجر. وغير راغب في أن يقول أي شيء لزوجته قبل أن تكون القطعة الموسيقية جاهزة, عمل في السر. وكان هذا من الصعوبة بمكان لأن ماريا, التي أحبت الموسيقى مثله تماما, كانت تأتي لتعزف معه, أو لمجرد الاستماع إليه يعزف, في حجرة البورتريهات على مدى ساعات بلا انقطاع. بل كانا يعقدان بعض اللقاءات المشتركة مع ثلاثة موسيقيين كانوا من أصدقاء بيستانا. غير أنه في يوم من أيام الأحد لم يعد بوسعه أن يكبح جماح نفسه, فدعا زوجته لتسمعه يعزف مقطعا من القطعة الموسيقية الحالمة. ولم يقل لها ما هي أو من ألفها. وتوقف فجأة ونظر إليها مستفسرا. "لا تتوقف", قالت ماريا, "إنه شوبان, أليس كذلك؟"

امتقع وجه بيستانا, وحملق في الفضاء طويلا, وكرر مقطعا أو مقطعين, ونهض واقفا. جلست ماريا إلى البيانو وبعد أن بذلت جهدا لاستدعاء قطعة شوبان إلى ذاكرتها, قامت بأدائها. كانت الفكرة والموتيفة هما نفس الشيء: لقد عثر عليها بيستانا في أحد تلك الأزقة المعتمة في ذاكرته, تلك المدينة العتيقة للخيانات. ومحزونا ويائسا, غادر البيت وذهب في اتجاه الجسر, في الطريق إلى سان كريستوف.

"لماذا أقاومها؟" قال. "سأتمسك بقطع موسيقى البولكا.. أهتف ثلاثاً للبولكا!".

الأشخاص الذين مروا به وسمعوا هذا تفرسوا فيه وكأنه مجنون. وسار في طريقه, هاذيا, مُهاناً, يتقاذفه في إقباله وإدباره التأرجح بين طموحه وموهبته, مثل كرة فلين "في لعبة بادمنتون" تدور بلا نهاية.

مر بالسلخانة القديمة. وعندما وصل إلى باب مزلقان السكة الحديد, فكر في السير على القضبان إلى أن يأتي أول قطار ويهرسه, أرجعه الحارس. واسترد رشده وعاد إلى البيت.

بعد ذلك بأيام قليلة ذات صباح صاف وصحو في مايو 1876, أحس بيستانا بوخز خفيف مألوف في أصابع يديه. نهض ببطء بالغ, حتى لا يوقظ ماريا, التي كانت قد ظلت تسعل طوال الليل وكانت تنام بعمق في تلك اللحظة. ذهب إلى حجرة البورتريهات, وفتح البيانو, وفيما كان يعزف بأهدأ ما كان بوسعه, خرج ببولكا. وجعلهم ينشرونها له باسم مستعار.

وفي غضون الشهرين التاليين ألف ونشر اثنتين أخريين. ولم تكن ماريا تدرك أي شيء: فقط كانت تغدو وتروح وهي تسعل وتحتضر إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة, ذات صباح, بين ذراعي زوجها المرتعب واليائس.

كانت عشية عيد الميلاد المجيد. وتضاعف حزن بيستانا, لأنه كانت هناك في الحي حفلة راقصة يُعزف فيها عدد من أفضل قطع البولكا التي ألفها. وعند هذه النقطة كان من الصعوبة بمكان أن يتسامح مع الحفلة الراقصة: أعطته والحانه إحساسا بالمفارقة والشذوذ. وأحس بإيقاع خطى الرقص, وخمن الحركات الشهـوانية الممكنة التي حفز إليها توزيع أو آخر من توزيعاته الموسيقية, وكل هذا فيما كان واقفا بجوار جثة زوجته, وكانت حزمة من العظام تتمدد على الفراش. هكذا انقضـت ساعـات الليل كلها, البطيئة منها والسريعة, مضمخة بالدموع, والعرق والكولونيا, راقصة بلا انقطاع, وكأنما على أنغام موسيقى بولكا من تأليف بيستانا خفي هائل.

