واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق... دراسة في الشعر الياباني
واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق... دراسة في الشعر الياباني
المؤلف: كينيث ياسودا يقدم هذا الكتاب دراسة في جماليات قصيدة الهايكو اليابانية, وهي أحد الأشكال الأدبية التي تكشف عن سحر الفن الشرقي في اليابان, الذي لا نعرف عنه الكثير. اللافت للنظر في المشهد الثقافي العربي خلال كل عقود هذا القرن الآفل, هو أنه ظل, رغم انفتاحه على الثقافة الغربية بكل فروعها, مستنكفا الانفتاح على سواها من ثقافات الحضارات الشرقية العريقة. فقضايا الشعرية اليابانية, مثلا لم تقدم لأجيال المثقفين والقراء العرب, سابقا وحاليا, إلا على شكل نثار نادر مبثوث في بعض من المجلات والمطبوعات المتخصصة. لذلك, بقيت الخزائن المعرفية في عالمنا العربي تفتقر إلى أي مصادر أو مراجع تتناول مثل هذه التجارب الثقافية والفكرية والجمالية, ذات الغنى الإنساني, الذي لا ينكر. فكل ما ركز عليه المثقفون العرب في هذا الشأن, هو مجرد الحديث, باقتضاب لا يروى ظمأ ولا يشفي غليلا, عن "المعجزة اليابانية" في مجال التصنيع والتكنولوجيا المتطورة التي أصبح العرب من مستهلكي منتوجاتها الأثيرين. أما ما عدا ذلك, فقد ظل المجال الثقافي الياباني بكل غناه وتفرده نسيا منسيا, إلى حد كبير, اللهم إلا عند من غامروا بارتياد حواف وشواطئ ـ حتى لا نقول أعماق ـ تلك العوالم السحرية الغامضة, من بعيد لبعيد, عبر نافذة الثقافة الغربية على الدوام. إذ إن هؤلاء لم يقوموا بمقاربة الموضوع عبر وسائل تعبيره الأصيلة, بل عبر وسيط أجنبي هو عموما اللغة الإنجليزية التي ترجمت إليها الأعمال الأدبية والفلسفية اليابانية, وفي الأعم الغالب من قبل مثقفين وباحثين يابانيين أو بريطانيين أو أمريكيين. لقد أضحت فلسفة الجمال اليابانية التي هي محصلة فكرية لواحدة من القوى المؤثرة في الحضارة المعاصرة, ذات تأثير واسع ليس فقط على مدارس الفكر المتجهة بقوة نحو "التعولم", بل وكذلك على مدارس الفن التشكيلي ومدارس الأساليب الأدبية والشعرية المبتكرة, ومدارس الفنون المسرحية والسينمائية وغيرها. وأصبحت معظم هذه المدارس تستلهم, في العديد من خطوطها, الأفكار و"الأقانيم" الجمالية المستمدة من حضارات الشرق الأقصى, وخاصة اليابان منها, وتولي لها اهتماما متزايدا. لكن مجال الثقافة العربية بقي في كليته تقريبا, أسير النظرة الأحادية المنبهرة بالغرب, ولم يتم فيه إيلاء المكونات الحضارية الأخرى إلا اهتماما ضئيلا. لهذا لم يتم الالتفات عربيا إلى المكونات الأصيلة للثقافة اليابانية, ومن ضمنها قصيدة الهايكو, إلا خلال العشرين سنة الأخيرة. لكنه بقي اهتماما هامشيا, تمثل في مجرد "تلمس طفولي وترجمة تستعير قيم الشعر العربي الذي يولي التشبيه والاستعارة أهمية بالغة فيما الحقيقة غير ذلك, لذا جاءت تلك الترجمة فجة وغير ناضجة". وإلى ذلك فالشعر الياباني لم تصبه صدمة الحداثة الغربية, كما كان الحال مع غيره, بل كان واحدا من العوامل التي ساهمت في انبثاق ما يعرف بـ "الحداثة" الغربية في الأدب والفن, وهو الذي صدم بتفرده وأصالته الذائقة الغربية وليس العكس. انعطافة وأفق أوسع من هنا, يأتي كتاب "واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق", ذو العنوان الناضح بالصور الشعرية, والصادر عن "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" بدولة الكويت, في سلسلته الجديدة "إبداعات عالمية" "فبراير 1999", ليكون, ربما, باكورة حركة التفات جادة نحو عراقة وأصالة الحضارات الشرقية, بما تتضمنه من قيم جمالية وفلسفية وفكرية مشبعة بالقيم الإنسانية الراقية. ولاشك أن اختيار هذا الكتاب المهم الذي يتناول بالدراسة المقارنة جماليات واحدة من أهم خصائص التجربة الأدبية اليابانية أصالة وعراقة وتفردا, ضمن كامل القاموس الشعري العالمي, وهي قصيدة "الهايكو", فاتحة لهذه السلسلة الإبداعية الجديدة. وسيكون هذا الكتاب ـ الذي سهر على ترجمته وتعريب محتواه النقدي والدراسي والشعري بأسلوب شائق وجذاب, الأستاذ محمد الأسعد, الشاعر والكاتب والناقد الأدبي المعروف في الكويت والعالم العربي نقطة ضوء للقارئ العربي تمكنه من رؤية وتلمس بعض من تلك العوالم الأدبية والفكرية الساحرة للحضارة اليابانية الأصيلة. وفي هذا المقام, وقبل أن نتطرق بإيجاز إلى محتويات كتاب "واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق", يجدر بنا أن نشير إلى أن سلسلة "إبداعات عالمية", جاءت لتخلف سلسلة "من المسرح العالمي" التي استنفدت غرضها, لتفسح مجالات أرحب وأوسع للتنوع في الاهتمامات الإبداعية بشتى صنوفها من رواية ودراسة ونقد وشعر وأدب الرحلات وغير ذلك. "واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق", كتاب نقدي مرجعي ليس فقط للمهتمين بفنون الأدب والشعر في اليابان, بل وكذلك للقراء العاديين الطامحين إلى فهم وإدراك وتمثل مختلف الرؤى والأفكار المنبثقة عن فلسفة الجمال, في مختلف صورها الفنية والأسلوبية, وفي مناحيها وأبعادها الإنسانية, ويتجلى ذلك من خلال ما جاء في تفريعة عنوانه "دراسة في جماليات قصيدة الهايكو اليابانية مع شواهد مختارة" قام بتأليف هذا الكتاب في العام 1957 الكاتب والناقد الأمريكي الجنسية الياباني الأصل كينيث ياسودا. وقد عرف رواجا كبيرا بحيث أعيدت طباعته عشر مرات كان آخرها في العام .1991 واللافت للنظر, من خلال مطالعة محتويات هذا الكتاب هو أن صاحبه قد تمكن من إيصال لب فلسفة الجمال اليابانية التي تجد تركيزها الأقوى والأشد كثافة في قصيدة الهايكو. وما يمكن للمرء أن يستشفه ويستخلصه من كل هذا, هو أن اليابانيين لم يفتأوا يصيبون العالم بالدهشة في كل ما انتجوا وينتجون, بما في ذلك أنماطهم الأدبية وفنونهم الشعرية. ومفرداتهم تتمثل في البحث الدءوب عن التركيز والإيجاز و"النمنمة" في شتى نواحي نشاط الخلق والإبداع الذهني والإدراكي المعرفي, حتى في القوالب الفنية الشعرية. إنه السعي خلف القيم الجمالية التي تبوح, عبر شكل بالغ الاختصار والرقة والهشاشة, بحقائق تكاد تكون كونية. وإذا كان هناك من شيء يمكنه أن يكون خلاصة لكل هذه الفلسفة العميقة فهو بلا منازع قصيدة الهايكو. فالشاعر الياباني يظل مستغرقا في مثل هذا الهاجس الجمالي والفلسفي, إلى تلك الدرجة التي تجعله ينظر بقدسية إلى ما يمكنه ابتداعه من قصائد هايكو. لذلك تراه يقتصد تمام الاقتصاد ولا يغرق في التفاصيل, ويبحث عن تلك الالتماعة الخارقة التي يمسكها حدسيا, فيؤبدها في صورة شاعرية بسيطة لكنها تحتوي كل عالمها المحيط بها, ومن ثم لم يقم الشعراء اليابانيون الكبار طيلة حياتهم بنظم سوى قصائد هايكو قليلة جدا, قد تصل عند البارزين منهم إلى أربع أو خمس قصائد. الشعر والفنون الإنسانية إن هذا هو ما يحاول كينيث ياسودا في هذا الكتاب توصيله, انطلاقا من إيمانه بما يمكن أن نسميه "زمن التقاء الحضارات" ومحاولة كل منها فهم ما لدى الحضارة الأخرى. فعبر استعراض متشعب لفلسفة الهايكو تمتلك أرضية مشتركة مع مختلف الفنون الإنسانية, لكن تحكمها طبيعة جمالية أصيلة خاصة بها ونابعة من نسيجها الداخلي, وهي ليست فقط نمطا كلاسيكيا شعبيا يابانيا صرفا, بل إنها امتدت بتأثيراتها إلى ما وراء حدود إمبراطورية الشمس الطالعة, لتجعل الكثير من الشعراء ذوي الباع الطويل في المشهد الأدبي الغربي يتأثرون بها, ويحاولون محاكاته شكلا في غالب الأحيان, حيث كان يصعب عليهم تقمص الروح الشاعرية اليابانية, وما فيها من تراكمات فكرية وفلسفية وروحية. ويشير الكاتب إلى أنه بالإمكان كتابة قصائد هايكو بلغات أخرى, أوربية أو غيرها, وتكون لها ذات المكانة المقاربة لمكانتها عند اليابانيين. ولعل الشاعرين الأمريكيين المعروفين "أزرا باوند" و"آمي لويل" كانا ضمن لفيف من شعراء الإنجليزية, وقعوا في سحر إيقاعات قصيدة الهايكو, ووحدة رؤيتها الشاعرية واستبصارها العميق بكنه الأشياء ومعانيها, والذي يتم الإمساك به وبمدلولاته كلها في صورة شاعرية ذات حدة مطلقة. لكن بالرغم من مكانة هذين الشاعرين في عالمهما الأنكلوساكسوني, فإن قصائد الهايكو التي نظماها بالإنجليزية, لم ترق أبدا إلى مستوى ناظميها الأصليين من كبار الشعراء اليابانيين. إن قصيدة الهايكو, ذات القصر المفرط, "ثلاثة أسطر مشكلة من سبعة عشر مقطعا صوتيا, ومرتبة كما يلي: خمسة, سبعة, فخمسة" هي التعبير المركز عن تلك الصورة الشاعرية المختصرة التي توحي ولا تصرح, تشير إلى الفراغ ولا تملؤه, تركز عنايتها على بدايات الأشياء ونهاياتها, لا تهتم بلحظات التمزق والصراع بل بلحظات الصفو والاستنارة. يغوص بنا الكاتب كينيث ياسودا إلى منابع هذا النمط من الشعرية اليابانية, ويقودنا عبر مختلف وجهات النظر التي أبداها نقاد الأدب وكذلك الفلاسفة اليابانيون منهم والغربيون في القضايا التي يطرحها علم الجمال بخصوص قصيدة الهايكو التي ظهرت في القرون الماضية, ولم تتخذ شكلها المتكامل وتنال شهرة اسمها إلا منذ قرن ونيف, على يد الشاعر والناقد الياباني ماساوكاشيكي. وعند مقاربة قصيدة الهايكو أشار الكاتب إلى جمالها الأخاذ وطبيعتها اللماحة, وإلى استعصائها, مثلها في ذلك مثل معظم الأشكال الفنية المتفردة, على التعريف, حيث مال النقاد في الماضي إلى وصفها بكونها غير ذات أهمية كبيرة وغير منطقية, وهذا لأسباب متعددة لا علاقة لها بوظيفتها ولا بتثمين منجزاتها, لكن سرعان ما وجدت من ينتصر لها من بين نقاد الأدب ودارسيه في اليابان, من أولئك الذين ظلوا منذ الأزمان القديمة يمتلكون الإحساس بالصفاء والبهجة ويسعون إلى معرفة كنه الأشياء ومصائرها. ومن هناك انطلقت قصيدة الهايكو, لا لتحتل فقط مكانتها اللائقة بها في اليابان فحسب, بل ليهتم بها بقوة كبار الشعراء والنقاد في الثقافة الغربية, ويشرعوا في محاكاتها وتلبس عوالمها الساحرة. الرسم بالكلمات