البابطين مسافر مع الشعر

 البابطين مسافر مع الشعر
        

تلك محاولة لكتابة نقدية إبداعية تحاول أن تبحر في قصائد الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين لتعيد لحظات التألق النفسي والوهج الشعري, تستعيد الكتابة حرائق القصيدة.. وثورة الانفعال وهدير المشاعر.

          هو شاعر الرقة والحنين والذكريات، سكنت إليه وداعات الطيور، وسكن في أجفان النسائم الراحلة إلى موطن الهوى.

          يرتجف قلبه عشقًا في البيداء، ويمضي شاعرًا جوالاً بين خيام القبائل، باحثًا عن مهد العشق، ومأوى عيون المها.

          وهو أيضًا شاعر الحب الرفيع ذلك الحب الذي يتسامى إلى حد التقديس والصبابة.. العشق الراحل دائمًا عبر الفيافي.

          عبر الديار.

          والبابطين أسير الوجد، والوعد، والسهد، شاعر جوال في المدائن، شاعر يبحث عن ذكريات عاشت في خلده، وتألقت في عيونه، وازدهرت على ضفافه، ولكن هذا الزمان غالبًا ما ينكأ الجرح، وتتدفق الذكريات.

          هذا القلب الذي انطوى بجناحيه على ذكر حميمه هو (تروبادور) العصر الجديد، هذا العصر الذي تشكلت ملامحه بغبار الحروب، فأرخت الشموس أهدابها حزنًا، وتهادت الأقمار شاحبة الضوء في كبد السماء والشاعر الجوال هائم بين الميناء والميناء يجمل منفاه ويمضي في صمت معانقًا الأبعاد، يطارد وهما من الذكريات، عصفت بها الريح فهل تصمد الذكرى في وجه الريح؟!

ذكريات وحنين

          الشاعر يصف هذا الصراع بين الذكريات والزمان فيقول:

نكأت الجرح يا زمني!! فجرحي تبسم عن جميل الذكريات
فقد طربت كوامنُ سر قلبي وقد هدأت بنفسي ثائراتي
يمور الكونُ يرقص حول روحي وقد أهدى إليها البُشرياتِ
ونشوتها تسامت بالأماني وأحلامي انتشت بالأغنيات


          على الرغم من تجواله في عواصم العالم فإن حنينه دائمًا إلى أول منزل. وأول خيمة في صحراء العرب، وأول شجرة نبتت على ضفاف واحة عذبة.

          في حياته العامة: رجل يعاصر تكنولوجيا العلم. ولكن في جوانبه مازالت تتنفس آخر نخلة شامخة في واحات العرب تتألق وردة خجلى.

          ترهبها المدن الجديد.. والريح الغريبة.

          ولذا يمضي البابطين جرحًا يحتضن النزيف وغربة تمزق روحه ووجعًا يخفي الآهات، وحنينًا يتوهج باتجاه أسراب الطيور التي ضاعت في فضاء الغيوم تسأل الآفاق عن دربها القديم.

          فهل البابطين طير مازال يبحث عن عشه القديم؟

          يبحث عن أول زهرة ارتوت من دمعه!!

          وأول كتاب شعر انتحبت فيه قصائد الشوق!

          وأول امرأة عشقها.. ومازالت غائبة في ذكريات الحنين!

          وأول قصيدة بكاء افتتح بها تاريخه الشعري!

          وهل مازالت هذه الكلمات تترى على مسامعه:

          قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، فهل البكاء كان افتتاحية ديوانه الشعري: بوح البوادي أم أن للشعر شوقًا للبكاء؟

          شوقًا للحنين؟

          شوقًا للنداء؟

          وترى من ينادي الشاعر هنا: أول امرأة؟ أم ذكريات قد ذابت وما غابت.. استودعها الشاعر حنايا الروح ويهفو إلى ملامحها ويحلق في فضائها. يقول:

لك روحي أما سمعت النداء فهمومي قد أورثتني العناء
وحنين إليك أضحى شعاعًا قد تعالى فمس حتى السماء
ملأ الكون والفضاء وأمسى بين عينيك يسكب الأضواء
إذا سرى الليل طوله ليلاقي فجرك الحلو ينضح الأنداء


          البابطين شاعر الحنين والذكريات والروح المحلقة في فضاءات الحلم تتنفس عذابات القلب، إنها تجربة الأسر الحنيني.

          تجربة احتشدت حولها معاني ذاتية ورموز إنسانية بين النهر والضفاف، والنجم والسماء، والقمر والضياء، والشمس والنهار، فإذا كان للنجم عناق أبدي مع سماء الليل، والنهر في دفقاته يركض باتجاه الجزر والضفاف، والشموس الباسمة في وعد مع النهار فإن البابطين شاعر تحرضه الذكريات على العشق.

          ويثيره الحلم للوصال، ويبعث مشاعره من الرقاد إلى السهاد إلى العناق، فيغدو في هذا العالم الحنون، طفلا فوق أعشاب البراءة.

          آه ما أقسى الطفولة حين تصبح ذكرى.

          ونفتقد صفو الحلم وعفوية الإحساس ورهافة الشعور!

          آه ما أجمل أمسيات الحب البريء، والطهر، والروح الخافقة بوجه الفجر الأبيض:

          يقول البابطين:

إيه أمسى أتذكر الحب طفلا فيه غنى شلاله كيف شاء؟
فيه مل اللقاء منا وإنا ما اتروينا ولم نمل اللقاء
كيف تجري الحياة فينا إلهي والبعاد الأليم هد الرجاء
أنا لن يوقف البعاد حنيني لا ولن يخنق الزمان النداء
ذاك حبي فلا يزال آتيا دفقة الثر جاوز الجوزراء
لك روحي ومهجتي وسنيني كل ما بي أهدي اليك فداء


          هذا أمير الوجد.. والفقد والنداء.

          روح تحترق في الجوى، وقلب طواه الهوى، وعذاب البعاد، ينادي ولا يجف النداء، يجتاز البحار، يصادق المراكب المسافرة ويحاور الغيوم، والأنداء، ويبحث عن أرض الأبرياء. من يلبي النداء؟ من يهفو لنداء روحه الحيرى؟ من يرد له بعض براءات حب الطفولة، وبقايا وردة مازالت تفوح أنفاسها بين أحاسيسه ومشاعره. 

نداء وصدى

          هذه التجربة في حنين الروح تظل مأوى الشاعر، فهو في حنين دائم، تشوق مستعر، ونداء وصدى، رجاء وردي..

          فماذا يقول:

هل سمعت النداء يا إلف روحي أم هدير النداء ولى هباء؟
سيظل النداء يسري ويدوي ليعيد الهوى إلى بهاء
ويهز الفضاء حلو التغني أنا من علم الطير الغناء
فإذا ما سمعت يومًا هديلا فهو فنى منحته الورقاء
أو سمعت الطيور في الروض تشدو تُطرب الروض والرؤى والسناء
ذاك مما تعلمته مزيجًا من غنائي إذا ارتجيه دواء


          هذا شاعر جامح الخيال، فياض المشاعر، يغني ذكرياته، ويعلم الطيور الغناء، ولكن في بعض الغناء بكاء وفي بعض البكاء غناء.

          فكيف تتوافق الأضداد في روحه؟

          كيف تنسجم مشاعر الألم في أعماقه؟

          وعلى الرغم من برودة الكون، وانسحاق العالم تحت الواقع الحسي المادي تنصهر روح الشاعر بشتى الانفعالات.

          ويتجاوز حدوده، ويشيد عالمه على حافات الكون المسكون بالحب والبراءة، والذكريات الجميلة، والطيور الشادية، والأحلام الوردية والأماني المورقة.

          وينجرف نهر الحنين في مواجهة الجدران، وتهدر الروح وتسيل الذكرى.

          ويظل الشاعر يترقب النداء، قد يأتي أو لا يأتي، قد يتبدى في وجه السماء، وعيون القمر، أو يتجسد في ظلال عشبة ندية مازالت تعاند رعونة الصحراء.

          هذا الهاتف الروحي يؤمن به الشاعر ويلاحقه ويتعقبه، ويفنى في إثره، غير مبال بما يحدق به من أهوال. وهذا النداء، أو الهاتف الروحي، أو ينابيع الذكريات، والإلهام إنما تشكل حياة الشاعر الإنسان.

          وقد اهتم الرومانسيون بهذا النداء الروحي أو لحظات الانبعاث والتوهج الباطني ليخلقوا عالمًا من سحر الذكريات يواجهون واقعًا قاتمًا ما عادت الأحلام تتعانق على أرضه.

          وتلك وسيلة الشعراء الرومانسيين في المقاومة.

          وخلق معادل موضوعي آخر من خيالهم وأحلامهم ومشاعرهم الرقيقة ينسجون مرة أخرى صور البراءة التي اغتالها العصر الحديث، وصورة الوردة في مخدعها، والبلابل في خمائلها والنجوم في مدارها، والكواكب في مسارها، والناس طيبون ووادعون.

          وهنا يحاول الشاعر تغيير الواقع، وإضفاء جماليات الروح المشرقة، ليرجع العشق صافيًا، والقلب خافقًا والإنسان إنسانًا. 

النداء الخفي

          فقد قال الشاعر الرومانسي الإنجليزي شيللي:

          - في أعماق كل شاعر نداء خفي إلى عالم أكثر أمانًا وبراءة.

          وقال وردز ورث: في روحي نداء قد أترقبه أو أستلهمه من الطبيعة أو من تلك الشجيرة النابتة تحت نافذة بيتي.

          أما الشاعر بيرون فيقول: أحلم بعالم خال من الفجائع والفظائع والحروب، أريد أن أشعر أني إنسان.

          وكذلك كان نزار قباني يقول: الشعر هو خلاصنا الحقيقي نحو حياة نقية، والشاعر طفل بريء.

          وأيضًا يقول فاروق جويدة: في عينيك عنواني.. أنا أسكن في تلك العيون التي لا تعرف سوى الصدق والعشق والبراءة.

          وفاروق شوشة أيضًا يعترف ويقول: أغلف حياتي ومشاعري بحرير الشعر وموسيقى الروح هربًا من واقع طاغ.

          ويقول جون كيتس: الشعراء يمشون على الأرض لكن أرواحهم في السماء.

          والشابي يقول: في أجنحتي القدرة على التحليق وعناق السماء الزرقاء، وإذا كان دمعي دائي، ففيه دوائي.

          وإيليا أبوماضي يقول: تجربة الحنين مزقت روحي، فلا أدري أين أذهب.

          أما جبران فيقول: الذكريات حياة، فلا تدعها تنساب من بين حياتك، الذكريات هي العمر الباقي للعشاق والمحرومين.

          والشاعر الإنجليزي وليم بليك يقول: الطفل الذي يسكن أعماق كل شاعر هو المسئول عن تلك القصائد قصائد البراءة.

          فماذا يقول البابطين عن تجربته الشعرية الرومانسية؟

          - خفقان المثل العليا؟ أم فناء الذات في الطبيعة الخضراء التي لم يمس عذريتها بشر؟

          - هدير المشاعر في طوفان الذكريات؟ أم رحيل الروح مغتربة تبحث عن مأوى.. وتتوعد بالنداء؟

          - غناء شاعر في صحراء إن لم يكن قد سكنها فقد سكنته منذ الطفولة، ورحل بها في كل الموانئ والأمنيات؟

          لذا، نعيد القراءة مرة أخرى، فماذا يقول:

تُذكرني ليالي عشتُ فيها غريرا لا أعي مر الشتات
تذكرني صباي وفجر حبي وأيامي خلت حُفرت بذاتي
شكت لي في ضنى هول الليالي وقد أنَّ الفؤاد من الشكاة
ويصبو القلب للذكرى مشوقًا ألوك تلذذًا قول الوشاة
يذكرني أولئك عشق عمري وما عشقي غريب عن حياتي
فديتك إلف روحي نوليني وصالا مثل سقي للنبات
أراه بلسمًا ينتاب جرحًا تبسم عن جميل الذكريات


          إنه البابطين

          شاعر الحنين والذكريات.

          هارب دائمًا إلى أول دمعة ترقرقت في عيونه حين ظل يرقب عصفورًا يرتعش تحت الأمطار، ينتمي دائمًا إلى ظل الشجر.

          وأول نخلة افترش ظلالها.

          وأول امرأة سكن في عيونها واختبأ تحت خصلات شعرها يهفو أبدًا إلى العشق الأول، وعذرية الصحراء، ويجلس ينتظر النداء ويحاور الأنداء، ويقول: أنا من علم الطيور الغناء.

          إنها تجربة ثرية بالمشاعر الرقيقة والرؤى الرومانسية ولذة الرحيل بين الموانئ واكتشاف الدفء العاطفي والتعاطف الإنساني.

 

علي عبدالفتاح