أفلام السيرة الذاتية الوقائع.. والتخيّل

 أفلام السيرة الذاتية الوقائع.. والتخيّل
        

لا تزال السينما العربية والغربية منجذبة إلى السِيَر الذاتية لمشاهير الثقافة والمجتمع والسياسة والفنون. ولكن هذه الأفلام أثارت سجالات عدّة حول «مصداقية» التعاطي الفني مع هذه الوقائع والتفاصيل، وحول مدى التزامها الحقائق التاريخية، من دون التغاضي عن الجانب المتخيّل.

          إن اختيار النتاج السينمائي في هذا المجال لا يلغي الجانب التلفزيوني، إذ إن الأسئلة المطروحة على السينما يُمكن طرحها، بسهولة، على الأعمال الدرامية الخاصّة بالشاشة الصغيرة. لكن التزام النتاج السينمائي في هذه القراءة النقدية مرتبط باهتمام شخصي بحت بالأفلام السينمائية. 

          يُمكن القول إن هناك ثلاثة أسئلة أساسية تُشكّل مدخلاً نقدياً لقراءة النتاج السينمائي المتعلّق بالسِيَر الذاتية للشخصيات التاريخية. فهذه الأسئلة تفتح نقاشًا جدّيًا حول موقع الصنيع الإبداعي في المشهد الإنساني والتاريخي والثقافي، وحول مدى قدرته على التوفيق الجمالي بين الواقع والمتخيّل، من دون الإساءة إلى الحقائق التاريخية والجماليات الفنية والدرامية والتقنية على حدّ سواء. لعلّ البعض يرى أسئلة أخرى تساهم في تطوير النقاش النقدي، ذلك أن الأسئلة الثلاثة لا تغلق الباب أمام طرح مزيد من العناوين، وأمام تفعيل التنقيب النقدي عن مفاهيم جديدة للعلاقة القائمة بين النتاج الفني (السينما تحديدًا) والشخصيات التاريخية المختارة للصنيع الفني هذا، الناشطة في السياسة والعلوم والفنون والرياضة والآداب والمجتمع وغيرها. تزداد المسألة أهمية، إذا كانت الشخصية المختارة للصنيع الفني مشحونة بالتباسات العيش على حافة المغامرة والتمرّد، وبتشابك فظيع بين الحقائق الضائعة في متاهة هذا العيش نفسه، وتحوّل الشخصية إلى أسطورة حيّة مغلّفة بالأسرار أو التفاصيل الغامضة.

تساؤلات

          لا شكّ في أن كل سؤال من الأسئلة الثلاثة يولّد أسئلة فرعية، تبغي تشريح العنوان الأساسي بهدف البحث عن أجوبة لن تكون حاسمة، مادام الموضوع نفسه لا يزال قابلاً للتحليل من جوانب مختلفة. أما الأمثلة التي تدعم محاولة الإجابة عن الأسئلة كلّها، فمنتقاة من بعض أبرز الأفلام التي أنتجت في الأعوام السبعة الأولى من القرن الجديد، هذا، مع الاستعانة ببعض الأفلام السابقة عليها، لتبيان مسألة أو للإضاءة على غموض.

          1- ما  حجم المتخيّل في عمل إبداعي يرتكز أساسًا على سيرة حقيقية؟ هل يُسمح للسينمائي بأن يتصرّف بالحقائق والوقائع بما يخدم الصنيع الإبداعي، أم يتعين عليه الالتزام التام بتلك الحقائق والوقائع مبتعدًا عن هامش التخييل الإبداعي؟ هل يؤثّر المتخيّل في الشخصية، أم أنه يلعب دورًا أساسيًا في إنجاز النص الإبداعي المرتكز، أساسًا، على سيرة معروفة، وإن لم تكن السيرة مكتملة؟

          2- هل يُفترض بالممثل والممثلة أن يُشبها الشخصية المختارة فيزيولوجيًا؟ هل يُفترض بهما أن يخضعا لتدريبات عملية تهدف إلى تلقينهما كيفية التماثل بالشخصية، حركة ونطقًا وتصرّفات وسلوكًا؟ في حال الإقرار بهذا المنحى التمثيلي، ألا يؤدّي التماثل الشكلي إلى الإساءة إلى الشخصية والعمل الفني معاً، وإلى إلغاء الجانب الإبداعي في التمثيل؟

          3- ما دور العائلة في المشروع السينمائي: هل يحقّ لها أن تتدخّل في إنجازه، بأن تمنع تنفيذه في حال لم يستجب لمتطلّباتها التي يُمكن أن تخالف الوقائع والحقائق «حماية» لسمعة العائلة على حساب الشخصية، أو بأن تفرض شروطها الصارمة، بأن تشارك فعلياً في كتابة السيناريو واختيار الممثلين وفريق العمل؟ هل هناك قوانين تحمي العائلة على حساب الصنيع الفني الإبداعي؟

          لا يزال الصراع بين المتخيّل والواقع حاضراً بفعالية كبيرة في الأفلام المنتجة حديثًا، إذ يستحيل على السينمائي المبدع أن يلتزم التاريخ كما هو، لأنه يصنع فيلماً ولا يُقدّم درسًا في التاريخ؛ ولا يحقّ له أن يتلاعب بالوقائع، كما يحلو للإنتاج الهوليوودي أن يفعل أحيانًا كثيرة خدمةً للسياسة، لأنه (أي السينمائي المبدع) يرتكز عليها لبناء عمارته الفنية. بمعنى آخر، يتعين على الفنان أن يستفيد من الوقائع التاريخية كلّها الخاصّة بالشخصية أو بالحدث الذي يريد، من دون أن يقع في أسرها، بل لينطلق منها إلى رحاب عالمه الإبداعي البحت. هنا، تبرز السينما أو تضمحل: فكلّما غاص صانعو الفيلم السينمائي في الوقائع، بدا الفيلم محاضرة لا طائل فنيًا لها؛ وكلّما حرّر هؤلاء عملهم من سطوة الواقعي لحساب المتخيّل («نيكسون» و«الإسكندر» لأوليفر ستون مثلاً، و«أيام السادات» لمحمد خان إلى حدّ ما، خصوصًا على مستوى رسمه شخصيات عدّة في علاقاتها وبعض تصرّفاتها وحركاتها)، امتلك الفيلم شرعيته السينمائية الإبداعية. لا يُمكن التخلّي كلّيًا عن الوقائع، ما يدفع بفريق العمل (السيناريست والمخرج والممثل/الممثلة تحديدًا) إلى إجراء أبحاث ميدانية (كتب، وثائق، أفلام وثائقية، صور فوتوغرافية، معطيات، لقاءات مع أناس على علاقة بالشخصية أو الحدث، إلخ.) يجعلونها أساسًا متينًا للنصّ السينمائي، بمفرداته الفنية والجمالية والدرامية.

تشابه في الشكل والأداء الدرامي

          لم يكن الممثل الأمريكي كولن فاريل شبيهًا بالإسكندر المقدوني، في فيلم ستون (2005). لكن أنتوني هوبكنز خضع لتمارين جسدية وسلوكية ولماكياج معيّن، لبلوغ أقرب حدّ ممكن من الرئيس الأمريكي نيكسون، في فيلم ستون أيضًا (1996)، علماً أنه أبدع في تأديته دور الرسّام العالمي بيكاسو، شكلاً ومضمونًا نفسيًا وإنسانيًا ونزقًا أخلاقيًا، في «بيكاسو حيّا» (1996) لجيمس إيفوري. هذا ما اعتاد الممثل المصري الراحل أحمد زكي، الذي قدّم شخصيتي جمال عبد الناصر («ناصر 56» لمحمد فاضل) وأنور السادات (في فيلم محمد خان)، أن يفعله: تدريب شاق يجعله قادرًا على تأدية شخصية تاريخية بأكبر قدر ممكن من التشابه الجسدي والسلوكيّ، من دون أن يتغاضى عن البُعد الدرامي والجمالي للشخصية. إن التوازن بين الطرفين مطلوبٌ للغاية، لأن الإيغال في التماهي بالشكل فقط لا يُنجز فيلمًا سينمائيًا؛ في حين أن الشكل ضروريٌ، في أحيان كثيرة، لجعل الشخصية السينمائية حقيقة تاريخية وحسية.  لا تنتهي الأمثلة: هناك ويل سميث الذي أدّى شخصية الملاكم العالمي محمد علي كلاي في «علي» (2002) لمايكل مان، إذ إنه غاص في العالم النفسي والروحي للشخصية الحقيقية، وسعى جاهدًا إلى محاكاتها شكلاً وتصرّفات، مُفعّلاً البُعد الدرامي، الموجود أيضًا في السيناريو. تمامًا كما فعل جيمي فوكس بتأديته شخصية الموسيقيّ والمغنّي راي تشارلز في «راي» (2005) لتايلور هاكفورد: إمعان في التقارب الفيزيولوجي، وتألّق في تقديم التفاصيل الإنسانية والأخلاقية والسلوكية، بسوية درامية لافتة للانتباه. كما أنه لا يُمكن التغاضي عن براعة ليوناردو دي كابريو، الذي مثّل دور المنتج السينمائي الهوليوودي وصانع الطائرات هاورد هيوز في «الطيّار» (2005) لمارتن سكورسيزي: فالشخصية الأساسية مصابة بهوس الطيران والعزلة، والتأثيرات «السلبية» للتربية الطفولية عليه ظلّت حاضرة في سنيّ عمره كلّه. في هذا الإطار، بدا الممثل متمكّنًا من تأديته الدور السينمائي المرسوم بجدية درامية واضحة، متّخذًا من الوقائع والحقائق سندًا قويًا لإبراز براعة تمثيلية اكتسبها سابقًا (خصوصًا مع ستيفن سبيلبيرغ في «امسكني إذا استطعت» في العام 2003)، ونجح في بلورتها بفضل تعاونه مع سكورسيزي في «عصابات نيويورك» (2002)، علمًا أنه عمل بإدارته في «المرحّلون» (2006) أيضًا.

          إذا كان أحمد زكي أحد أبرز الممثلين السينمائيين، على مستوى اشتغاله الدائم على كيفية تجسيد أفضل صورة ممكنة عن الدور السينمائي، خصوصًا بالنسبة إلى تأديته أدوار شخصيات تاريخية، فإن الممثل السوري بسام كوسا لم يكن أقلّ موهبة وقدرة أدائية مهمّة عنه، بتأديته شخصية المفكّر التنويري عبدالرحمن الكواكبي، في «تراب الغرباء» (1997) لسمير ذكرى.  فهو لم يكتف بالسعي إلى التشابه الشكلي به، بل قدّم واحدًا من أدواره الجميلة، أداءً وحركة وسلوكًا تمثيليًا. وهو لم يشأ الوقوف عند الشكل فقط، فغاص في تداعيات المرحلة التاريخية والبيئة الجغرافية والاجتماعية، محاولاً اختزال هذا كلّه في شخصه ودوره وحرفيته التمثيلية.

ما دور العائلة؟

          أما بخصوص العائلة، فالمسألة مختلفة، ذلك أنه يُفترض بالصنيع الفني الإبداعي ألاّ يقع «ضحية» عائلة متسلّطة تريد، بتدخّلها في المشروع، تزوير حقائق أو تبديل وقائع.

          والعائلة المتدخّلة حكرٌ على السينما العربية، المصرية تحديدًا: عائلات عبد الحليم حافظ وسعاد حسني وأسمهان وجمال عبد الناصر وأنور السادات مثلاً، لم تسمح بتحقيق أعمال تلفزيونية وأفلام سينمائية عن هذه الشخصيات إلاّ بموافقتها، علماً بأن السوري أنور القوادري، بتحقيقه فيلم «ناصر»، تعرّض لحملة قادتها هدى عبد الناصر شخصيًا لأنه، ببساطة، أنجز عملاً لم توافق عليه، على نقيض دعمها «ناصر 56» للمصري محمد فاضل. في حين أن جيهان السادات أشرفت كلّيًا على «أيام السادات» للمصري محمد خان. والمثل الأعنف حدّة في هذا المجال، كامنٌ في الرفض التام والمطلق لآل الأطرش لأي مشروع فني خاصّ بأسمهان، أو خاص بشخصية تاريخية كان لأسمهان حضور في حياتها. أما «حليم» لشريف عرفة، فأثار نقاشًا حادّا مع عائلة العندليب الأسمر، قبل أن يُنجز بشكله النهائي.

          لا وجود لمشاكل كهذه في الغرب. فالعائلة تتدخّل بعد إنجاز المشروع، في حال وجدت تطاولاً على الشخصية أو على أحد أقاربها، أو تزويرًا لواقع أو تشويهًا لحقيقة. والتدخّل يتمّ عبر القانون فقط، برفع دعوى قضائية ضد منفّذي المشروع، مدعومة بإثباتات ومعلومات مؤكّدة، وليس بالمنع والحملة العنيفة والرفض.

          ليست الأجوبة نهائية أو حاسمة، بل منطلقاً لنقاش نقدي مفتوح على أسئلة إضافية، وقراءات أخرى. إنها محاولة للبحث في مسألة شائكة وملتبسة ومهمّة، لا تزال معلّقة على التخوم الواهية بين الواقع والمتخيّل.

 

نديم جرجورة   





ويل سميث في مشهد من «علي» لمايكل مان





جيمي فوكس في مشهد من «راي» لتايلور هاكفورد





ليوناردو دي كابريو مؤديا شخصية هاورد هيوز في « الطيار» لمارتن سكورسيزي





الممثل السوري بسام كوسا مرتديا شخصية عبد الرحمن الكواكبي في «تراب الغرباء» لسمير ذكرى