إن أهم ما يميز أي قصيدة هايكو هو دفعها لناظمها ولسامعها على السواء, باتجاه التجربة الجمالية واستثارة ذلك الحدس العصي عن الوصف لدى كل واحد منهما, والتحكم في إقباله العفوي أو نفوره العفوي, وهذا قبل أن يشرع بعدها في عملية التقييم والمحاكمة العقلية. ولعل أجمل توصيف لعوالم قصيدة الهايكو هو هذا الذي ساقه المؤلف كينيث ياسودا, ليقرب به تلك العوالم إلى الأذهان: "في كل مرة أنظر فيها إلى رسم قديم على الحرير الناعم لرسام صيني كبير من عصر "تانغ", وبخاصة ذلك المرسوم بلون واحد بالحبر الصيني المسمى "مو", وبريشة رسام مثل "وانغ وي" أو أحد رسامي عصر "سنغ" أجد نفسي منبهر النفس من شدة الإعجاب, وعاجزا عن الكلام. إن تأثير صورة باللونين الأسود والأبيض, وبتدرج لطيف من الأبيض إلى الأسود, لهو أحد التأثيرات الصوفية والمتع الفائقة. هذا الرسم ـ على خلاف التصوير الملون ـ يملأ الفراغ دون أن يملأه. ويشبه هذا مشهد الزورق الصيني ذي المجاذيف وهو يبرز خلال الضباب الفضي على نهر "اليانغتسي" بينما تظهر الخطوط الخارجية الباهتة للجبال البعيدة على أرضية الرسم, وتطفو خطوط "الباغودا" الأكثر سوادا خلال وفوق الضباب الذي غطى الوادي الغني". من هنا, تبدو لحظة الهايكو متركزة في حيز الاستبصار الحاد المطلق الذي يجعل الشاعر يستحوذ على حدسه بكليته. ولذلك, كما يقول الناقد الياباني آسوجي آسو, فإن "ما يحكم هذا الفن "فن الهايكو" ليس المفهوم ولا المنطق ولا الشعور أو العقلانية. وحتى لو وجدنا فيه فكرة, فستكون شيئا متغلغلا في ثنايا العمل الفني كله مثل الهواء". إن نهج الهايكو هو التهيؤ الوجداني لتلقي تجربة في حد ذاتها, لا تكمن قيمتها خارج موضوعها. وفيما يتم التركيز على قضايا فلسفية عميقة مثل النزاهة والتواضع إزاء الطبيعة, حيث إنه يمكننا, كما يقول الشاعر والمنظر "الهايكوي" الياباني أوتسوجي, أن نكون أحرارا وبلا خشية عندما لا ننفصل عن الطبيعة, وعندما لا نلج تخيلا تافها أو نقع في قبضة التأمل. وهكذا, فعبر صفحات هذا الكتاب الثلاثمائة والخمسين, دون الهوامش, يسيح بنا كينيث ياسودا في مختلف عوالم قصيدة الهايكو, شكلا ومضمونا وتاريخا, مستعرضا مختلف أنماط مقاربتها جماليا وعروضيا, عاقدا المقارنات تلو الأخرى بين فلسفات الجمال الغربية والشرقية, مستشهدا بمدارسها وبأساطينها ومنظريها. مطبقا ذلك على نصوص شعرية "هايكوية" مختارة. ولعل القارئ سيخرج بعد إكمال قراءة هذا الكتاب بفكرة متكاملة الجوانب, ليس فقط عن فن قصيدة الهايكو, ولا عن مختلف فنون الشعر الياباني الأخرى, بل وكذلك بفكرة معمقة عن فلسفة الجمال بمختلف تجلياتها, وعن أساليب التحليل الجمالي والأدبي برمته في المدارس الأدبية العالمية. ويمكن للقارئ في نهاية المطاف أن يلمس كل ذلك مجسدا في الشواهد المختارة من قصائد الهايكو التي احتلت خاتمة الكتاب. وما يمكن ملاحظته في تلك القصائد هو أن مترجمها قد وفق تمام التوفيق في نقل جوها الشاعري الأصلي بكل الدقة والأمانة إلى اللغة العربية, مستعينا في ذلك برصيده كشاعر وناقد أدبي يمتلك إلماما بالثقافة العربية وبتيارات التجديد والتحديث في الثقافة العالمية بكاملها, لهذا كانت ترجمة تلك القصائد محكمة إحكاما شعريا عاليا, وتنضح بالمناخات الشاعرية الأصيلة.
|