قراءة نقدية في رواية: "ليرننغ انغلش"

قراءة نقدية في رواية: "ليرننغ انغلش"

تأليف: رشيد الضعيف
من الجرح النازف ينطلق القاص ليواصل حكاياته ليبدأ رحلة البحث عن الذات في تلك الرواية ذات الاسم الغريب.

تبدأ رواية "ليرننغ انغلش" لرشيد الضعيف الصادرة عن دار النهار, بيروت 1998, من سؤال عن بنوة الراوي ونسبه لأبيه, وتقفل على السؤال عينه, رغم الفضاء المنسوج ما بين السؤالين, ومحاولة الإجابة عنهما بأشكال شتى. فالرواية تنبني دائريا, من بؤرة الجرح القديم تنزف: من هو أبو الراوي, هل هو أنور الذي أحبته أمه قبل الزواج والذي تركها وسافر إلى أمريكا, أم هو والده الذي تزوجها رغم معرفته بميلها إلى الأول, ومن باب وضع اليد على من اختارها لنفسه؟

منه, من الجرح ينطلق القص وحكاياته, فهو المولع لشرارة التخيل في أسباب أهله لعدم إخباره عن وفاة أبيه. لقد عرف الخبر من صديق قرأه في الجريدة. تبدأ فرضيات عدم الإخبار متراوحة بين تعذر الاتصال به, وهو المدجج بكل أنواع الاتصالات الحديثة, والخوف من أن أعمامه يساورهم الشك في أصله, إلى خوف أمه عليه غير المعلن.

تبدأ الفرضيات ويبدأ نقاشها, وما بينهما تتسع دوائر الحكي عن الذات وعلاقاتها مع المحيط العائلي الضيق: الأم, الأب, الأعمام, والمحيط الاجتماعي ـ الثقافي الأوسع:المدينة, القرية, المهنة, الثقافة واللغات. وفي نقطة تقاطع الدوائر يرسم الراوي علاقته بحبيبته, وهي نقطة على جمالياتها, تبقى حيزا مأسورا لأزمة الراوي من جراء جرحه القديم المتجدد وفرضياته, ولمخاوفه من الانتماء إلى الحب والالتزام به, وهو "اللقيط" الذي نفر منه الجميع, فبقوا على مسافة منه غير قابلة للاندماج أو التماهي.

غير أنه بقي بين منظومتي قيم تنتميان إلى العصر نفسه, إنما إلى ثقافات مختلفة: قيم القرية الثأرية من جهة, والمتعلقة بصورة نمطية عن "الرجولية", وهي غير الرجولة, والمتجسدة بصورة الأب المتسلط, الذي بدأ حياته بقتل زوج من أحب. وقيم الحداثة من جهة أخرى, العائدة إلى المهنة ـ أستاذ جامعي, وإلى التكنولوجيا ـ يستخدم الكمبيوتر والإنترنت والهاتف المحمول, وإلى الانفتاح على العالم من خلال وسائط الاتصال. وميله الغالب كان إلى منظومة قيم الحداثة التي أسس عليها مواقفه من الآخرين, هو المتضرر من المنظومة الأولى التي جعلت من أبيه قاتلا, متسلطا, ورمزا للقوة, وجعلت من أمه ضحية لها, غير قادرة على الخلاص من زواج قهرها, إذ رفض الزوج معاشرتها بعد أن تكشف له عدم عذريتها عند الزواج, كما رفض طلاقها. على هذا الرفض ينبني موقف الراوي, رغم إيحائه المشروع بأنه في لحظة الغضب لمقتل والده, ولو أنه رأى القاتل, لربما فار دمه وقتله! كأن الكاتب أراد الدلالة على أن القطيعة بين المنظومتين أمر يستحيل, لأنهما معيشان في الذات, في الوقت عينه, هذه هي الحادثة التي يضعها الكاتب موضع التساؤل.

تفكيك الأنماط

يلفتنا إقبال كاتب هذه الرواية, على تكسير الصورة النمطية للمرأة أما أم حبيبة. الأم في أربعينيات هذا القرن وأوائل الخمسينيات, هي على غير صورة المرأة الريفية المرسومة في الروايات اللبنانية. هي جريئة, ومجازفة, ومحبة للمغامرة, تحلم بالتمثيل وهوليوود, تذهب إلى طرابلس لحضور الأفلام, ثم تلتقي هناك بحبيبها أنور, وهي بعد تلميذة. ثم هي تتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية, وهي قوية, لا يلين جانبها, وتؤمن بحقها في المساواة في العيش والعدالة. تتمتع بوعي حاد, محللة ذكية لأوضاعها, عارفة أن الخروج عن زوجها أمر يستحيل في البلد, ذلك لأنه قادر على النيل منها, رغم محاولتها الفرار منه, عندما كان عمر الراوي سنتين. تتقن الحديث عن جسدها, تجرأت في أخذ صور لها, وهي شبه عارية, كما تتقن تحليل مأساتها. أما أحلامها فهي على نمط الأدب العربي القديم, كما يقول الراوي.

لا تجسد الأم صورة الأم المثالية, النموذجية, المتفانية في خدمة زوجها وأبنائها. هي قبل كل شيء إنسانة لها مشاعرها, ميولها, آلامها, إحباطاتها, وعجزها. هي في قوتها, وضعفها وأزماتها. يظهر حنانها بشكل غير مباشر, كما هو حال توقها إلى الحياة الدافئة التي ندخل إليها من خلال أحاديثها مع صديقتها, ومن خلال أحلامها. هي امرأة خرجت عن النمط السائد لتكون فردا ببنيته المركبة. تنتبه إلى رعاية ابنها, فتلاحظ تصرفاته, تردعه أحيانا, لكنها غير مستغرقة به, بل بمأساتها.

أما الحبيبة, فهي مطلقة, كما هو الراوي, تتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية ـ واللغة الإنجليزية هي التحدي الأبرز للراوي ـ مستقلة ماديا, تعرف الدخول إليه دون أن تخيفه. ذلك لأنها تتفهم (نقذته) أي خوفه من الالتزام بالزواج. تفرضه على أهلها الذين يكرهون أهل الشمال معتبرين إياهم متخلفين, وتساير وعودهم بالزواج. وهي حرة دون ابتذال, ميالة إلى تنفيذ رغباتها دون الوقوع في التهور في التنفيذ. تقول للراوي, بأنها فكرت يوما في إنجاب ولد من رجل أحبته وهي متزوجة, لكنها لم تفعل ذلك. فكان ميلها هذا يرمز إلى طبيعة العلاقات التي يتم بها الإنجاب, كي يكون الأمر مرغوبا ومحببا. سيما وأن الراوي طفل غير مرغوب فيه, رفض الأب تسميته كما تمنعت الأم, فما كان من الجدة الا أن أسمته رشيدا.

الأنوثة, في هذه الرواية, منفتحة على الآخر, والعالم, غير منغلقة على مهام محددة, وهي تخالف الاستسلام, رغم صعوبة المحاولة. إنها أنوثة يقظة, تتقن فنون الحب والمغامرة, والحلم الذي يتجاوز الأطر السائدة. كما تتقن فهم الآخر, حتى الجدة هي عالمة بدقائق الرجال. هي تنتمي أكثر إلى الحداثة من الرجال. فالأب, وإخوته, يشكلون كتلة لا تتفرق, تتفق على الصحيح والغلط. قيمها عتيقة فهي ترى أن الرجل قوة, شكيمة, اندفاع, تسلط, أمر. إنها منظومة من القيم في خدمة الجماعة ومصالحها. بينما الأنوثة هي أكثر تحررا من عبء الجماعة وقوانينها, والنساء أكثر دراية وعلما بشئون الرجال.

نحكم على الأنوثة, والذكورة من منظار الراوي, وهو الذي يروي عنهما, ويدخل إلى أحاييزهما الداخلية, مبرزا أفانينهما. وفي هذا يبدو موقف الكاتب ضد النظام الأبوي ومعاييره "الرجولية" التي يمثلها في هذه الرواية سيطرة الأب على زوجته, وتكاتف الأب وأخوته حتى على الشرور, خاصة الاتفاق على مبدأ الثأر العائلي, الذي كان رائجا في تلك الفترة, وفي عدة مناطق لبنانية. لكن موقفه هذا مربوط بآخر حول الحداثة والتشكيك في اطلاقيتها, في المرحلة الراهنة.

الحداثة وتساؤلاتها

فمن ناحية يبين الكاتب تعايش التقاليد الثأرية والقيم التسلطية مع قيم الحداثة المتجسدة في العلم وإتقان اللغات ووسائل الاتصال البارعة والاستقلال الاقتصادي, في الوقت عينه. فالراوي رغم حداثته يبيت في داخله رغبة دفينة في الانتقام من قاتل أبيه رغم إيمانه الشديد بالقانون, يقول الراوي "ألم ننتقل بعد إلى عصر الدولة الحديثة, دولة القانون!؟ أيجوز لي أو لأي كائن غيري, أن يحصل على حقه بيده في هذا القرن الحادي والعشرين؟! لا أخفي أنني أقول هذا الكلام المتمدن, رغم المشاعر العاتية التي تنتابني.. فأنا حاقد على قاتله ولست غافرا له, بل أكثر من ذلك, فإنني لا أتمنى إطلاقا أن التقي به, لأنني لا أضمن أن أتصرف كما ينبغي أن يتصرف شخص مثلي. قد يفور دمي فانقض عليه فأقتله!" إنه التناقض بين القيم العقلانية والأخرى التي تنتمي إلى حيز الانفعالات. "فلماذا أنا هنا الآن, راض بحياتي, بينما لايزال يؤلمني مكان آخر وزمان آخر؟!". وهو أيضا التعايش المتزامن, ما بين العوالم القديمة والحديثة في الشخصيات, ما بين الحاضر والماضي, وكأن القطيعة بينهما هي من بنات الخيال.

وعلى التماس من مسألة التراكب ما بين التقليد والحداثة, يثير الراوي في الخاتمة رؤيته لشبح أبيه المقتول, وهو في الطريق إلى القرية, مندهشا لها وهي التي اندست من غير إذنه في رؤاه "أنا شخص من زمان لا أؤمن بالأشباح, ومن زمان أيضا لا أؤمن بأن الموتى يبقون على علاقة بظاهر قشرة الأرض.. لكن أبي رغم كل هذا اليقين, كان يظهر علي وأنا في السيارة التي أقلتني إلى زغرتا, وكان أحيانا يجتاز الطريق أمامها, فتكاد تصدمه فأهم بالصراخ لأنبه السائق.

راح الكاتب يحول لنصه إطارا مرجعيا يسائل الحداثة وقيمها, دافعا القارئ إلى نفي بداهتها والإقرار بأنها ليست صافية, بل إنها في أحيان كثيرة لا تجرؤ على تصفية آثار الواقع كما يعاش.

من ناحية ثانية, تهدف الحداثة إلى إزالة كل أشكال الإعاقة عن التواصل, إلا أنها فشلت في إيصال خبر وفاة الأب إلى الراوي. كأن الكاتب أراد الإشارة إلى أن وسائل الاتصال الحديثة هي على أهميتها في تسهيل الإفصاح, لا تستطيع تجاوز الحالات الانفعالية والتباسها, بل تزيدها إرباكا, مما ينفي زعمها الإبلاغ الكامل. وعدم التبليغ هو الذي حرض الراوي على فعل التذكر والقص لأن "في القضية أكثر من عدم تبليغ, وفيها أكثر من نسيان أو تناس, فيها رغبة صريحة في الأذى الشديد..".

تجري إعادة النظر في الحداثة, على أرضية نقد البداهات وصيغة التساؤل الشاملة التي شكلت إيقاع الرواية. منها ينطلق الكلام في خاتمة الرواية حول العالمية وآفاقها ومعنى الحدود الوطنية, منتصرا الكاتب لفكرة اللقاء الإنساني بين بشر عابرين لكل أشكال الحدود خاصة بعد انتشار الإنترنت, يقول "كنت ومازلت أكيدا, أن هناك بشرا كثيرين ينتمون إلى هذا التريتوار الواحد ذاته, وأن ما يجمع هؤلاء أحيانا, هو أهم بكثير مما يجمع بين جارين, أو بين اثنين من أمة واحدة أو وطن واحد أو طائفة واحدة أو دين واحد, لمجرد كونهما جارين أومنتمين إلى أمة واحدة أو طن واحد وغير ذلك".

من المحلية وآفاقها الضيقة ـ الشمال وعاداته الثأرية ـ إلى العالمية ورحابتها, ينطلق الراوي/المثقف, في رحلة البحث عن الذات في ذاتها ـ الفردية والجماعية ثم العالمية. وجسر العبور بينهما هو اللغة الإنجليزية, التي يعمل الراوي على إتقانها كحل عملي" وليس حبا بها بالضرورة, أو اقتناعا بمزايا فيها تجعلها أفضل من غيرها, يرى رشيد الضعيف إلى الذات المثقفة, على أنها مركبة من صيغ تضيق وتتسع بين الفردي والجماعي ـ بتقاليده وحداثته ـ وبين الفردي العالمي بلغته. لهذا أخضع الصيغ المحلية للنقد محاولا توسعتها كي يمارس المثقف فيها وجوده, إلا أنه طرح صيغة العالمية دون مسافة, بل اعتبرها معبرا إلى لقاءات فعلية. فهل العالمية هي الرد على المحلية الضيقة, أم هي هروب من واقع يستعصي؟

اللغة المصفاة

يتحاشى رشيد الضعيف في نصه الصور البلاغية, فيصفي اللغة لتعود إلى حالتها الجنينية بعيدا عن فنون الزخرفة والتوشية. غير أنها ليست أداتيه فقط, تؤمن بالتواصل في أدنى مستوياته, أي تعيين الأشياء, الأحداث, الأشخاص, بل هي مشهدية أحيانا, تقارب الصور المرئية التي توصل المعلومة بكلام مختصر. وأحيانا آخر, للغة بعد تأملي تهتم بالكشف عن أغوار نفس الراوي والشخصيات الأخرى التي تدور في فلكه. فهي وسيلة للتعبير عن العلاقة بينه وبين الآخر والعالم. ولأنها كذلك, فإن الكاتب أرادها مصفاة دون بلاغة, أي دون وسائط, مباشرة, أقرب إلى اللغة التي يتفكر بها الناس عموما. كأنه يعيد بذلك الألق للحياة العادية المطمورة تحت الركام, ناهضا بالتجربة الإنسانية نحو عوالم أكثر شفافية وأقل فجاجة, تتوسل قراءة تترجح بين الواقعية المرجعية والرمزية. فالكاتب يلجأ إلى قطع الصلة العادية بين الراوي وأهله, حتى يتمكن من إعادة توجيه الإحالة والدفع بها باتجاه أشكال أخرى للتجربة أكثر عمقا وتجذرا. فتصير العلاقة بأمه أو بأبيه, مجالا للتأمل في أحوالها وتشييدها ثم بناء على معطيات تبلورت في فعل التذكر. بالتالي فإن التخييل السردي هو شعر في حد ذاته, بمعنى أن الحبكة الخاصة بالحكاية, ليست إلا إبداعا لخيال خلاق يطرح عالما خاصا به. وبذلك لا تقل الرواية شاعرية عن الشعر.

من وحدته, وعزلته في جرحه, هو المشكوك في نسبه, والمهمل من قبل العائلة حتى في ممات والده, يشد السرد في نهاياته نحو أفق الاحتمالات والإمكانات البعيد عن حوزته, لكن تبقى طاقته عصية على الاستنفاد يحمل الراوي بداخله عالما ـ عالم عائلته, ويسكن عالما ـ المدينة بمحمولاتها الثقافية الاجتماعية ـ ويتوق إلى العالمية من خلال وسائل الاتصال الحديثة. إن فعل التشكيل هذا له خاصية الخيال الخلاق الذي ينظر إلى الأشياء باعتبارها إمكانات وليس باعتبارها واقعا متحققا. واللغة هنا تحتفي بالواقع في حالة الصيرورة. فبين ترجيع الأحداث إلى مرجعياتها, وتشييد الواقع ينتقل المعنى الوجودي للذات من التبسيط إلى التركيب الإشكالي.

ليرننغ إنغلش, رواية الذات المجنحة, غير المستقرة والواقعة تحت تأثير صورتها الدرامية.

 

نهى بيومي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رشيد الضعيف





غلاف الرواية