مدن وعمائر: العمارة التاريخية في الكويت... تراث يجاهد من أجل البقاء

مدن وعمائر: العمارة التاريخية في الكويت... تراث يجاهد من أجل البقاء

تصوير: طالب الحسيني

كائنات حية هي المدن، فالملاط والحجر والطين تتشكل وفق الناس، تأخذ منهم جزءا من تاريخهم ولمسة من أخلاقهم، ومعظم ما توارثوه من تقاليد وعادات، المدن هي طبائع الذين يسكنونها، خشنة أم سهلة، فظة أم سمحة، فالحجر المهيب يمكن أن يتضع ليصبح أفاريز للأرصفة، والملاط المحايد يمكن أن يعكس كل ألوان الطبيعة، والطين الرخو يمكن أن يقاوم الأمطار والرعود، تماما كالبشر وسط تقلبات المكان، والعربي تقدم في هذا الملف رؤية عن مدينتين عربيتين هما الكويت والقاهرة شهدتا لمسة من التغير والتطور في الفترة نفسها تقريبا، وإن أخذ في كل منهما مسارا مختلفا، وهي تقدم من خلالهما تجربة أليفة وغريبة توضح مدى التفاعل الحضاري الذي شهدته هاتان المدينتان العربيتان.

يقول مؤرخ الكويت عبد العزيز الرشيد في كتابه (تاريخ الكويت): "الكويت تصغير كوت، والكوت كلمة مشهورة متعارفة في العراق ونجد، وما جاورهما من البلاد العربية وبعض بلاد العجم، وسميت الكويت بذلك نسبة إلى حصن صغير كان موجودا فيها، قيل بناه محمد لصكة بن عريعر زعيم بني خالد، وإنه وهبه لآل الصباح ومن كان معهم عندما نزلوا تلك الأرض، وقيل أسسه آل الصباح أنفسهم بعد هبة ابن عريعر لهم".

(كانت الكويت قبل نزول آل الصباح فيها أرضاً فقيرة لا يسكنها إلا لفيف من العشائر التابعة لابن عريعر, وأول من شاد فيها البيوت الحجرية هم آل الصباح الذين اتخذوها لهم مقراً).

لقد نشأت العمارة الكويتية بخصوصيتها ومحليتها, كأي عمارة في أي بقعة من العالم, مرتبطة بظروفها البيئية والاجتماعية والاقتصادية, ومعبّرة عن إيمان وفكر أهلها ومبدعيها:

(يتميز الفن المعماري الكويتي بالبساطة والمباشرة حيث لا يشوبه أي تلفيق أو سطحية. كامل في هندسته المجرّدة كمال تمثال عظيم. وكما يجب أن تكون عليه الحياة فليس فيه أي افتعال أو ادّعاء).

بدأت الكويت حضورها كمدينة صغيرة على الساحل الشمالي الغربي للخليج العربي, (يشدّ أهلها إلى الصحراء نسب وإلى البحر سبب), وكانت مكوّنة من ثلاثة قطاعات تلتف حول البحر, ممثلة في القطاع البحري, يليه القطاع التجاري ثم القطاع السكني. وكان يطوّفها سور يمتد من البحر إلى البحر ليحميها من هجمات القبائل الصحراوية وله عدة مداخل (بوابات) وتقع المقابر في خارجه.

إن الطابع الأوضح للعمارة في الكويت منذ بدايات هذا القرن وحتى مطلع الخمسينيات, يتمثّل أساساً في بساطة وعملية تصاميمها, والبساطة هنا لا تعني السطحية. إضافة إلى استلهامها للقيم العربية والتراث المحلي من جهة, وضرورات وطبيعة الحياة التي كان المجتمع الكويتي يعيشها وقتذاك من جهة ثانية, البحر كان مصدر الرزق الأكبر والأهم لأهالي الكويت, إلى جانب اشتغالهم بالتجارة مع قوافل البدو الرحل, كون الكويت وبحكم موقعها الجغرافي, كانت تعتبر واحدة من أهم محطات مرور قوافل التجارة في شبه الجزيرة العربية.

مجتمع البحر بمخاطره وكرمه وبخله وقسوته, وصغر رقعة المجتمع بتعارف وتداخل أفراده وأسره, دفع الناس إلى تواصل وتكاتف وتعاون طبع حياتهم الاجتماعية بطابع مميز, انسحب على باقي مناحي الحياة, ومنها الشكل العمراني العام للمدينة الصغيرة.

اتسم الطابع العمراني للمدينة بالتلاصق الحميم في مبانيها الطينية ذات الطابق الواحد, والطرقات الملتوية الضيقة, التي تهتم بالتوجيه السليم للمباني, مع ارتفاع نسبي في الجدران المجاورة لها, حتى تؤمن السير في الظل واتقاء حرارة الشمس اللاهبة لأطول وقت ممكن, مع احترام وصون حرمة وخصوصية البيت, وعدم كشف عالمه بخباياه ونسائه وأطفاله لأعين المارة. لذا جاءت الحوائط الخارجية عالية مصمتة, خالية من النوافذ, باستثناء حوائط (ديوانية) الرجال, حيث تطل نوافذها على الطريق رابطة مجتمع روّادها الرجالي بالعالم الخارجي.

الأسوار

شكّلت المخاطر الخارجية التي ظلت تحيط وتحدق بمدينة الكويت على مرّ تاريخها, همّاً دفع أهلها إلى التفكير بحمايتها, فعرفت المدينة أسواراً ثلاثة, عبّر كل سور عن مرحلته وظرفه, حيث بُني السور الأول عام 1760م, وبلغ طوله (750 متراً), كما بلغت مساحة المدينة (275/11 هكتاراً تقريباً), أما السور الثاني, فلقد تمّ بناؤه عام 1811م, وكان يشتمل على عدد من البوابات تتدرج من الشرق إلى الغرب نذكر منها: بوابة القرية, والعبدالرزاق, والشيخ, وابن سعود, وبوابة البدر. كما تمت توسعته من الجهة الغربية في وقت لاحق ليبلغ طوله (2300 متر), كما بلغت مساحة المدينة (400/72 هكتار تقريباً).

أما السور الثالث والأخير, فلقد تم بناؤه عام1921م, وقد بلغ طوله (6400 متر), كما بلغت مساحة المدينة (750000 هكتار تقريباً), وحددت فيه أربع بوابات هي: بوابة الجهراء, الشامية, الشعب, (البريعصي), بنيد القار. ولم تزل بعض هذه البوابات باقية حاضرة شاهدة حتى يومنا هذا.

ويمكن تقسيم المراحل العمرانية الأساسية التي مرت بها دولة الكويت منذ نشأتها وحتى يومنا هذا, إلى مرحلتين رئيسيتين هما:

1ـ مرحلة النمو العفوي (ما قبل 1952).

2ـ مرحلة العمرانية الحديثة (1952 حتى الآن).

التجانس والبساطة يمثلان الطابع الأوضح لمرحلة النمو العفوي, حيث (الأستاذ) لقب يُطلق على رئيس فرقة البنائين, والذي كان يختصر في شخصيته مهمة ووظيفة كل من: المعماري, والمهندس المدني, والمتعهد. وفي الغالب الأعم, لم يكن الأستاذ يستند في عمله إلى مخططات معمارية أو إنشائية, بل كان يقود فرقة عمله معتمداً على الخبرة العملية الموقعية, والتي يتوارثها الآباء عن الأجداد, ويورثونها بدورهم لأبنائهم.

يد الأستاذ ومساعديه وعماله بمواد البناء المحلية من: صخور البحر والطين والجص والحصر والبواري والرماد والقار وأخشاب (الشندل) الهندية, أشادت بيوت الطين المتماثلة والمتلائمة مع حولها, والمتلاصقة وكأن بعضها يحتمي ببعضها الآخر. لكن, تفجّـر الذهـب الأسـود فـي أرض الكويـت, وتصديـر أول شحنـة بترول بتاريـخ 30/6/1946 حمل الكويت إلى آفاق اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة, فتح عيون أهلها على عوالم كثيرة مختلفة ومتباينة, سار بها نحو عمارة جديدة بمفهومها وهندستها ومواد بنائها ومظهرها اللامتجانس.

مرت المرحلة العمرانية الحديثة لدولة الكويت بسبع فترات مميزة في تاريخ التخطيط, حيث أنجزت سبع دراسات تخطيطية هيكلية أساسية, لعب كل منها دوراً مهماً في التطوّر العمراني, وانعكس على مختلف نواحي الحياة, وتشتمل هذه الدراسات على:

1ـ المخطط الهيكلي الأول: للمستشار البريطاني مونوبريو وسبنسلي وماكفارلين, وتمّ إنجازه عام (1952).

2ـ مخطط البلدية للتنمية: تجميع لعدة دراسات تنظيمية قامت بها إدارة التنظيم في بلدية الكويت عام (1967).

3ـ المخطط الهيكلي الثاني: للمستشار البريطاني كولن بيوكانن وشركاه, وتمّ إنجازه عام (1970).

4ـ إعادة التطوير الأول للمخطط الهيكلي الثاني: للمستشار البريطاني شانكلاند كوكس وشركاه, وتمّ إنجازه عام (1977).

5ـ إعادة التطوير الثاني للمخطط الهيكلي الثاني: للمستشار البريطاني كولن بيوكانن وشركاه, وتمّ إنجازه عام (1983).

6ـ إعادة التطوير الثالث للمخطط الهيكلي الثاني: للمستشار سالم المرزوق وصباح أبي حنا, وتمّ إنجازه عام (1990).

7ـ المخطط الهيكلي الثالث لدولة الكويت: للمستشار سالم المرزوق وصباح أبي حنا, وتمّ إنجازه عام (1995).

الكويتي التقليدي

لا تختلف عمارة البيت الكويتي التقليدية كثيراً عن مثيلاتها في بلدان الخليج العربي, حيث البيت في الغالب الأعم يأخذ شكل المربع أو المستطيل في حدوده الخارجية, ويحتل الفناء المكشوف (الحوش) المنطقة الوسطى منه, بينما تتوزع وتبنى حوله العناصر المكملة للسكن من غرف وتوابعها, وكان يُبنى أمام الغرف (الليوان), وهو مظلة مسقوفة محمولة على أعمدة, بغية صد أشعة الشمس المباشرة, وتوفير الظل للغرف لتبريد أجوائها في فصل الصيف. ويشكّل الحوش مركز وروح البيت النابض, حيث لقاء الكبير والصغير, وحركة النساء والأطفال الحرة بعيداً عن أعين الغرباء, وحيث جلسات السمر والحكايا الليلية, وحيث بركة الماء التي تجمع وتخزن ماء المطر, وبينما كانت أكثر البيوت تلتم على حوش واحد, حوت بيوت الطبقة الأغنى أكثر من حوش مستقل, كحوش الديوانية, وحوش الحرم, وحوش المطبخ, وحوش المواشي.

البيت الكويتي التقليدي كأي بيت عربي, كان عامراً بعدد كبير من الأفراد, ويؤوي بين جنباته أكثر من جيل, وأكثر من أسرة, فلقد كان يتصف بكبر مساحته الأفقية, فأكثرية البيوت الكويتية كانت تتكون من طابق واحد, في حين أن الأسر المتمكنة والغنية كانت تبني في بيوتها طابقاً ثانياً.

لديوانية الرجال وضع خاص ولافت في البيت الكويتي, فهي العنوان الأبرز الذي يتصدّر واجهة كل بيت, مدللاً على مكانته وهيبته وحضوره الاجتماعي, وهي المكان الوحيد المفتوح والمنفتح على العالم الخارجي بمدخله الواسع الرحب, واستعداده الدائم لاستقبال رواده وضيوفه, كما أن حوائط الديوانية عادة ما تحتوي على نوافذ تفتح على الشارع, حيث يستقبل كبير الأسرة أصدقاءه وزوّاره وضيوفه من الرجال, وحيث تعقد مجالس الرجال الرصينة لتناقش أمور الدين والدنيا. وسط جو رجالي عامر بالمحبة والألفة والتعاون, وعابق برائحة كرم ضيافة القهوة العربية الأصيلة!

الطفرة النفطية ومجافاة الماضي

جلبت الطفرة النفطية التي نعم بها الشعب الكويتي الكثير من الخير والتقدم والازدهار, غيّرت وجه وبنية المجتمع على جميع الأصعدة, وكان للناحية العمرانية نصيبها الأوفر من ذلك. فلقد انتقلت مدينة الكويت من كونها مدينة صغيرة بحلة معمارية متجانسة وأليفة, تشكّل بيوت الطين المتلاصقة بدروبها الترابية الضيقة الملتوية ملمحها وطابعها الأساسي, أسرعت هذه المدينة تقفز بهوس, تتحول عن عالمها ولباسها ومحليتها, تنزع بجنون هيئتها العمرانية المتجانسة الأصيلة, تركض خلف التصاميم المعمارية الجديدة الوافدة. التصاميم الغريبة في طرازها, والتي لا يجمع بينها جامع. تصاميم بجذور وثقافات ومشارب ومدارس مختلفة, وهكذا ولدت مدينة كويت جديدة, مدينة جعلت ترتفع عالياً بعالم الخرسانات المسلحة الملونة, وتتوسع متفرّعة بشوارع الإسلفت المنطلقة. لكن, دونما هوية معمارية متجانسة وواضحة, مدينة يشكّل التلوث البصري ملمحها الأساسي!

سريعاً متسارعاً جرى التحوّل الاجتماعي بسبب الطفرة النفطية, أحرق مراحل كثيرة في طريقه, ما سلك مساراً طبيعياً, وكذا التحوّل العمراني ولد بعملية قيصرية, لم يكن مدروساً وواعياً, لذا حطّم وجار وقسى كثيراً على الإرث المعماري للمدينة القديمة بحجة التقدم. هدم وجرف جميع ما وقف في وجهه, محا الجل الأكبر من مدينة الكويت القديمة بملمحها المعماري المحلي الأصيل والمسالم, بدد وضيّع معالم فترة تاريخية مهمة من عمر المجتمع الكويتي. ولن أجد نفسي مبالغاً إذا ما قلت إن جرافات و (بلدوزرات) و (تراكترات) الطفرة النفطية عملت بوحشية غريبة, وكأنها بصدد الانتقام والتخلص وطمس كل ما يمت إلى الماضي بصلة, ما تركت شيئاً وراءها من هندسة وملمح وحياة المدينة القديمة الطيبة!

المحافظة على المباني التاريخية

ما كان عادلاً ولا متكافئاً ذاك الصراع الذي نشب بين عمران جديد مسلح بجميع معدات ثورة الخرسانات المسلحة العالمية, وقديم طيب مستكين لا حول له ولا نصير! فخلال أقل من ربع قرن, كان الجديد قد أقصى القديم عن الحلبة, ترك أحياء كاملة قاعاً خالية دونما حياة أو ذكرى! ففي حمى التسابق صوب العمران الجديد, خسر الكويتيون مدينتهم القديمة, ضيّعوا الشاهد الأهم والأصدق على طبيعة وحياة وعمارة فترة من أهم الفترات التي عاشها المجتمع الكويتي: (أصبحت مدينة الكويت مكاناً حيوياً للنشاطات التجارية والمباني الاستثمارية.. وانتقل الكويتيون للسكن خارج المدينة في الضواحي المحيطة بها, واستمرت عملية هدم المساكن التقليدية وإنشاء المباني العالية للاستعمال التجاري والاستثماري لتحل محلها).

لقد نصّ قانون الآثار الصادر عام 1960 في مادته الأولى على أن: (تحافظ الكويت داخل حدودها على الآثار القائمة فيها, وذلك صيانة لتراثها الثقافي الذي تركته عصور ماضيها المتعاقبة). لكن, ملمح مدينة الكويت القديمة كوحدة متكاملة, كان قد توارى عن الأنظار وإلى الأبد, أصبح أثراً بعد عين!

عام 1994 صدر قانون جديد بتعديل بعض أحكام قانون الآثار, بحيث يناط بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب رعاية جميع الآثار المنقولة وغير المنقولة داخل دولة الكويت. وكان هذا التعديل اعترافاً صريحاً بعلاقة الآثار الوطيدة بالثقافة والفنون بوصفها إرثاً معرفياً يخص الأمة, ومعلماً تراثياً يجب رعايته والسهر عليه.

إن المباني التاريخية القليلة الباقية (بيوت ودواوين وبوابات) تتطلب وعياً عالياً بأهميتها, وجهداً علمياً وعملياً مخلصاً وحثيثاً للمحافظة عليها, ومن ثم الوقوف على حالتها الإنشائية والمعمارية, وترميم المتداعي منها وفق أصول وقواعد ترميم المباني التاريخية, وبما يضمن عدم مسّها, وبقاءها على صورتها الأولى سواء على مستوى التصميم أو مواد البناء, وأخيراً المداومة على صيانتها, وفتح أبوابها لاستقبال الجمهور ليتعرّف على خباياها وعوالمها, ويتنسم أجواءها الخاصة.

نماذج من البيوت التاريخية:

(1) بيت البدر:

بيت البدر, أحد أهم البيوت الكويتية القديمة, لكونه يمثل نموذجاً معمارياً بارزاً, يعبّر بوضوح عن المظاهر الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تسود المجتمع الكويتي في القرن الماضي. كما أنه يمثل نموذجاً مميزاً من حيث التخطيط المعماري ومواد البناء المحلية التي حافظت على بقائها بحالة جيدة طوال القرن ونصف القرن الماضي.

تعود ملكية البيت لورثة عبدالعزيز وعبدالمحسن يوسف البدر, حيث تمّ الانتهاء من تشييد البناء عام 1847م, وبمساحة كلية تصل إلى (3020 متراً مربعاً), ويقع بيت البدر في حي القبلة, محلة البدر, مطلاً على الشاطئ العامر بحركة الناس والسفن والبضائع والبيع والشراء, ومن خلف الجميع تتلألأ زرقة مياه الخليج العربي.

يضم البيت خمسة أقسام أو أحواش, هي: حوش الديوانية, وحوش الحرم, وحوش المطبخ, وحوش الأعمال, وحوش المواشي, ولقد استخدم اللبن (الطين مخلوطاً بالتبن) والصخر البحري في بناء بيت البدر, وطليت جدرانه بواسطة الجص. وبنيت الأسقف باستعمال عوارض الشندل والباسجيل, مرتفعة حوالي أربعة أمتار, أما جدرانه الخارجية فهي مصمتة, بسماكة تتراوح بين (50-100سم) مغطاة بالطلاء وفيها مداخل البيت الرئيسية, وتعتبر واجهة البيت المقابلة للبحر هي الواجهة الأمامية والرئيسية للبيت, حيث يوجد على جانبيها دكة بمقاعد حجرية تستخدم لجلوس الرجال.

يوجد في الواجهة الأمامية لبيت البدر مدخلان: المدخل الأول هو المدخل الرئيسي الضخم والمقوس, والذي يؤدي إلى حوش الديوانية على اليمين, بينما المدخل الثاني عبارة عن زوج من الأبواب يؤدي إلى حوش الأعمال, ويوجد في وسط كل من المدخلين باب إضافي صغير يعرف باللهجة العامية الكويتية بباب (أبو خوخة), وهذه الأبواب الصغيرة تستخدم في الأوضاع العادية, بينما تستخدم الأبواب الكبيرة لإدخال الحاجيات الكبيرة والمؤن والدواب.

يوجد على أعلى جدران الجهة الأمامية فتحات كانت تستخدم لأغراض التهوية أو كنوافذ للإضاءة. أما الفتحات التي تعلو فوق مستوى السطح, فكانت تستخدم كأبراج وملاقف للريح (بادكير) لتبريد الغرف في فصل الصيف, وقد شاع استخدام هذه الأبراج في بيوت الكويت قديماً.

تعتبر العقود المستخدمة فوق الباب الرئيسي من أبرز المظاهر المعمارية لهذا البيت, فقد بني العقد الواحد على هيئة نصف هلال لتتلاحم هذه العقود مشكّلة قوساً كبيراً يتوسطه شكل زخرفي يمثل نصف وردة ورسم متقاطع جميل على شكل عقد رباعي مثمن الأضلاع.

ينفرد بيت البدر بميزات كثيرة تجعل منه واحداً من أهم البيوت التاريخية في دولة الكويت. فبالإضافة لقدمه, وموقعه المتميز, واتساعه بأحواشه وغرفه, ونضارة عالمه, فإن حالته الإنشائية والمعمارية جيدة جداً. وهذا ما حدا في وزارة الإعلام على ضمّ بيت البدر إلى إدارة المتاحف عام (1968), ومن ثم استخدامه ابتداء من عام (1976) مقراً مؤقتاً لمتحف الكويت الوطني, ولحين انتهاء العمل بمباني متحف الكويت الوطني الدائمة.

إن حضور بيت البدر على شارع الخليج العربي, قبالة شاطئ البحر, بحوائطه البيضاء الناصعة المشرقة, وبواباته المشرعة على المحبة, بهيئته التي تفوح بعبق الماضي, يجعل منه منارة تاريخية يسعد الكويتيون باحتضانها والاهتمام بها, انطلاقاً من هذا, ونظراً لكون المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب هو الجهة الحكومية المناط بها رعاية وترميم وصيانة والمحافظة على جميع الآثار في دولة الكويت, فإن المجلس الوطني يتولى في وقتنا الحاضر التنظيم والإشراف والمتابعة لجميع الأنشطة والفعاليات التراثية والثقافية والفنية التي تقام بين جنبات بيت البدر بوصفه مركزاً ثقافياً وتاريخياً مهماً.