بعد دفن زوجته, لم يكن في رأس الأرمل سوى غاية موسيقية وحيدة أخيرة: أن يؤلف موسيقى قداس, سيكون عليه أن يعزفها في الذكرى السنوية الأولى لوفاة ماريا, على أن يعتزل الموسيقى بعد ذلك.

عندئذ سيختار خطا آخر للعمل: موظفا كتابيا, ساعي بريد, بائعا متجولا, أي شيء يجعله ينسى الفن بقلبه الدامي وأذنه الصماء.

وبدأ يعمل في تأليفه الموسيقي, مستخدما كل شيء في متناوله: الجسارة, الصبر, الوساطة, حتى نزوات صاحب السعادة الحظ, الذي استخدمه من قبل في مناسبة أخرى عندما كان يقلد موتسارت. أعاد قراءة قداس هذا المؤلف الموسيقي ودرسه. ومرت أسابيع وشهور. والعمل, الذي بدأ بانطلاقة سريعة, أخذ يهدئ خطاه. وعرف بيستانا السعود والنحوس.

ففي بعض الأحيان كان عاجزا عن إضفاء أي جوهر مقدس على عمله الموسيقي, واكتشف أنه يفتقر إلى الأفكار وإلى الإلهام, وفي أحيان أخرى كانت معنوياته ترتفع إلى مستوى المناسبة فكان يعمل بهمة. ثمانية شهور, تسعة, عشرة, أحد عشر شهرا, ولم يكتمل القداس. وضاعف جهوده, ناسيا فصوله الدراسية وأصدقاءه. وقام بمراجعات لا نهاية لها للقطعة الموسيقية, لكنه اعتزم في تلك اللحظة أن يكملها بطريقة أو بأخرى, خمسة عشر يوما, ثمانية أيام, خمسة أيام.. وأتى صباح يوم الذكرى السنوية فوجده لايزال يعمل.

واضطر إلى أن يقنع بقداس متواضع بسيط, شهده على انفراد. ومن الصعوبة بمكان أن نعرف ما إذا كانت كل الدموع التي تسللت خلسة إلى عينيه دموع الزوج, أو ما إذا كان بعضها دموع المؤلف الموسيقى. والحقيقة أنه لم يمس القداس بعد ذلك مطلقا.

"ما الفائدة؟" قال لنفسه.

مرت سنة أخرى أيضا. وفي الأيام الأولى من 1879 ظهر الناشر.

"منذ سنتين لم نسمع منك شيئا", قال: "الجميع يسألون عما إذا كنت فقدت موهبتك. ماذا كنت تفعل بنفسك؟".

"لا شيء".

"يمكنني أن أفهم أية ضربة كان ما حدث بالنسبة لك, لكن سنتين مرّتا الآن. لقد جئت لأعرض عليك عقدا: عشرون قطعة بولكا في الاثنى عشر شهرا التالية بالسعر القديم, بنسبة مئوية أعلى على المبيعات. بالإضافة إلى أنه يمكننا أن نجدد بعد نهاية السنة".

أومأ بيستانا إيماءة إذعان. ذلك أنه كان لم يعد لديه سوى طلبة قليلين كما كان قد باع منزله ليسدد ديونه ـ وأتت الضرورات اليومية على ميزانيته التي كانت قد انخفضت إلى لا شيء تقريبا. وقبل العقد.

"لكن ينبغي إعداد البولكا الأولى على الفور", أوضح الناشر. "إنها لمحة. هل رأيت رسالة الإمبراطور إلى كاشياس؟ الليبراليون تم استدعاؤهم إلى الحكم, وهم يعتزمون إجراء إصلاح انتخابي. وسيكون اسم البولكا مرحى للانتخابات في وقتها! هذا ليس عنوانا سياسيا, إنه مجرد عنوان ملائم للمناسبة".

ألف بيستانا العمل الموسيقي الأول الوارد في العقد, ورغم فترة صمته الطويلة, كان لم يفقد لا أصالته ولا إلهامه. وكان هذا العمل يحمل البصمة المألوفة لعبقريته. وظهرت بقية قطع البولكا بانتظام. وكان قد احتفظ ببورتريهات المؤلفين الموسيقيين وبمجموعاته من أعمالهم, غير أنه تجنب قضاء كل ليلة جالسا إلى البيانو, هربا من إغراء التجربة. ونظرا لمكانته البارزة, كان بوسعه أن يطلب تذكرة مجانية كلما كانت هناك أوبرا أو حفلة موسيقية جيدة. كان يذهب, ويدس نفسه بعيدا في ركن متوار عن الأنظار, ويستمتع بذلك العالم من الأشياء التي لن يتأتى أبدا أن تزهر في رأسه. وعلى فترات متباعدة, عندما كان يعود إلى البيت ممتلئا بالموسيقى, كان المايسترو المجهول بداخله يُستثار ـ عندئذ كان يجلس إلى البيانو ويعزف, دون أي شيء محدد في رأسه, إلى أن يذهب إلى الفراش, بعد ذلك بعشرين أو ثلاثين دقيقة.

هكذا مرت السنوات, حتى 1885, وكان نجاح بيستانا قد جلب له الشهرة, وأخيرا تم تصنيفه المؤلف الرئيسي لموسيقى رقصات البولكا في ريو, غير أن المرتبة الأولى في المدينة لم تقنع هذا القيصر, الذي كان سيفضل حتى المرتبة المائة في روما. وكانت لديه نفس المشاعر التي كانت لديه من قبل بشأن مؤلفاته الموسيقية, مع فارق أنها كانت قد غدت آنذاك أقل عنفا. ولم يكن متحمسا بعد الساعات الأولى ولا كان مرتاعا بعد الأسبوع الأول: كان يُحس بشيء من السرور وبنوع من السأم.

كانت تلك هي السنة التي أصيب فيها بحمى خفيفة, ارتفعت بعد أيام قليلة وأخيرا صارت مسألة خطيرة. وكانت حياته في خطر بالفعل عندما ظهر ناشره, الذي لم يكن يعرف شيئا عن مرضه ـ كأن قد أتى ليخبر بيستانا بصعود المحافظين إلى الحكم وليطلب منه بولكا جديدة من أجل هذه المناسبة. وأخبره مرافق الرجل المريض, وكان عازف كلارينيت بالمسارح وكان فقيرا معدما, بحالة بيستانا. وقرر الناشر ألا يشير إلى البولكا الجديدة, غير أن بيستانا أصر على أن يعرف لماذا أتى. وخضع ناشره.

"لكن فقط بعد أن تكون قد شفيت", بهذا ختم كلامه.

"فور أن تهبط حرارتي قليلا", قال بيستانا. أعقبت ذلك وقفة قصيرة. وخرج عازف الكلارينيت على أطراف أصابعه لإعداد دواء. ووقف الناشر وتهيأ للانصراف.

"مع السلامة".

"انظر", قال بيستانا, "حيث إنه من المتوقع تماما أن أموت في أي يوم في هذه الفترة, سأعد لك قطعتين من البولكا على الفور ـ يمكن استخدام الأخرى عندما يأتي الليبراليون إلى الحكم مرة أخرى".

كانت تلك هي النكتة الوحيدة التي أطلقها طوال حياته, وكانت تلك هي الفرصة الأخيرة, لأنه مات في الساعة الرابعة وخمس دقائق صباحا, في سلام مع الجنس البشري وفي حرب مع نفسه.

 

خليل كلفت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات