جمال العربية

جمال العربية

أقباس من بلاغة الإمام

والإمام هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, الذي عرف بفيض بلاغته وفصاحته, وتدفق بيانه وحكمه, وأصبح علما على جمال العربية يشار إليه بالبنان, وحجة في اللغة المتدفقة الطيعة, التي حملت فكراً عميقاً, وتأملاً نافذا, وحكمة بالغة.

ولقد أتيح لأقوال الإمام فيض من الدراسات تحاول النفاذ إلى أسرار بلاغته, ومعرفة عناصرها التي صاغت هذا السحر الذي يستوقف السامع والقارئ, ولابد أن النشأة القرشية الفصيحة, والصلة العميقة بلغة البادية, والاستعداد الفطري الذي جعل التعبير الجميل موهبة صقلها الاكتساب, وأنضجتها التجارب والمواقف, والأحداث الجسام التي مر بها الإمام علي بن أبي طالب وصراعه مع الأمويين والخوارج, كل ذلك جعل لبلاغته مكانتها المتميزة بعد بلاغة الرسول الكريم.

كلمات قصار:

لنبدأ إذن بنماذج من كلماته القصار, فيها إحكام تعبيره ولغته, ومكنون فكره وحكمته:

يقول الإمام علي:

ـ قرنت الهيبة بالخيبة, والحياء بالحرمان, والفرصة تمر مر السحاب, فانتهزوا فرص الخير.

ـ من أبطأ به عمله, لم يسرع به حسبه.

ـ ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه, وصفحات وجهه.

ـ إذا كنت في إدبار والموت في إقبال, فما أسرع الملتقى.

ـ الحذر الحذر, فوالله لقد ستر, حتى كأنه قد غفر.

ـ لسان العاقل وراء قلبه, وقلب الأحمق وراء لسانه.

ـ سيئة تسوؤك, خير عند الله من حسنة تعجبك.

ـ قدر الرجل على قدر همته, وصدقه على قدر مروءته, وشجاعته على قدر أنفته, وعفته على قدر غيرته.

ـ الظفر بالحزم, والحزم بإجالة الرأي, والرأي بتحصين الأسرار.

ـ احذروا صولة الكريم إذا جاع, واللئيم إذا شبع.

ـ أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.

ـ السخاء ما كان ابتداء, فإن كان عن مسألة فحياء وتذمم.

ـ لا غنى كالعقل, ولا فقر كالجهل, ولا ميراث كالأدب, ولا ظهير كالمشاورة.

ـ الصبر صبران: صبر على ما تكره, وصبر عما تحب.

ـ الغنى في الغربة وطن, والفقر في الوطن غربة.

ـ فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها.

ـ لا تستح من إعطاء القليل, فإن الحرمان أقل منه.

ـ العفاف زينة الفقر, والشكر زينة الغنى.

ـ لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا.

ـ إذا تم العقل نقص الكلام.

ـ الدهر يخلق الأبدان, ويحدد الآمال, ويقرب المنية, ويباعد الأمنية, من ظفر به نصب, ومن فاته تعب.

ـ ويقول الإمام علي متحدثا عن شروط الإمام الصالح وما ينبغي أن يأخذ به من أمور:

من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره, وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه, ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم.

ـ نفس المرء خطاه إلى أجله.

كلمات مستفيضة:

فإذا ما انتقلنا إلى بلاغته المتدفقة في فيض كلماته المستفيضة, وجدنا مساحة أرحب لاكتمال فكر الإمام علي وعمق بصره بالحياة والناس. هنا تلتمع نظرات الخبير الحكيم العالم, الذي عرك الدنيا وسبر أغوار النفوس وأدرك ما وراء خبايا الوجوه والأقنعة ـ تفاجئنا كلمات الإمام بكونها مشاعل هادية, لا يتوقف إشعاعها عند عصر أو زمان, ولا تقتصر بلاغتها أو سحر بيانها على لغة تعبير أو اختيار مفردات, وإنما هي إشعاع غامر, ونور كاشف, وحياة شديدة الغنى والتنوع والامتلاء.

يقول الإمام علي في إحدى وصاياه لابنه الحسن ـ عليهما السلام ـ عند انصرافه من صفين: (من الوالد الفاني, المقر للزمان, المدبر العمر, المستسلم للدهر, الذام للدنيا, الساكن مساكن الموتى, الظاعن عنها غدا.

إلى المولود المؤمل مالا يدرك, السالك سبيل من قد هلك, رهين الأيام, ورمية المصائب, وعبدالدنيا, وتاجر الغرور, وغريم المنايا, وأسير الموت, وحليف الهموم, وقرين الأحزان, ونحب الآفات, وصريع الشهوات وخليفة الأموات.

أما بعد, فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني, وجموح الدهر علي, وإقبال الآخرة إلي, ما يزعني عن ذكر من سواي, والاهتمام بما ورائي, غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي, فصدقني رأيي, وصرفني عن هواي, وصرح لي محض أمرى, فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب, وصدق لا يشوبه كذب, وجدتك بعضي, بل وجدتك كلي, حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني, وكأن الموت لو أتاك أتاني, فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي, فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به, إن أنا بقيت لك أو فنيت).

ثم يقول الإمام علي في وصيته إلى ابنه الإمام الحسن:( فإني أوصيك بتقوى الله ـ أي بني ـ ولزوم أمره, وعمارة قلبك بذكره, والاعتصام بحبله, وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به!

أحي قلبك بالموعظة, وأمته بالزهادة, وقوه باليقين, ونوره بالحكمة, وذلله بذكر الموت, وقرره بالفناء, وبصره فجائع الدنيا, وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام, واعرض عليه أخبار الماضين, وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين.

وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا, وعما انتقلوا, وأين حلوا ونزلوا, فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة وحلوا دار الغربة, وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم.

فأصلح مثواك, ولا تبع آخرتك بدنياك, ودع القول فيما لا تعرف, والخطاب فيما لم تكلف, وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته, فإن الكف عند حيرة الضلال, خير من ركوب الأهوال).

ثم يقول الإمام علي في هذا النموذج من بلاغته المستفيضة في وصاياه حيث المجال أرحب للقول والترسل والبيان والحكمة أغزر في التدفق والإسهاب, والنفس الطويل ـ الذي وهبه الإمام ـ يجد مجاله الرحب في اشتقاق الكلمات الدالة والمفردات المحملة بالمعنى والرمز والإشارة, والنسيج البياني الذي يكتمل منطقا وصنعة وتلوينا وإيقاعا ومستويات خطاب.

كل ذلك بعض أسرار بلاغة الإمام, يقول:

(وأمر بالمعروف تكن من أهله, وأنكر المنكر بيدك ولسانك, وباين من فعله بجهدك وجاهد في الله حق جهاده, ولا تأخذك في الله لومة لائم.

وخض الغمرات إلى الحق حيث كان, وتفقه في الدين, وعود نفسك الصبر على المكروه, ونعم الخلق التصبر في الحق.

وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك, فإنك تلجئها إلى كهف حريز, ومانع عزيز.

وأخلص في المسألة لربك, فإن بيده العطاء والحرمان, وأكثر الاستخارة وتفهم وصيتي, ولا تذهبن عنك صفحا, فإن خير القول ما نفع, واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع, ولا ينـتفع بعلم لا يحق تعلمه).

ومن أجمل كلمات الإمام, خطبته القصيرة لما اضطرب عليه أصحابه ـ من كثرة ما تحملوا ولاقوا في سبيل نصرة الحق وأهله:

(أيها الناس, إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب, وقد والله أخذت منكم وتركت, وهي لعدوكم أنهك.

لقد كنت أمس أميرا, فأصبحت اليوم مأمورا, وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا, وقد أحببتم البقاء, وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون!).

وكلمات شاعرة:

يقول ابن عبدربه في كتابه (العقد الفريد): إن أبا بكر وعمر وعليا كانوا شعراء, وعلي أشعرهم.

وهو قول يوضحه ما عرف عن علي من لغة لها خصائصها المتميزة ـ فصاحة وقدرة على الإبانة والإحكام ـ وثورة طاغية في الألفاظ والأساليب كما يقول الأستاذ عبدالعزيز سيد الأهل ـ جامع ما نسب إليه من شعر وشارحه ـ ومعرفة بالتناسب بين لغة الشعر وخصائص الكلام. والواضح فيما نسب للإمام علي من شعر, أنه ليست له قصائد طوال, فلم يكن طيلة حياته في خلو بال الشاعر الذي ينطلق ليهيم وراء الصنعة واصطياد المعاني واختيار القوافي ـ كما يقول شارح ديوانه وجامع أشعاره ـ وإنما كان الإمام علي أحد العاملين المتقنين لفنون الحياة, فلا تعوزه الحاجة إلى فاقة عملية يصرف فقرها ذوو البال الخالي إلى تخليق المعاني, وتصنيع الأقوال ـ كان إذن يصوغ الشعر كبقية الكلمات التي يصوغها مرتجلة سديدة حاسمة, تصيب الهدف وتقع موقعها الصحيح من نفس سامعها, ولم يكن عنده أوسع من ميادين الجهاد وإرسال الحجة والقول في الدين والحكمة والأخلاق, بل لم يكن عنده غير هذا الجد من ميادين.يروي صاحب كتاب (أسد الغابة) أن قائلا قال لعلي بن أبي طالب: أهج القوم الذين يهجوننا, فقال علي: إن أذن رسول الله فعلت. فقال رسول الله إن عليا ليس عنده ما يراد من ذلك, فتركه علي وتعرض له حسان بن ثابت!

وفي تفسير عدم الاهتمام بشعر علي, والعكوف الدائم على نثره ـ حيث مجلى فصاحته وبلاغته وبيانه ـ قيل إن نثره غلب وكثر وطال, أما شعره فقليل قصير. ثم إن المنسوب إليه من الشعر قد اتجه اتجاها دينيا خلقيا, فلم يعن الدارسون به عنايتهم بفن الشعر في الأغراض الأخرى واعتبروه شعرا لينا, تنطبق عليه مقولتهم (إذا سلك الشعر سبيل الخير لان!)

وقد اختلط ما نسب للإمام علي من شعر بشعر غيره كالإمام الشافعي, ويبدو أن صفة الإمام بين الاثنين كانت سببا في ضياع الحقيقة واختلاط المعرفة.

ومن بين ما نسب إلى كليهما مقطوعة قصيرة من بيتين, جاء فيهما:

أخي لن تنال العلم إلا بستة

 

سآتيك عن مجموعها ببيان

ذكاء وحرص واصطبار وبلغة

 

وصحبة أستاذ وطول زمان

من الشعر المنسوب للإمام علي ـ كما جاء في الكشكول للبهائي ومجاني الأدب, قوله:

هي حالان: شدة ورخاء

 

وسجالان: نعمة وبلاء

والفتى الحاذق الأريب إذا ما

 

خانه الدهر لم يخنه العزاء

إن ألمت ملمة بي فإني

 

في الملمات صخرة صماء

حائز في البلاء علما بأن

 

ليس يدوم النعيم والبلواء

ومن الشعر المنسوب للإمام:

وذو سفه يواجهني بجهل

 

فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

 

كعود زاده الإحراق طيبا

ويورد كتاب مجاني الأدب هذين البيتين المشهورين منسوبين للإمام, وقد طبقت شهرتما الآفاق, ورددهما الناس دون أن يهتموا بمن قائلهما وهما:

كن ابن من شئت واكتسب أدباً

 

يغنيك محموده عن النسب

إن الفتى من يقول هأنذا

 

ليس الفتى من يقول: كان أبي!

ومن المنسوب إلى الإمام علي من شعر الحماسة والنصال قوله حين قتل عمرو بن عبدود فسقط القتيل وانكشفت عورته, فتنحى عنه علي وهو يقول:

آلي ابن عبدـ حين شد ـ أليةً

وحلفتُ, فاستمعوا إلى الكذابِ

أن لا يفر, ولا يملل, فالتقى

أسدانِ يضطربان كل ضرابِ

اليوم يمنعني الفرار حفيظتي

ومصمم في الرأس ليس بنابي

أعرضت حين رأيته متقطرا

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه, ولو أنني

كنت المقطر بزتي أثوابي

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت دين محمد بصواب

لا تحسبن الله خاذل دينه

ونبيه يا معشر الأحزابِ

ومن أجمل الشعر المنسوب إلى الإمام علي قوله في وصف ما بين الحي والميت من البعد السحيق في الدار وإن كانت دانية الجوار. والأبيات مذكورة في كتاب مجاني الأدب:

ذهب الذين عليهم وجدي

 

وبقيت بعد فراقهم وحدي

من كان بينك في التراب وبينه

 

شبران فهو بغاية البعد

لو بعثرت للخلق أطباق الثرى

 

لم يُعرف المولى من العبدِ

من كان لا يطأ التراب برجله

 

يطأ التراب بناعم الخد

وقريب من البيت الأخير ـ فكرة وتعبيرا ـ قول أبي العلاء المعري:

كم صائن عن قبلة خده

 

سُلطت الأرض على خده

وحامل ثقل الثري جيده

 

وكان يشكو الضعف من عقده

وبين بديع نثره وجميل شعره تتكامل هذه الأقباس من بلاغة الإمام!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات