الجمال في تراث العرب

الجمال في تراث العرب
        

          طالعت بمجلة العربي العدد «586» - سبتمبر 2007 مقالاً عنوانه: «ما معني كلمة الجمال؟»، وأود هنا أن أضيف إلى ما ورد في هذا المقال:

          أن الجمال ثالث ثلاثة من القيم الخالدة التي شغلت الفكر البشري منذ بدأت المسيرة الإنسانية على ظهر الأرض لتتحقق الرسالة التي من أجلها خلق الله الإنسان وهي العبودية الخالصة له وحده وهذه القيم الثلاثة هي: الحق والخير والجمال.. والجمال له جانبان: حسي ومعنوي وقد فشل الفكر الإنساني تماما في وضع مقاييس ثابتة لهما جميعًا. فالجمال هو ما يحرك قلبك حُسنه ولكن هيهات قلب من ؟ الجمال إذن شيء نسبي وإدراكه يختلف باختلاف الشعور . لذلك فإن الجمال يتوقف على نظرة الناظرين إليه .

          وقد اتخذت ظاهرة الجمال في الفقه العربي الجاهلي مغزى تجريبيًا في استنتاج الأذواق الحسية بمعنى النظرة السائدة في تقويم المنظور القديم لمعنى الجمال، إذ كان العرب يربطون النظرة الحسية بوصف الطبيعة والمرأة. غير أن وصف المرأة كان له الحظ الأوفر من الإعجاب ولا غرابه في أن يكون تعبيرهم نابعًا من إحساسهم في تحقيق التكامل بين معطي النفس وملامح الطبيعة وفقا لما تفرضه الصورة الحسية من نقل المشاعر الداخلية وما شابه ذلك من المظاهر الخارجية وفي صورها الشكلية الظاهرة. ولعل إدراكهم للعالم الخارجي الملموس في نتاجهم الفني يجعلنا نتأكد من تأثير الصورة الخارجية في عالم الفنان العربي الجاهلي الداخلي، كما نجده عند كثير من الشعراء في مثل قول النابغة الذبياني:

قامت تراءي بين سجفي كله كالشمس يوم طلوعها بالأسعد


          وقوله:

بيضاء كالشمس، وافت يوم أسعدها لم تؤذ أهلا ولم تفحش على جار


          هذا عن النظرة الحسيه للجمال عند العربي الجاهلي، أما عن التجربة الداخلية للجمال (الجمال المعنوي) فنراها تتمثل في فضائل عدة منها الكرم والشجاعة والصبر والبطولة والذكاء والفطنة وغير ذلك من الصفات الحميدة.

عناية الإسلام بالجمال

          لملاحظة الجمال والاهتمام به موقع مرموق في الإسلام، وتتمثل قمة الجمال في القرآن الكريم الآسر الذي لم يملك العرب حين سمعوه إلا أن يعلنوا انصياعهم له، ويتضح أن الكلمة الواحدة كانت تأخذ بمجامع القلوب فقد سمع أعرابي قوله تعالى فاصدع بما تؤمر  فذهب به الفكر كل مذهب في استحضار جوانب الروعة في فعل «اصدع» فلم يتمالك إلا أن سجد فقيل له: لم سجدت ؟ فقال سجدت لجماله. وعلى نحو ما كان القرآن حريصا على تربية الذوق الجمالي في الإنسان المسلم كانت حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالاً تطبيقيًا لما دعا إليه القرآن الكريم، فقد كان صلى الله عليه وسلم معتنيًا بمظهره، فكان يقص شعر لحيته، ويأخذ من طولها وعرضها بما يتناسب مع خلقته، وهو القائل إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال . رواه مسلم.

          وكان صلى الله عليه وسلم يتأنق في ملبسه نوعًا وخياطة ولونًا، فإذا لبس صلى الله عليه وسلم البرود اليمانية بعث بملابسه إلى مَن يخيطها في بني النجار، إذا كان منهم مَن يتقن الخياطة، وكان يكره لنفسه ولأصحابه تعمد اختيار الألوان الصارخة الجالبة للأنظار، فكان ينهى عن لبس الأحمر غير المشوب بغبرة، كما كان يختار ألوانًا خاصة بمناسبات خاصة لما يوحي به اللون من طبيعة الموقف، فقد دخل مكة معتمًا بعمامة سوداء للإشعار بجدية الموقف، كما كانت تصرفاته صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي ما يأمر به المؤمنين تراعي مقتضيات الجمال والانسجام إلى الحد الذي أكسب فيه هذا الإحساس بالجمال المسلمين بالجمال. يقول الإمام الغزالي: «لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسنات الله وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده، سواء أدرك هذا الجمال بالحواس أم بالعقل، وجمال الله سبحانه وتعالى أكمل الجمال»، ويقول الفارابي: «المعشوق منا هو الفضيلة والجمال وليس العاشق منا الجمال والفضيلة».

اختلاف بيّن

          ذهب العرب في تعريف الجمال مذاهب شتى، فقال قوم إن الحسن يعتبر بلون الوجه والجمال يلاحظ بصورة أعضائه والملاحة هي التي تجمعهما، فكل مليح يكون حسنًا وجميلاً معًا، وليس كل حسن جميلاً، ولا كل جميل حسنًا، والجميل الحسن هو الذي يأخذ بالبصر عن البعد، فإذا دنا لم يكن كذلك، والمليح هو ما يأخذ القلب عن القرب والبعد. يقول الثعالبي في فقه اللغة: « الحسن في الوجه صباحة وفي البشرة وضاءة وفي الأنف جمال وفي العينين حلاوة وفي الفم ملاحة وفي اللسان ظرف وفي القد رشاقة وفي الشمائل لباقة وكمال الحسن في الشعر».

          ويخطئ البعض ويخلط في تعريف الحسن والجمال والملاحة كقول الشاعر:

وجه غاية الجمال ولكن فعله غاية لكل قبيح


          فقد جعل الشاعر القبح ضد الجمال وهو ضد الحسن، فالجمال ضده الدمامة والحسن ضده القبح، والفرق بين الملاحة والجمال أن الجمال لا يحوزه إلا امرئ معتدل القوام متناسب التقاسيم، وفيه مع ذلك شيء من الفتنة، أما الملاحة فصاحبها خفيف الروح عذب النفس رشيق الحركة وإن كان صاحبها معتدل التقاسيم وليس به شيء من الفتنة. ويقول سيبويه: «الجمال رقة الحس»، ويقال إن الجمال ما يدرك بالنظرة الأولى وهو يتعلق بالشكل العام، والحسن يتناول الأجزاء بالتفاصيل ويعرف بتكرار النظر وكثرة التأمل ودقة الملاحظة والملاحة وعذوبة النفس وحلاوة الروح وخفة الدم والظل .

          وقد رأى العرب أن البياض آية الملاحة والجمال إذا مازجه الصفرة والحمرة .

          يقول عمر بن الخطاب «إذا تم بياض المرأة وحسن شعرها فقد تم حسنها» وقالت عائشة «البياض شطر الحسن». ويقول أبو الفرج الأصفهاني «يمازج البياض لونان يزيدانه حسنًا هما الحمرة والصفرة» وغالى فريق في الصفرة فجعلها عنوان جمال المرأة البيضاء، وقالوا إن الجارية الحسناء تتلوّن بلون الشمس، فهي بالضحى بيضاء وبالعشي صفراء ومن هؤلاء ذو الرمة فهو يقول:

بيضاء في دعج صفراء في نفج كأنها فضة قد مسها ذهب


          وهناك فريق آخر فضل بياض الحمرة، فجعلوا صفة الحمرة اسمًا لحسان النساء، من هذا الفريق جرير الشاعر عندما سئل عن الأخطل فقال: هو أوصفنا للحمر، أي للحسان الجميلات من النساء ومن الأمثال «الحسن أحمر» قال أحد الشعراء:

هجان عليها حمرة في بياضها يروق بها العينين والحسن أحمر


          الجمال الأسمر: روى أبو علي القالي في كتابه «الأمالي» قال: أتى رجل ابنة الخس يستشيرها في امرأة يتزوجها فقالت: «انظرها ركماء جسيمة». الركماء:

          السمراء. وشبه أحد الشعراء السمرة بذوب كافور بمسك فقال:

كيف لا أعشق ظبيا سارحًا في ظل حلك
إنما السمرة فيه ذوب كافور في مسك


البدينة الفاتنة

          الصورة المحببة للمرأة في الشعر العربي هي المرأة الطويلة البيضاء البدينة سمراء الشعر والعينين رقيقة الرائحة طيبة الملمس ثقيلة الخطو والحركة.

          روي عن بعضهم أنه قال لرجل أراد أن يتزوج «استوثر فراشك»، أي اختر السمينة من النساء، والبدانة سمة من سمات الخصوبة في المرأة، وشرط من الشروط الأساسية، التي وضعها العرب، التي يجب أن تتوافر في المرأة حتى تكون أما تقوم بوظيفتها على أكمل وجه.

          والبدانة من أهم مقاييس الجمال العربي، فقد كانت المرأة العبلاء هي المرأة الجميلة في نظر العربي، والعبلاء هي من كان أعلاها خفيفًا وأسفلها كثيبًا، وكانوا يتعوذون بالله من المرأة النحيفة الزلاء (خفيفة الشحم) «أعوذ بالله من زلاء ضاوية كأن ثوبيها علقا على عود» ويصف العرب المرأة البدينة بخرساء الأساور، حيث تمتد البدانة إلى الرسغ فتمنع ارتطام الأساور فتصبح خرساء.

          وعلمت العرب أن العيون سر الجمال وآيته وغايته، فهي قاتلة بجمالها، آخذة بألباب الرجال، وهذا هو بشار بن برد يأتي في مقدمة الشعراء العرب الغزليين الذين أطنبوا في وصف الجمال، ويقال أن أدق وصف لجمال المرأة جاء في قوله:

حوراء خالط التفتير في أجفانها الحورا
يزيدك وجه حسنا إذا ما زدته نظرا


          ومن صفات العيون الجميلة في نظر العرب:

          1) الحور: وهو شدة بياض العين في شدة سواد سوادها، هو أحور وهي حوراء بينة الحور. قال تعالى {حور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون} والحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين، وقال مجاهد: الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد وصفاء اللون. وقال ابن عباس: أن الحور في كلام العرب البيض وقال مقاتل الحور بيض الوجوه.

          2) التفتير: طرف فاتر وبه فتور وهو الذي يزيد استحسانه حتى يسترخي له من ينظره وهو الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله {وعندهم قاصرات الطرف عين}.

          3) الدعج: شدة سواد العين وشدة بياضها مع سعتها وعين دعجاء بينة الدعج قال كثير عزة:

سوي دعج العينين والدعج الذي به قتلتني حين أمكنها قتلي


          4) التبرج: سعة بياض العين، وعظم المقلة، وحسن الحدقة، وهو أبرج وعين برجاء بينة البرج، قال ذو الرمة:

كحلاء في برج صفراء في دعج كأنها فضة قد شابها ذهب


          5) الكحل: هو أن يعلو منابت الأشفار سواد خلقة وأن تسود مواضع الكحل. قال المتنبي: «ليس التكحل في العين كاكحل».

          وقال صريع الغواني:

كحلاء لم تكتحلها بكاحلة وسنان الطرف ما بها وسن


          6) النجل: سعة العين وحسنها وهو أنجل وهي نجلاء «عين نجلاء أي واسعة».

          وقال مجنون ليلى:

زرعن الهوى في القلب ثم سقينه صابا ماء الشوق بالعين النجل
رعابيب ما صدن القلوب وإنما هي النبل رشت بالفتور والكحل


          يقول الحكيم العربي عن الجمال «إذا حسن من المرأة خفاياها حسن سائرها صوتها ومشيتها وهذه هي بعض السمات المشتركة بين النساء الجميلات في نظر العربي: بهاء الصحة، الشعر اللامع البراق، الصوت الخافت العذب، المشية المطمئنة، القد المعتدل، الشخصية التي تفيض بالمرح والسعادة والشوق إلى المعرفة وقوة الأخلاق وثباتها والثقة بالنفس وإرسالها على سجيتها فإذا اجتمعت في المرأة كل هذه الصفات فهي أجمل نساء العالم وأكثرهن جاذبية على الإطلاق».

صلاح عبد الستار الشهاوي
طنطا - مصر