(2) بيت ديكسون:

في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر, بنى تاجر اللؤلؤ الكويتي محمد بن علي بن موسى العصفور بيتاً كبيراً له في حي الشرق قبالة ساحل البحر, لم تخرج عمارة البيت عن عمارة وهندسة البيت الكويتي التقليدية. وكذا مواد بنائه المحلية كانت من الطين وحجر البحر والجص وعوارض الشندل. ولقد تكوّن البيت من (طابقين تظلله على طول السطح الأعلى شرفة عريضة تطل على المرفأ) بحوائط طينية تتراوح سماكتها بين (50 إلى 100سم), بينما ميّز الواجهة الأمامية للبيت بمدخلها المطل على سيف البحر, سلمان لولبيان يحملان ضيوف وزوار البيت إلى طابقه العلوي حيث غرفة المعيشة, وغرفة ضيوف المعتمدية.

(في شهر يناير 1899م وقّع الشيخ مبارك حاكم الكويت اتفاقية يلتزم بمقتضاها هو وخلفاؤه من بعده, بعدم التخلّي عن أي جزء من أراضيه دون موافقة الحكومة البريطانية التي تعهدت, من جانبها, بمساعدته هو وخلفائه من بعده وأن تقيم معهم علاقات ودّية ماداموا قد تصرّفوا وفقاً لما التزموا به في هذه الاتفاقية).(وقد أقام أول مفوض سياسي بريطاني وهو الكولونيل أس.أي.جي.نوكس في هذا البيت من سنة 1904 إلى سنة 1909, ثم حل محله خليفته الكابتن دبليو.أتش.أي. شكسبير من عام 1909, حتى عام 1915, وقد ظل هذا المنزل محل إقامة كل من تعاقبوا على منصب المعتمد السياسي حتى سنة 1935م, وفي وقت لاحق أعطي هذا البيت من قبل الشيخ مبارك الكبير آل صباح إلى حكومة الهند لاستخدامه كمعتمدية سياسية).

في اليوم الثاني والعشرين من شهر مايو عام 1929م, وصل إلى الكويت المعتمد السياسي البريطاني الكولونيل هارولد ديكسون بصحبة زوجته فيوليت ديكسون, ومن يومها نزلا البيت, وتعلقا به, وأخلصا في ترميمه وصيانته والمحافظة عليه, فحمل اسم عائلة ديكسون, الذي عرف به فيما بعد.

بعد تقاعد الكولونيل ديكسون عن العمل كمعتمد لدى بريطانيا في الكويت سنة 1936 لبلوغه سن التقاعد, أقام في الكويت في البيت نفسه, وحتى وفاته عام 1959م, ودفن بمنطقة الأحمدي, أما زوجته والتي حملت لقب (أم سعود) نسبة لاسم ابنها البكر, فلقد ظلت تسكن البيت حتى منتصف أبريل 1990م, عندما ساءت حالتها الصحية, فأدخلت مستشفى شركة النفط في الأحمدي, وبسبب احتلال النظام العراقي للكويت حينذاك, وعدم توافر الرعاية الصحية, فلقد تم نقلها لاحقاً إلى بريطانيا حيث توفيت بتاريخ 4/1/1991 ودفنت في بريطانيا.

شهد بيت ديكسون عهوداً ذهبية كثيرة, فلم يكن طوال عهده مقراً للمعتمدية البريطانية السياسية في الكويت, ولكنه كان أولاً بيتاً لعائلة كويتية يقال إنها عائلة العصفور, ثم تحوّل إلى مركز للبريد التابع للحكومة البريطانية في فترة كان لها الحضور والفعل الأقوى على مستوى العالم بأجمعه قبل أن يصبح مقراً رسمياً للمعتمدية, لذا, فلقد تأثرت عمارة البيت بساكنيه, حيث وجود موقد النار على الطريقة الإنجليزية: (لقد جعل برد الشتاء في الكويت إنشاء المدافئ أمراً ضرورياً, وبالرغم من أن مثل هذا الشيء لم يكن معتاداً في البيوت العربية, استطاع البنّاءون صنع مدخنة على الحائط الشرقي لقاعة الاستقبال, لها موقد مفتوح).

إن موقع بيت ديكسون المتميز على شاطئ الخليج, حيث يمر من أمامه شارع الخليج العربي, والذي يعد شريان مدينة الكويت, وأحد أهم شوارعها قديماً وحديثاً. هذا الموقع البارز خلق علاقة وطيدة بينه وبين المواطن الكويتي, خصوصاً طابع عمارته القديمة, ومحافظته على بقائه ببهائه وأصالته.

(3) بيت الفنون:

إن بيت الغانم, والذي أطلق عليه أخيراً اسم: (بيت الفنون) يعتبر نموذجاً متميزاً وصالحاً تماماً لرؤية وتلمس الملامح الأساسية للعمارة الكويتية القديمة, فلقد شيّده على شاطئ الخليج العربي أحد تجار اللؤلؤ الأثرياء في الكويت المرحوم جاسم بن محمد الغانم الجبر, وكان ذلك عام 1919, على أرض بلغت مساحتها حوالي (1937 متراً مربعاً).

يتكون بيت الفنون كمعظم بيوت الكويت في تلك الفترة من دور واحد. حيث تم استخدام الطين وصخر البحر المغلف بالجص الأبيض في بنائه, كما استعمل الشندل والباسجيل والبواري في تقوية وتجميل مجمل أسقف غرف البيت. وكأي بيت عربي قديم, تتوزع الغرف على امتداد أضلع محيط البيت, يحميها الليوان من أشعة الشمس المباشرة, وتطلّ بأبوابها وشبابيكها الداخلية على الأحواش المربعة, والتي تزدان بشجرة السدر. إن أبرز سمات الشكل العام في بيت الفنون تنحصر في:

(1) للبيت ثلاثة مداخل, الرئيسي للديوانية ويفتح على جهة الشمال الغربي, حيث شارع الخليج العربي (الكورنيش) المطل على شاطئ الخليج, والمدخلان الباقيان, أحدهما (للحرم) ويحتل جهة الشمال الشرقي, والآخر في الجنوب الغربي وهو للمطبخ. باستثناء جدران الواجهة الأمامية لديوانية الرجال, وجميع جدران البيت الخارجية مصمـمة دونما شبابيك أو أي فتحات أخرى, وتتراوح سماكتها الطينية بين (50و100سم).

(2) بموازاة واجهة البيت الرئيسية التي تطل على شاطئ الخليج العربي, والذي كان ولم يزل المكان الأهم والأجمل لمدينة الكويت, بموازاة هذه الواجهة, تمتد دكتان من الطوب تعلوهما طبقة من مساح الجص الأبيض, تمثل استراحة للرجال ومجلس لقاء وحوار على مرأى من حركة الشارع التي لا تهدأ.

(3) الواجهة الخارجية لحجرة استقبال الرجال, الديوانية, تحوي خمسة شبابيك ذات عتبات منخفضة وعقود مرتفعة, هذه الشبابيك تطل على شارع الخليج, ومن خلفه تلوح مياه الخليج المترقرقة بلمعانها, ولولا هذه الشبابيك لغدت الواجهة بأكملها مصمتة, مما يحرم البيت اتصاله بالعالم الخارجي, وتمتعه بنور الحياة.

يحوي بيت الفنون أربعة أقسام أو أحواش هي: حوش الديوانية, وحوش المعيشة (الحرم), وحوش المطبخ, حوش المواشي, ويمثل بيت الفنون مثالاً جيداً لعمارة البيت الكويتي القديم والذي تدرس فيه الحركة (CIRCULATION) والتوجيه السليم (ORIENTATION) بكل دقة, وبما يخدم تلاحم الأسرة الواحدة التي تجمع بين جنباتها أكثر من جيل وتعيش متآلفة تحت سقف واحد.

لقد عاش وعايش بيت الفنون ثلاث فترات زمنية, تتوزع على النحو التالي:

* الفترة الأولى من عام (1919 وحتى عام 1951) حيث كان بيت معيشة لأصحابه وأهله من آل الغانم وأقربائهم.

* الفترة الثانية من عام (1951 وحتى عام 1960) حيث تمت توسعة البيت بإضافة مساحة إضافية ملاصقة جهة الجنوب الشرقي, وظل سكناً لأهله.

* الفترة الثالثة من عام (1960 وحتى الوقت الحالي) ففي مطلع عام 1960 وبسبب انتقال الأسر الكويتية من الأحياء الكويتية القديمة, إلى المناطق السكنية الحديثة, غادرت أسرة الغانم بيتها, ليدشن عهداً جديداً له, وليحتضن البيت بكرمه حركة الفن التشكيلي الكويتي حيث أطلق عليه في حينه اسم (المرسم الحر) وتم تجهيزه بمسبك وورشة عمل فنية في موقع حوش المواشي سابقاً, وهكذا تحوّلت غرفه وصالاته إلى ورش فنية أضاء جنباتها الرعيل الأول من الفنانين التشكيليين الكويتيين, وكان أحد أهم مظاهرها (معرض الربيع) الذي أبرز العديد من المواهب الأصيلة التي كانت ولم تزل تمثل رموزاً إبداعية متميزة لحركة الفن التشكيلي. وقد ضُمّ بيت الفنون إلى إدارة الآثار والمتاحف عام 1979, ومستغل حالياً من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بوصفه مركزاً وبيتاً للفنون.

مكرمة سمو أمير البلاد

بات من نافل القول التنويه بأهمية المحافظة على التراث المعماري لأي أمة من الأمم ورعايته, بوصفه ملكاً للأمة وأحد كنوز ثروتها الثمينة. إن ترميم وصيانة المباني التاريخية والأثرية غدا علماً له أصوله وقواعده, والتي تهدف في المقام الأول إلى المحافظة التامة على المبنى بحالته الأصلية الأولى, ودون أي تغيير, سواء في عمارته أو هندسته, أو في مواد بنائه الأصلية. وإن أي ترميم أو صيانة يجب أن يستند إلى حصيلة دراسات معمارية وإنشائية وطبوغرافية للموقع الأثري.

سعت وزارة الإعلام جاهدة طوال فترة مسئوليتها عن المباني التاريخية إلى المحافظة على هذه المباني وصيانتها, وإلى حين انتقال تبعية هذه المباني للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, حيث أنيطت هذه المهمة بإدارة الشئون المعمارية والهندسية, والتي استعانت بخبرات الشباب الكويتي المتخصص, ليتم عمل برنامج طموح لتوثيق جميع المباني التاريخية في دولة الكويت, وحسب الأصول العالمية المتبعة في منظمة اليونسكو, ومن ثم المباشرة في ترميم وصيانة هذه المباني وبما يعيد لها حضورها الأصيل والبهيّ, لتكون جسراً يربط الأجيال الحاضرة والقادمة مع ماضي الآباء والأجداد.

إن المكرمة الأميرية الطيبة التي تبرع بها أمير دولة الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح, بوصفه رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي, وذلك بدفع ما يزيد على ربع المليون دولار أمريكي لترميم وصيانة المرحلة الأولى من أعمال بيت ديكسون, لتعد بمنزلة التفاتة كريمة منه, أظهر سموه من خلالها اهتمامه الشخصي الكبير, في المحافظة على المباني التاريخية في دولة الكويت, بوصفها إرثاً تاريخياً وثقافياً للأمة, وليشكّل حافزاً ودافعاً قوياً لجميع العاملين والمهتمين بهذا المجال, خصوصاً أن نية المجلس الوطني في ترميم وصيانة وتجهيز وإعداد بيت ديكسون ليكون متحفاً تراثياً لحفظ وتوثيق سجل العلاقات المتميزة والمتينة بين بريطانيا, ودولة الكويت.

إن ترميم وصيانة ورعاية المباني التاريخية, ومن ثم بعث نبض الحياة مجدداً بين جنباتها, إنما يمثّل وفاء أصدق لجيل من الآباء والأجداد عملوا بهمة وإخلاص وطيبة لبناء مدينة عربية اسمها الكويت, كما أنه يعد توثيقاً حضارياً لتاريخ المجتمع الكويتي الأول, وإذا كانت هذه البيوت قد نعمت بمحبات وأوجاع وأصوات وروائح أصحابها يوم كانوا أحياء, فها نحن, متمثلين بمكرمة سمو أمير البلاد, نمد أيدينا, نرمم جدران هذه البيوت البيضاء, نستحضر أنفاس أهلها الأول, نتواصل بهم, وإلى الغد نسير!

 

 

طالب الرفاعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات