السينما العربية بين التحرر الوطني والحداثة

السينما العربية بين التحرر الوطني والحداثة
        

السينما وقضايا المجتمع والذات

السينما وسيلة مثلى للتعبير. تعيد صياغة العالم، وتكشف عن الهموم الداخلية للذات، وقد جربت السينما العربية مختلف الوسائل للتعبير عن قضايا المجتمع دون أن تنسى الكشف عن روح الفرد في مواجهة المجتمع. إن مائة عام من السينما العربية تطرح علينا كثيرًا من القضايا.

          هل يمكن اعتبار السينما الروائية مرآة للمجتمع، أي أنها تعكس على شاشتها أنماط السلوك، والمواقف الجماعية التي تُسمى عادة «الرأي العام»؟ أم أنها تقوم بتوجيه المجتمع، أي بتحفيزه على تبني قيم وأنساق بعينها، بمعنى أنها تشكل الرأي العام ولا تعكسه؟

          الحقيقة أن السينما الروائية، بسبب كونها أكثر الفنون شعبية في عصرنا الحديث، تلعب الدورين معًا، أي أنها تعكس ما يدور في العالم خارجها، لكنها تُعيد صياغته وتوجهه لخدمة أهداف محددة تعبر غالبًا عن الأفكار السائدة، أو عن رغبة تتسع في التمرد على تلك الأفكار، وعادة ما تروج لأحلام وطموحات تموج في وعي جمهورها، أو تتعلق بأمور تخص محيطه الاجتماعي.

          انظر مثلاً إلى أفلام الحرب العالمية الثانية في السينما الأمريكية، ستجد أن هوليوود - على الرغم من ثبات المصالح التي تعبر عنها - قد غيرت مواقفها من تلك الحرب كما صورتها أفلامها. فقد أنتجت في الأربعينيات أفلامًا تمجد من دور الحلفاء وتدافع عن مشروعية حربهم، يظهر فيها اليابانيون مثلاً كوحوش يستحقون هزيمة مروعة. هذا ما فرضته اللحظة وقتها، فالحرب مندلعة بالفعل، والطبقات الحاكمة تحتاج إلى حشد الشعوب وراءها، كذلك تحتاج الشعوب إلى ما يبرر لها تضحياتها. وفي العقد الأخير عادت هوليوود لإنتاج أفلام عن الحرب العالمية («إنقاذ الجندي ريان»، و«خيط رفيع أحمر»، إلخ)، تعرض صورًا مختلفة. سنجدها تطرح بوضوح تساؤلاً حول مشروعية الحرب، ويظهر فيها اليابانيون بشرًا يدافعون عن أنفسهم، مما يستدعي نظرة أعمق للأمر. هذا التغير يعكس بالطبع ميول الجماهير الغربية اليوم، الرافضة للحروب الاستعمارية، لكنه يعكس أيضًا نظرة عدمية تجاه الحرب - العدمية التي سنشعر بها ونحن نتابع الأفلام الحديثة عن الحرب العالمية، وعلى عكس مثلاً الأفلام الأمريكية الرافضة لحرب فيتنام في السبعينيات («هير»، و«ويوم القيامة الآن»، إلخ) -هذه العدمية تعبير عن توجه أيديولوجي تحاول هوليوود تمريره، بأن الحرب - على الرغم من كل شرورها - قدر تاريخي لا يمكن تجاوزه.

          ماذا عن السينما العربية؟! كيف عرضت لنا الحروب الاستعمارية ومعركة التحرر الوطني، بصفتنا الطرف الواقع عليه العدوان؟

          وهل خضعت رؤيتها إلى الاستعمار الغربي للتغير طبقًا للتحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بنا؟ وهل عكست رؤيتها تلك الوعي السائد لدى جمهورها، وتوجهات الأيديولوجية الرسمية، أو الأيديولوجية المتفق عليها؟ الحقيقة أن الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى مساحة أكبر بكثير من هذا المقال بسبب التنوع الهائل للإحالات والصور التي قدمتها السينما العربية حول المعركة ضد الاستعمار، وتاريخ الوجود الأوربي في بلادنا، وردود فعلنا عليه. هناك بالطبع أعمال سينمائية ذات شأن عرضت صورًا عديدة لهذا الأمر: «الناصر صلاح الدين» (1963)، و«معركة الجزائر» (1966)، والعشرات غيرهما. إلا أن هذا المقال لن يتعرض لتلك النماذج، بل سيحاول فقط رصد بعض الملامح في السينما العربية، التي تقع - إذا جاز التعبير - على هامش الأمر، تحديدًا تلك التي جسدت التناقض ما بين التحرر الوطني والحداثة في ثقافتنا المعاصرة.

          فالمعركة ضد الاستعمار لم تكن دائمًا معركة حداثية، أي قائمة على مشروع للنهضة والتحديث، على العكس، سنجد العديد من مراحل نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار يغلب عليها طابع معادٍ للحداثة. والسبب بسيط: الحداثة في وعي الجماهير العربية كانت قرينًا للاستعمار، لقد دخلا معًا إلى بلادنا. هذا ما حدث في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، فقد ارتبط التحديث في البنية التشريعية، والتصنيع، والتطور التكنولوجي، وبناء المؤسسات التعليمية والعلاجية، إلخ، بالاستعمار. بالإضافة إلى شيوع «التفرنج» في السلوك الشخصي لدى الطبقات التي حكمت في ظله، فالأفكار الليبرالية والتحرر الفردي لم ينتجا عن التطور الطبيعي للمجتمعات العربية، كما حدث في أوربا في قرون النهضة، بل كانا وافدًا دخيلاً أتى مع الاستعمار، وتبنته المجموعات والطبقات التي تحالفت معه واعتبرته مثالاً لها.

          لذا، شهد مطلع القرن العشرين استقطابًا ما بين النضال ضد الاستعمار والسعي من أجل الحداثة. ظهر ذلك مثلاً في مصر في اتجاهين سياسيين متصارعين: قاد الأول مصطفى كامل وحزبه الوطني معبرًا عن أقصى الميول الوطنية الراديكالية ضد الاستعمار البريطاني، ومتبنيًا في الوقت ذاته مواقف شديدة الرجعية تجاه مسائل التحديث، بل واتخذ الدولة العثمانية وقتها مرجعية وسندًا.

          أما الاتجاه الآخر فقاده أحمد لطفي السيد وحزب الأمة معتبرًا أن الاستعمار يلعب دورًا رئيسيًا في التحديث، وبالتالي يصبح التحرر الوطني مهمة مؤجلة في مقابل القضاء على مظاهر التخلف المتمثلة في الأنماط والأطر الرجعية القائمة.

          وخلال الفترة نفسها ظهرت في الشام لأول مرة فكرة القومية العربية بالمعنى الحديث، كمشروع حداثي في مواجهة الدولة العثمانية التي كانت تهيمن في كل المشرق العربي. إلا أن أصحاب هذا المشروع ساعتها كانوا يرون فرص تحققه قائمة على الاستعمار الأوربي (الفرنسي تحديدًا)، وهكذا تأسست المنظمة «العربية الفتاة» في باريس، كما قام شوام مصر - المنفيون من الشام وقتها - بتأسيس الحزب المناهض للمركزية العثمانية، الذي وجه نداءً إلى الفرنسيين طلبًا لدعمهم السياسي، هذا الحزب الذي ضم أعلامًا ذوي شأن كرشيد رضا. وفي باريس عام 1913 عُقد المؤتمر العربي الأول تحت رعاية الحكومة الفرنسية، للتصدي لسياسات جمعية «الاتحاد والترقي» التي كانت تحكم الدولة العثمانية وقتها.

          باختصار شهد مطلع القرن العشرين في بلادنا انقسامًا ما بين الحركة المناهضة للاستعمار، والحركة المطالبة بالتحديث. وظل هذا الانقسام قائمًا لفترات عديدة، تندمج الحركتان أحيانًا ثم تنفصلان ثانية. ولم يحدث تزاوج حقيقي بينهما إلا مع مشروع النهوض القومي بدءًا من منتصف القرن العشرين، الذي أصيب هو الآخر بانتكاسات تالية. لذا، لعبت العلاقة ما بين التحرر والحداثة دورًا مهمًا في تشكيل تناقضات الوعي لدى الجمهور العربي على امتداد القرن العشرين. وبالطبع انعكست تلك التناقضات داخل السينما الروائية، التي أعادت صياغتها ووجهتها طبقًا للأيديولوجية السائدة في كل مرحلة.

المرأة الأجنبية تجسيد لمعضلة الحداثة

          كثيرًا ما سنجدها امرأة لعوبا، تخطف الرجال وتمارس كل أنواع الرذائل، أو على الأقل هي امرأة مثيرة للفتن حتى دون قصد منها،فسلوكها المتحرر هو ما يحاول الغرب أن يزرعه في حياتنا باسم الحداثة، حتى يقضي على نخوتنا ويهدر قيمنا، فيصعب علينا بالتالي التحرر منه. تطل علينا هذه الصورة بوضوح فج مع بدايات السينما العربية في الثلاثينيات والأربعينيات. وصل الأمر في مصر مثلاً أن أقامت الممثلة الفرنسية كوليت دارفوري، ومعها عدد كبير من الأجانب المقيمين في مصر وقتها، دعوى قضائية على يوسف وهبي احتجاجًا على صورة المرأة الأجنبية كما ظهرت في فيلم «أولاد الذوات» (1932)، الذي قامت ببطولته كوليت مع يوسف وهبي وأمينة رزق، حيث ارتبط الزوج المستهتر بالفتاة الفرنسية، وهجر زوجته ليرحل مع عشيقته إلى فرنسا، وهناك اكتشف أنها تخونه فيقتلها وهو يلقي خطبة عصماء عن فساد البنات الأجنبيات وعهرهن.

          أصبحت هذه الصورة ملمحًا متكررًا بتنويعات مختلفة في أفلام مصرية عديدة في بدايات السينما: السائحة البرازيلية في «ليلى» (1927)، الزوجة مارجريت في «وخز الضمير» (1931)، الراقصة ميراي في «أنشودة الفؤاد» (1932)، ابنة السائح الأمريكي في «شالوم الترجمان» (1935)، والكثير غيرها من الأفلام. وقد تختلف الصورة أحيانًا، فالمرأة الأجنبية لم تكن بالضرورة مخادعة، لكنها دائمًا ما تسبب الفتن بسبب تحررها، وسنجد هذا الملمح في معظم بدايات السينما في البلدان العربية خلال الثلاثينيات والأربعينيات. في الفيلم التونسي «عين الغزال» (1924) تهرب ابنة الضابط الفرنسي مع الشاب التونسي الفقير، وينتهي الأمر بسجنه وانتحارها. وفي الفيلم السوري «تحت سماء دمشق» (1934) يشك الطبيب السوري في خطيبته الأجنبية بسبب سلوكها، ويقتل الشاب الذي يشك أنه على علاقة بها، على غير الحقيقة. وفي الفيلم اللبناني «بين هياكل بعلبك» (1934) تتسبب السائحة الأجنبية التي أحبها الأمير العربي في القطيعة بينه وبين أهله لرفضهم نمط حياتها، وينتهي الأمر برحيلها. وفي الفيلم العراقي «ابن الشرق» (1946) تنجح المصرية المتفرنجة في غواية الشاب العراقي الذي يدرس في القاهرة، وإبعاده عن خطيبته المصرية الأخرى (الفتاة الشرقية المحبة المخلصة)، حتى يكتشف طبيعتها المتفرنجة اللعوب فيتركها. وبالطبع تجاوز الملمح صورة النساء الغربيات، وامتد في كثير من الحالات إلى الشرقيات المتفرنجات، اللواتي ينتمين للفئات المترفة الحاكمة المرتبطة بالاستعمار، والتي تتخذه مثالاً لها في سلوكها الشخصي.

          إنها ثلاثينيات القرن العشرين، حيث تموج أوربا بالثقافات التقدمية والمتحررة، التي تعكس زخم الحركات الواسعة لجماهيرها في مواجهة الفاشية الصاعدة والطبقات الحاكمة المحافظة، بينما تنطلق شرارات التحرر الوطني في عالمنا العربي على الجانب الآخر من البحر الأبيض، في مواجهة مع الاستعمار الأوربي. لذا صارت أنماط السلوك المتحررة تشكل المقابل الموضوعي للاستعمار في أعين شباب الطبقات الوسطى العربية الجديدة، الذين خرجت من بين ظهرانيهم حركات التحرر الوطني الوليدة. هكذا شقت النزعات الدينية المحافظة مجراها وسط حركات التحرر، لتضفي عليها طابعًا محافظًا معاديًا للتحديث.

          والحقيقة أن الحركات الغربية هيمنت على كل روافد التحرر في الحركات الوطنية الراديكالية، وحتى اليسارية منها، تلك التي من المفترض أنها الأكثر قربًا لمفاهيم التقدم والتحديث الغربيين. وبالطبع شكل موضوع المرأة تجسيدًا بسيطًا ومباشرًا للمعضلة من وجهة نظر المجتمعات العربية، المشبعة تاريخيًا بقيم ذكورية وأفكار محافظة تجاه النساء.

          هكذا بات الاقتران ما بين الاستعمار والحداثة، في ذلك الوقت، يجد أرضًا خصبة في مسألة المرأة. وعكست السينما الروائية الأمر عبر التأكيد المتواصل على الفوارق ما بين المرأة الشرقية المثالية، المحافظة الوفية المحبة المخلصة، التي لا يشغلها أمر عن رعاية زوجها وأبنائها، وبين المرأة الغربية، أو الشرقية المتفرنجة، المتحررة اللعوب المخادعة، والمثيرة للفتن.

          ولم يختلف الأمر كثيرًا على امتداد العقود التالية، حتى بعدما تم المزج بين التحرر الوطني والحداثة في رؤية ثقافية واحدة بدءًا من منتصف الخمسينيات. صحيح أن نموذج المرأة المثالية (الإيجابية) تجاوز ساعتها حالة ربة الأسرة الوفية، وصارت هناك نماذج جديدة من نوع المرأة العاملة، والمرأة المناضلة السياسية، إلخ، لكن ظلت صورة المرأة الغربية المتحررة تعكس في أحيان كثيرة نوعًا ما من الاستهتار، على الأقل في سينما المشرق العربي، ففي سينما المغرب العربي اختلفت الصورة بدرجة بسبب تفاعل أفلامها مع حياة المهاجرين العرب في فرنسا، وربما تعكس استمرارية هذا الملمح في السينما العربية عدم تجاوز مجتمعاتنا حتى الآن لمعضلة الحداثة حول قضايا المرأة تحديدًا.

المصالحة الاجتماعية شرط للنهوض القومي!

          بعد حرب السويس عام 1956 أصبح التحرر الوطني قاطرة الأحداث، فالزخم الذي أحدثته المعركة امتد بسرعة من الخليج إلى المحيط، وكأنها بداية النهاية للاستعمار، فاتحًا الباب أمام مشروع جديد للنهضة مبني على منظور الوحدة القومية العربية. وهكذا تحول المشروع التحديثي القومي العربي الذي انطلق في مطلع القرن إلى السلاح الرئيسي في معركة التحرر. إلا أن هذا الزواج الجديد، ما بين التحرر الوطني والحداثة، ما كان له أن يستمر إذا لم تتجاوز مفاهيم الحداثة المعنى الضيق للسلوك الشخصي المتحرر - المرتبط بالطبقات الحاكمة القديمة - لتطرح أبعادًا اجتماعية أكثر عمقًا، حتى يمكن ضمان احتشاد الجماهير وراءها. لذا، أصبح التحديث الاقتصادي والاجتماعي: التنمية، والتصنيع، والإصلاحات الاجتماعية، وتقريب الفوارق الطبقية، والتوسع في التعليم المجاني، إلخ - جزءًا مركزيًا في مشروع النهضة القومية الحداثي المعادي للاستعمار.

          لكن تظهر هنا معضلة جديدة: صحيح أن الأفكار التي تروج لها القوى الجديدة تدفع في اتجاه الإصلاحات الاجتماعية، لكنها بحاجة إلى أن تدفع في الوقت ذاته في اتجاه المصالحة الاجتماعية. فالمشروع القومي (التحرري - الحداثي) يحتاج إلى وأد الصراعات الاجتماعية في مهدها ومنعها من التفجر، حتى يضمن الاستقرار المطلوب لمواجهة الاستعمار وتحقيق التحديث. هذا التوجه الجديد للأيديولوجية الرسمية تحول إلى ملمح لافت في العديد من الأفلام العربية التي شهدتها الفترة ما بين 1956 و1967، حيث قدمت تلك الأفلام حلاً للمعضلة بتخلي الطبقات الحاكمة القديمة عن ترفها ونزقها برضاها تحت تأثير الضغوط التي تعيشها، والتصالح مع المجتمع الجديد بالاندماج فيه، أي التخلي عن النمط الغربي في السلوك الشخصي المستهتر والمترف (الحداثية القديمة) وتبني نمط جديد لشخصيات منتجة وفاعلة (الحداثية الجديدة)، وبالتالي إنهاء الفوارق الطبقية بالتصالح وبما يسمح بنهوض مجتمع من المنتجين المتساوين.

          ربما يكون فيلم «الأيدي الناعمة» (1963/ إخراج محمود ذو الفقار) أشهر الأمثلة على ذلك الملمح في السينما المصرية، فالبرنس شوكت، سليل الأسرة المالكة القديمة المصدوم بحداثة المجتمع الجديد، يقرر في النهاية التخلي عن غطرسته وسلوكه الترفي، والتحول بإرادته إلى إنسان منتج ومندمج. سنجد كذلك العديد من الأمثلة الأخرى. هكذا ينتهي «بين إيديك» (1960/ ليوسف شاهين) بتخلي برلنتي هانم عن أفكارها الخاصة بالفوارق الاجتماعية، والموافقة على تزويج قريبتها للنجار البسيط، بينما تنجح معركة القناة في تحرير الشقيق الأكبر في «لا تطفئ الشمس» (1961/ لصلاح أبو سيف) من إرث التقاليد الأرستقراطية، ودفعه مع أخواته للاندماج في المجتمع الجديد، كذلك ينتهي «النظارة السوداء» (1963/ لحسام الدين مصطفى) وقد تحولت ماجي، الأرستقراطية التي تعيش بلا هدف، إلى صاحبة قضية تدافع عن حقوق العمال، أما ناهد بطلة «فجر يوم جديد» (1965/ ليوسف شاهين) فتتحرر من أسر طبقتها البائدة، وتتحول لامرأة جديدة بسبب حبها لطارق الطالب الفقير، كما تدفع معركة القناة أيضًا عيسى الدباغ بطل «السمان والخريف» (1967/ لحسام الدين مصطفى) إلى التصالح مع العهد الجديد، والتخلص من حياته السابقة. ويظهر هذا الملمح أيضًا بطريقة أقل وضوحًا في أفلام مصرية أخرى عديدة أنتجت خلال تلك الفترة.

          سنجد كذلك اقترابًا من هذا في بعض الأفلام العربية، غير المصرية، التي ظهرت وقتها، تحديدًا تلك التي أنتجتها مؤسسات السينما الحكومية. حيث يتخلى شباب الطبقات الثرية القديمة عن ميراث طبقتهم، ليندفعوا في ركب الثورات والمجتمعات الجديدة وهم يدافعون عن التحرر والإصلاحات الاجتماعية، وتلعب غالبًا العلاقات العاطفية دورًا في هذا التحول. يظهر ذلك في الفيلم العراقي «إرادة شعب» (1959)، حيث يتحول ابن الإقطاعي الذي يحب الفلاحة الفقيرة إلى مناضل في صفوف ثورة 1958 للإطاحة بالعالم القديم، ويظهر أيضًا في الفيلم التونسي «الفجر» (1966) حيث يتفق الشاب البرجوازي الثري مع شابين آخرين أحدهما عامل والثاني من الطبقة الوسطى للبدء في معركة التحرير ضد الاستعمار، وذلك مع عودة بورقيبة إلى تونس في يونيو 1954، ويظهر كذلك في الفيلم الجزائري «الأفيون والعصا» (1969)، حيث يهجر الشاب الثري حياته المترفة ويرحل إلى الجبل، وهناك ينضم لصفوف المقاومة. تتكرر أيضًا هذه الحالة - هجر الشباب الأثرياء لطبقاتهم القديمة والاندفاع إلى العالم الجديد - في كثير في الأفلام المصرية خلال الفترة نفسها، ويعد المثال الأكثر شهرة هو «رد قلبي» (1957) الذي ينتهي برحيل الأميرة إنجي من قصر والدها مع الضابط علي بعدما حطمت الثورة الحواجز بينهما.

          المصالحة الاجتماعية كانت شرطًا للمزج ما بين التحرر والحداثة من وجهة نظر أيديولوجية أنظمة التحرر الوطني، التي باتت تقود قسمًا مهمًا من البلدان العربية. وانعكست هذه الأيديولوجية في الأفلام العربية وقتها بصورة تمتلئ تفاؤلاً بالمستقبل. لكن ما حدث عام 1967 أجهض هذا المشروع وكشف عوراته، ومن ثم أعاد الانقسام مرة أخرى ما بين التحرر والحداثة، لكنه عاد هذه المرة بطريقة مغايرة.

إنقاذ الحداثة أولاً

          قوضت الهزيمة مشروع النهوض القومي، أو على الأقل أصابته بصدع بالغ، ونتج عنها ميل لإعادة ترتيب الأولويات. فقد تراجعت النزعة الوطنية الراديكالية داخل المؤسسات الحاكمة - لم يحدث هذا فورًا، بل استدعى الأمر سنوات، كما اختلف شكل التراجع من بلد إلى آخر - وأصبحت الأفكار المسيطرة على الأيديولوجية الرسمية تنطلق من عدم إمكانية الانتصار في معركة التحرر وهزيمة الاستعمار - المتجسد الآن في وجود إسرائيل، واحتلالها الأراضي العربية - بالمعنى التاريخي الشامل، وأن هناك ضرورة للبحث عن مخرج آخر. وهكذا لم تعد الأيديولوجية الرسمية، بحالتها هذه، قادرة على استيعاب الجماهير، وإرضاء طموحاتها في التحرر.

          لذا، وجدت الجماهير العربية في الإسلام السياسي بديلاً لمشروع النهوض القومي (التحرري/ الحداثي) قادرًا على إنجاز مهمة التحرر ولكن على أنقاض الحداثة. نتج عن هذا بالطبع تداعيات عدة على المستويات السياسية والثقافية، لا مجال للحديث عنها الآن، لكن ما يهم هنا أن انتشار الإسلام السياسي أعاد للحداثة في وعي الجماهير معانيها القديمة، بصفتها نزقًا وترفًا شخصيًا ومظهرًا للتحلل يحاول الاستعمار فرضه كنموذج ثقافي على شعوبنا، ليحول بيننا وبين التحرر منه. وعاد بالتالي الصراع ضد الاستعمار ليصبح صراعًا ضد الحداثة ومن أجل تقويض مظاهرها، إلا أن ذلك لم يعد ممكنًا اليوم، فنحن لسنا في مطلع القرن العشرين، ولا يمكن تقويض مظاهر التحديث المستقرة من زمن، أو إلغاء المؤثرات الحداثية الخارحية في عصر الفضاءات المفتوحة. لذا جاء انعكاس الأمر في السينما الروائية ورد الفعل عليه على عكس ما حدث في الثلاثينيات، بمجابهته ورفضه، واعتباره خطرا يقع في المرتبة الأولى على سلم الأولويات.

          في الخمسينيات والستينيات قدمت السينما نموذج الفدائي المقاتل بوصفه بطلا ومثالا يحتذى، على غرار «جميلة» (1958) الذي صور قصة كفاح المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، إلا أن هذا النموذج أصبح الآن من وجهة نظر صناع الأفلام أنفسهم (كيوسف شاهين) قاتلاً وإرهابيًا، ذلك رغم أن مقاتلي حماس في فلسطين اليوم مثلا لا يفعلون أكثر مما فعلته جميلة، التي كانت تضع القنابل في مقاهي وبارات المستوطنين الفرنسيين. وأصل المفارقة هنا أن معركة جميلة ساعتها كانت تعكس مشروع النهوض القومي، بحداثته وعدائه للاستعمار، لكنها تفعل ذلك اليوم مرتدية نقابًا بسبب عدائها للحداثة التي فشلت - من وجهة نظرها - في إنجاز مهمة التحرر.

          وهكذا تراجع على شاشة السينما العربية مشروع الحداثة في مواجهة الاستعمار، ليحل محله مشروع «التنوير» في مواجهة «الظلامية» كملمح رئيسي في عدد من الأفلام المهمة خلال السنوات الأخيرة. عكس ذلك في الحقيقة إعادة لترتيب الأولويات، فالمركزي الآن لدى قسم مهم من المثقفين العرب هو إنقاذ الحداثة. لقد أدى انتشار الإسلام السياسي إلى قبول أيديولوجية: «البحث عن مخرج آخر»، واعتبار أن الأولوية للحداثة على التحرر الوطني. وربما يكون أكثر تلك الأفلام دلالة هو «المصير» (1997/ يوسف شاهين) فالخطر الحقيقي واضح بجلاء ومتمثل في الهوس المنتشر وسط عامة الناس، الذين يحركهم فقيه متآمر يساوم الأعداء المتربصين، والمهمة الملحة هي إنقاذ العقلانية من ذلك الخطر بالتصدي للعامة المهووسين، وحتى يمكن بعدها خوض المعركة مع الأعداء.

          سيطر ذلك الملمح (خطر الظلامية، وضرورة إنقاذ الحداثة) بتنويعات مختلفة على عدد آخر من الأفلام المصرية خلال العقدين الأخيرين، منها: «الإرهابي» (1994/ نادر جلال)، و«طيور الظلام» (1995/ شريف عرفة)، و«الآخر» (1999/ يوسف شاهين)، و«الأبواب المغلقة» (2000/ عاطف حتاتة)، و«دم الغزال» (2006/ محمد ياسين). كما برز أيضًا في عدد آخر من الأفلام العربية المهمة، منها: الفيلم السوري «باب المقام» (2006/ محمد ملص) عن مقتل فتاة حلبية على يد أخيها لشكه في سلوكها، وبتحريض من عمه وعدد آخر من رجال عشيرته، جميعهم بالطبع إسلاميون متشددون، وشكهم نابع فقط من أن الفتاة في حالة هيام دائم، وتتغنى مع نفسها بأم كلثوم. والفيلم التونسي «آخر فيلم» (2006/ نوري بوزيد) عن شاب تونسي محب للموسيقى، ويتحول إلى طاقة معطلة بسبب البطالة، فيدخل في صدامات مع أبيه والشرطة، وينتهي إلى التعرف على مجموعة إسلامية متشددة، يقوم شيخها بعملية غسيل مخ منظمة له حتى يتحول إلى انتحاري ويفجر نفسه. ودائمًا سنجد الموسيقى والغناء في تلك الأفلام موضوعة بتناقض واضح في مقابل التشدد الديني، فالموسيقى هنا هي التعبير عن الحداثة.

          هكذا اتخذت مجموعة من أبرز السينمائيين العرب (يوسف شاهين، ونوري بوزيد، ومحمد ملص، وشريف عرفة، ووحيد حامد، ولينين الرملي، وعادل إمام، وغيرهم) خلال السنوات الأخيرة موقفًا نقديًا من بعض الاتجاهات التي عرفت بميلها للتشدد أو التطرف، انطلاقًا من طموحهم في التحرر الوطني. وللسبب نفسه اعتبر السينمائيون أن معركة التحرر تأتي في المرتبة الثانية بعد إنقاذ الحداثة، متخلين بذلك عن حلمهم وحلم الجماهير القديم باعتبار الاثنين وجهين لعملة واحدة، وربما لن يخرجنا من هذا الفخ سوى مشروع جديد للنهضة يعيد الارتباط ما بين التحرر الوطني والحداثة على أرضية اجتماعية جديدة.

 

يحيى فكري   





ملصق فيلم «شفيقة ومتولي» قصة من الأدب الشعبي امتزجت فيها مأساة الفرد مع الوطن





سيرة البطل العربي الذي قاوم الزحف الصليبي على فلسطين





زعيم الوطنية المصرية في مطلع القرن العشرين. ظل الفيلم ممنوعا لسنوات قبل السماح بعرضه





سيف الله المسلول الذي ساهم في الانتصارات الإسلامية على دولة الروم





استعادة روح معركة عين جالوت ضد التتار





تحية لكفاح الشعب الجزائري ضد المحتل الفرنسي