شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

زهرة ...
أخرى من الجزائر

كما عرف العالم قصة (جميلة بوحيرد) عرف العالم أيضاً عن زهرة.. الجزائرية, المناضلة, التي تركت كلية الحقوق لتنضم إلى الثورة, واشتركت في أكثر من معركة من معارك جيش التحرير, واستمرت تؤدي مهمتها حتى سقطت في أيدي الفرنسيين في سبتمبر عام 1957.

وكما فعل الزبانية بجميلة, فعلوا بزهرة, وكما عذّبوا جميلة, راحوا يعذّبون زهرة, وكما حكموا على جميلة بالإعدام ثم بالأشغال الشاقة, فعلوها أيضاً بزهرة, وصدر الحكم عليها بالسجن عشرين عاماً, مع الأشغال الشاقة أيضاً!

ومن بين قضبان السجن الرهيب في أعماق فرنسا, خرجت هذه المذكرات التي كتبتها زهرة ليقرأها العالم كله, وليعرف حقيقة الإرهاب الفرنسي, تماماً كما عرف حقيقة روح النضال الذي اعتمل في قلب كل جزائري, ولو كان في السجن:

(عندما كنا في المدرسة, وعندما كانت الحرب على أشدّها في تونس, كنا نتكهن بأن شرارة الثورة الجزائرية ستنطلق لا محالة في يوم من الأيام, وكانت أنانيتنا تملي علينا الاعتقاد بأن الثورة الجزائرية ستندلع عندما نكون قد أتممنا نحن دراستنا حتى نستطيع أن نساهم فيها, وترعرعنا وأخذنا نفكر في أنفسنا, وبدأ وعينا يتفجّر في الفترة التي بدأت بحملة التقتيل والإرهاب التي شنّتها فرنسا في قسنطينة سنة 1945, وكان طبيعياً عندما اندلعت الثورة أن أعمل مع زميلاتي في الحقوق على المشاركة في النضال. ولكني كنت أفكر في كيفية جعل هذه المشاركة فعّالة, فانخرطت في صفوف حركة الفداء من أجل التحرير.

ومنذ نوفمبر 1954 دخلنا غمار الحرب من أجل هذا, ففي الجبال, وقف رجالنا جنوداً مغاوير, وفي المدن أخذ جيش التحرير الوطني ينظم الصفوف أيضاً, واتخذت الحرب في المدن الجزائرية شكلها التقليدي, شكل المقاومة وذلك لتشتيت تجمعات العدو, ولنحبط مساعي جيشه, كان لابد أن نسلك طريق الفداء, وبخاصة عندما كنا نشهد آثار التعذيب على أجسام رفاقنا وإخواننا بعد أن يطلق البوليس سراحهم, فمنهم من كانت أظفارهم منزوعة, ومنهم من كانت أرجلهم محروقة, وكان البوليس يطلق سراحـهم بشـرط ألا ينبسوا ببنت شفة حول التعذيب.

وفي كلية الحقوق, وأثناء تظاهرات صاخبة, استطعنا مرات عدّة أن نصطدم مع الطلبة الفرنسيين من غلاة الاستعمار وأعضاء لجنة العمل الجامعي.

وبينما كانت حملات التفتيش وحظر التجول وتطويق الأحياء, وسوق الأهالي إلى ملعب القديس أوجان بالجزائر- الطابع اليومي لحياتنا- كان المستوطنون يتمتعون وينعمون بالحياة الرغدة في أحيائهم التي كان الهدوء يسودها, وكانوا يذهبون إلى الشواطئ والسينما والمراقص.

وفي يوليو 1956 قطعت المقصلة الفرنسية في سـجن بربـروس بالجـزائـر رأس الأخـوين (زبـانة)و (فرج), فالعدو لا يشفق على كل من يقع من إخواننا بين يديه, إذ كانوا كلهم يعذّبون وتحرق أجسادهم وتقطع أطرافهم, ثم يحكم عليهم بالإعدام ويساقون إلى الموت ويقتلون.

المشاركة في النضال

تلك هي الحالة التي وجدت نفسي فيها, أن أنضم إلى أي جهة تساعدني على النضال, وأن أكافح كفاحاً قوياً سواء كان هذا الكفاح لمساعدة الفدائيين أو بانتمائي إلى شبكة سياسية أو بالاشتغال على الآلة الكاتبة لطباعة المنشورات.

في الحرب التحريرية, الحرب التي يشارك فيها الفدائيون الجزائريون, كما يشارك فيها جميع الأهالي الجزائريين من أجل التحرير في هذه الحرب التي يقاسي فيها كل المدنيين وكل الأهالي من القمع والإرهاب الفرنسي, كانت مشاركتي أنا الطالبة الفتية شيئاً طبيعياً, وكانت النساء الجزائريات يرين بأعينهن إخوانهن أو أزواجهن أو أبناءهن وهم يعذّبون ويُقتلون.

لقد اعتدي على شرف الجزائريات, وفضّت بكارة الفتيات في القصبة وفي كل أنحاء الجزائر, ويقع ذلك كله تحت بصر الإخوة والآباء, وفي ظل المدافع الرشاشة في أيدي الجنود الفرنسيين والمستوطنين!

وكافحت كما يكافح إخواني وأخواتي, وقمت بنصيبي في هذا الكفاح, وخضت المعركة التي يتقرر فيها مصير وطني.

ولقد قبل المناضل الجزائري المخاطرة بحياته بمجرد انضمامه إلى صفوف جيش التحرير الوطني كجندي محارب فـي الجـبال والأحراش أو في المدن الجزائرية, قبلها عـند ارتضائه الحياة بين الرجال, رجال يعلم أن حيـاتهم مهددة في كل لحظة بين أولئك الذين يستعدون للموت لأنهم يعلمون أن موتهم إنما هو في سـبيل الحق, وبين أولئك الذين يضحون بأنفسـهم ويفضّلون الموت على الحياة, ولا يكترثون بأي مـيتة سـوف يموتونها).

إنها حقاً مرافعة قانونية رائعة ألقتها طالبة الحقوق الجزائرية في وجه أعدائها وفي عقر دارهم, وحين تلقفت بعض الصحف الحرّة هذه المذكرات, كان لابد أن ينتفض الأحرار في فرنسا وفي كل أوربا, ويطلبوا الحرية للجزائر وأبنائها, وكان لابد معها من الانتصار على العدو, وانتهاء عصر الطغيان.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات