شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

لقاء مع ابن بطوطة... والسلطانة خديجة!

على واجهة المتحف الوطني (بماليه) عاصمة دولة (المالديف) أعماق المحيط الهادي, تستطيع أن تشاهد لوحة ملوّنة طولها أكثر من متر للرحالة العربي المسلم ابن بطوطة, هنا نكتفي بأعظم الرحالة المسلمين في العصور الوسطى. وتتساءل على الفور: ماذا جاء بالرحالة المغربي ابن طنجة محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن يوسف اللواتي المولود في طنجة المغربية في شهر رجب عام 704 هـ - (1303م) إلى هذه الجزر النائية ? وتجد الإجابة في جناح خاص بالمتحف يحمل اسمه وأخباره. ويحكي التاريخ على لسانه أن الإسلام دخل هذه الجزر - المترامية البالغ عددها ألفا ومائتي جزيرة - قبل قرنين في عهد (درمس كويمالا كالو) الذي أعيدت تسميته بعد إسلامه بالسلطان محمد بن عبدالله وتبعه كل أهل المالديف.

الاهتمام بزيارة ابن بطوطة للمالديف يرجع إلى أنها واسطة العقد في رحلته التي بدأها من طنجة المطلة على المحيط الأطلسي إلى أن انتهى بزيارة الصين والهند وبلاد أخرى تركب الأفيال والحمير وأكتاف الحمّالين في طريق عودته إلى بلاده. ولعل أبرز ما تقرأه وأنت تتأمل الوثائق المكتوبة في قاعة ابن بطوطة الذي جاء إلى البلاد عام 1345م, وسماها (محل ديب) حيث عمل بها قاضياً لمدة أربعة عشر شهراً, أن الإسلام دخل إلى هذه الجزر على يد أبو البركات يوسف البربري الداعية الإسلامي الذي كان يطارد روحاً شريرة تطلب كل شهر ضحية تقدم لها على مذبح معبد ماليه.

وحين أراد أن يؤكد للناس فضل دين الإسلام الذي يدعوهم إليه, أخذ مكان الضحية على المذبح, وظل يقرأ القرآن طوال الليل والناس يحيطون به في خوف ورهبة. وحين بدأ الخوف يزول عنهم حين لم تظهر الروح الشريرة في ذلك اليوم ولا فيما تلاه من أيام. وهكذا تحوّل السلطان والأهالي إلى الإسلام.

السلطانة خديجة

تعرف من خلال الوثائق أنه خلال تولي ابن بطوطة منصب القضاء طوال الشهور الأربعة عشر صاهر سلطانة الجزر واسمها (خديجة) وهي زوجة وزيرها. وإذ أعجبت به وبأحكامه في أمور القضاء وحل الشكاوى, جعلته يترك جاريته الهندية وسـمحت له السلطانة بأن يتزوج أربع زوجات من بنـــات المالديف حسب ما يسمح به الشرع, ولكنه حجب نساءه عن عيون الناس بعكس عادات أهل البلاد. ازداد إعجاب السلطانة خديجة بابن بطوطة وهو يحكي لها ما مر به من حكايات ومشاهدات قبل وصوله إلى بلادها. ولم يخف عنها بعض ما ألمّ به في أوائل أيام رحلته, وهو وحيد بلا أنيس حين وصل إلى تونس فلم يسلم عليه أحد بغربته, مما جعله يشتد في البكاء حتى ارتجل رجل الحجيج إلى طرابلس ونزل بالإسكندرية التي يصفها بأنها (الثغر المحروس والقصر المأنوس), وحين وصل إلى القاهرة, قال عنها إنها (أعظم حواضر العالم والإسلام, وأن مصر هي أم البلاد, وقرارة فرعون ذي الأوتاد (ذات الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة المتباهية بالحسن والنضارة. قهرت قاهرتها الأمم, وتمكنت ملوكها من نواحي العرب والعجم).

ويحكي ابن بطوطة للسلطانة خديجة التي لم تغادر جزرها قط عن سائر معالم القاهرة وآثارها الشهيرة, وكيف طوف بسائر أقاليم مصر البحرية والقبلية. وحكى لها كيف خرج في ركب الحج حين اخترق سيناء إلى فلسطين وزار بيت المقدس وسائر بلاد الشام. ثم خرج في ركب الحج من دمشق وظفر بتحقيق بغيته في قضاء الفريضة والتبرّك بزيارة الحرمين وسائر البقاع والمشاهد المقدّسة.

شروط الرحيل

على الرغم من إعجاب السلطانة خديجة بحكايات ابن بطوطة عن أسفاره ورحلاته, فإن زوجها الوزير كان يضيق به لتعلق السلطانة بالاستماع إلى حديث الرحلات الذي كان يشغلها عنه وعن الاهتمام بشئون البلاد. وجاءت الطامة حين أساء ابن بطوطة في أحد أحكامه بأن انتقد سير النساء في الطرقات والأسواق شبه عراة وبصدور مكشوفة مما يحرّمه الإسلام الذي يفرض الحجاب على المسلمات. هنا استدعاه الوزير أمام السلطانة منتقداً سوء أحكامه في القضاء, وقال له:

أنت رجل تحب الأسفار ويشغلك التفكير فيها عن مهمة القضاء والحرص في أحكامك. الآن تطلق نساءك فإنهن لا يرحلن عن بلادهن. وأعط مؤخر الصداق لزوجاتك. وانصرف عن القضاء وارحل عن جزرنا.

غير أن السلطانة وضعت شروطاً لرحيله, أولا:ً أن يسجل رحلاته التي حكاها لها لتحفظ في متحف تاريخي خاص, أما ثاني شروطها فهو أن ترافقه في رحلة عودته إلى بيت الله الحرام لتقوم بالحج وتشاهد العتبات المقدسة. ودعت المجلس الشرعي ليشهد على ذلك, وهكذا كانت رحلة ابن بطوطة الثانية إلى الحج في رحلة حجيج بدأت من المالديف برفقة موكب السلطانة خديجة بعد تسجيل أخبار رحلاته التي استمعت إليها وهي الوثائق التي عثر عليها في المتحف الوطني الحالي بماليه.

واسطة العقد

هكذا كانت زيارة المالديف هي واسطة العقد في رحلات ابن بطوطة الذي استأنف رحلاته بعد عودته مع السلطانه خديجة ليواصل الطواف حول ذلك العالم الذي كانت الأمم الإسلامية تشغل يومئذ معظم رقاعه. فذهب إلى الهند والصين وجزر الهند الشرقية وبلاد فارس وطبرستان وأفغانستان. ثم اتجه بعد رحلة ثالثة إلى الحج, ليطوف بأنحاء لم يشاهدها من قبل, فركب البحر من اللاذقية إلى أن وصل إلى ساحل الأناضول وبر (تركية) التي كانت تموج يومئذ بالأمراء السلاجقة وملوك آخرين أقوياء من بينهم (أوزبك خان) ملك الولايات الشمالية, وطوال فترة وجوده في تركيا اخترق ابن بطوطة مفاوز الأناضول من شرقه إلى غربه, ومن جنوبه إلى شماله, وأفاض في (كتاب رحلاته) في وصف ما رأى ولاحظ من جغرافية ونظم وطبائع ومحاصيل وعادات وأخلاق مختلف الجماعات المتباينة التي كانت تشغل آسيا الصغرى. ثم اخترق أراضي السلطان أوزبك خان إلى ضفاف البسفور مع جماعة أوفدها هذا السلطان إلى امبراطور بيــزنطة وعـــلى قمة الجماعة زوجة الخاتون (بيلـــون) ابنة الإمـــبراطور, وكانت ذاهبة لزيارة أبيها في القســـطنطينية. ورحّب به الإمبراطور عنـــدما ذهبوا إليه في ركب زوجة الخاتون وراح يستـــمع منه إلى ما شاهده في بيت المقدس والصخرة المقدسة, وعن مهد عيسى وبيت لحم ومدن الخليل ودمشق.

وكانت نهاية رحلة العودة بعد ذلك إلى بلاده حيث استدعاه السلطان أبو عنان المريني ليسجل بين يدي كاتبه ابن جزي الأندلسي كل شيء عن أسفاره التي جمعت في كتاب سمي (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).

 

سليمان مظهر