أرقام

أرقام

انـعـدام الـحـيـلـة!

كان الانتقال من القرن العشرين إلى قرن جديد مناسبة مواتية للعالم كي ينظر للكثير من أحواله ويطرح على نفسه أسئلة تمس المستقبل. وكان طبيعياً أن يكون الإنسان بؤرة الاهتمام. فكيف كانت مسيرته... وإلى أين?....وهل يكون أسعد حالاً في القرن الجديد مع تعاظم الإمكانات المادية والتكنولوجية ومع التبشير بعولمة قيل إنها تجعل العالم قرية صغيرة?

وقد حاولت مؤسسة دولية هي البنك الدولي الإجابة عن بعض هذه الأسئلة, وكان تقدير البنك - كما عبّر رئيسه جيمس ولفنسون - أن (الفقر في ظل الوفرة هو أكبر التحديات التي يواجهها العالم).

إنه التناقض بين عالم ينجز علمياً ما لم ينجزه طوال تاريخه, ويزيد الثروة المادية كما لم تزد من قبل... و... في الوقت نفسه فإنه يعجز عن تقديم الطعام والكساء والتعليم والصحة لنصف سكان الأرض!

الأخطر, أن التناقض طبقاً لتوقعات تقرير التنمية في العالم (2000-2001), سوف يزداد, مما جعل خبراء البنك والذين طالما شغلتهم الأرقام يحاولون التعبير بشكل أدبي يمس القلب والعقل فتعريف الفقر في إحدى صوره, كما يقولون, هو (انعدام الحيلة والتعرض للمعاناة والخوف).

إنه الحرمان البشري, أي أنه لم يعد كما كنا نقول: انخفاضا في الدخل النقدي, وإنما بات مفهومه أوسع فأصبح الفقير هو مَن لا يتمتع بفرص تعليم أو فرصة صحة أو فرصة الحصول على مياه نقية إلى آخر المنظومة التي تحدد مستوى معيشة الإنسان بصرف النظر عن دخله.

التناقض قائم وتاريخ العالم في أربعين عاماً مضت يسجل أوجه تقدم وأوجه تخلف, وكلاهما في كوب واحد يضم مسيرة الإنسان.

خلال العقود الأربعة الماضية تحسن متوسط العمر في العالم النامي بمقدار عشرين عاماً في المتوسط, وهو تقدم هائل, وفي الفترة نفسها هبط معدل وفيات الأطفال الرضع إلى النصف وزاد التحاق الأطفال بالمدرسة الابتدائية بالدول النامية بمقدار (13%)... كما زاد متوسط دخل الفرد في هذه المجموعة بين عامي(65-1998) بمقدار الضعف.

لماذا نخزن إذن?
الجواب تقدمه مجموعة أخرى من الأرقام, فعندما أسدل القرن ستاره كان نحو نصف سكانه من الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم, وبالتحديد كان هناك (8ر2) مليار إنسان (من إجمالي ستة مليارات) يعيشون على هذا النحو, بينما كان خمس سكان الدنيا يعيشون في القاع بأقل من دولار واحد في اليوم.

بطبيعة الحال يمكننا أن نتصوّر حياة فرد يعيش ويسكن ويأكل ويتزوج وينجب بدولار يومياً, والأرقام لم تكن غافلة عن قياس الآثار, ومن ثم فإن (6) بالمائة من أطفال العالم لا يشهــدون عـــيد ميــلادهم الأول, و (8) بالمائة لا يشهدون عيد ميلادهم الخامس. إنها الوفاة المبكرة وعند المهد لأن ظروف المعيشة لا تسمح لهم بالحياة, لكن الناس ليسوا سواء, فالجغرافيا تلعب دورها فأن تولد في الشمال غير أن تولد في بلدان الجنوب, أطفال الشمال لا يعانون من سوء التغذية إلا بنسبة (5) بالمائة, أما أطفال الجنوب - البلدان الفقيرة - فإن النسبة تبلغ عشرة أضعاف ذلك أي (50%), أما وفيات الأطفال - تحت السنوات الخمس - فإنها في الدول النامية خمسة أضعاف الدول المتقدمة, كذلك فإن وفيات الرضع في دول إفريقيا جنوب الصحراء تبلغ خمسة عشر ضعفاً قياساً مع الدول مرتفعة الدخل, والغريب أن التمايز يحدث في المجتمع الواحد, فتشير الدراسات إلى أن وفيات الرضع أقل في الجماعات العرقية الأكثر نفوذاً في الدول الإفريقية, أي أن النفوذ السياسي يصحبه وضع اقتصادي أفضل ينعكس على حياة الفرد, كانت هذه هي الصورة في أربعين عاماً مضت والتي تسجل تفاصيلها أن بعض مناطق العالم لم تشهد أي تحسن, وإذا كانت أوضاع الفقر فيها قد تحسنت بالأهمية النسبية, فإنها لم تتحسن بالأعداد المطلقة والمرتبطة بزيادة السكان.

هل نضرب أمثلة لذلك?

كان الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في إفريقيا جنوب الصحراء عام (1987): (217) مليون نسمة فبات عددهم في عام (1998): (290) مليونا, وفي الحالتين كانت النسبة تقترب من نصف عدد السكان.

صورة المستقبل

هل تتحسن الصورة مستقبلا? هل ينعم الإنسان - في القرن الواحد والعشرين - بكل إنجازاته وأوجه تقدمه بحياة أفضل فيذهب الطفل إلى المدرسة, ويجد العجوز رعاية صحية, ويتوافر للجميع وجبة غذاء وملبس يستر الجسد?

الجهود كثيرة, لكن هزيمة الفقر معركة طويلة.

خلال الربع الأول من القرن الجديد سوف يزيد عدد سكان العالم بمقدار ملياري نسمة, لكن (97) بالمائة سوف يدخلون فيما سميناه جغرافيا الفقراء, أي داخل الدول النامية التي تستأثر بالنسبة الأعظم من الفقر! فإذا تأملنا فرص الإفلات من الفقر, فإننا نجد ظواهر جديدة سجلتها السنوات الأخيرة من القرن الماضي, وقد تكون مستمرة في السنوات الأولى من القرن الجديد.

من هذه الظواهر الفقر الناشئ عن التحولات الاقتصادية الحادة.

والنتائج مذهلة في وسط تهليل لما جرى في دول الاتحاد السوفييتي السابق, وتهليل مماثل لسقوط الكتلة الشرقية كلها, نجد أن معدل الفقر قد تزايد بسرعة كبيرة حتى أن عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم قد تضاعفوا بمقدار عشرين مثلاً خلال هذه السنوات القليلة التي شهدت التحوّل! أي أن الحرب الباردة قد انتهت ونفقات الدفاع تراجعت, ومع ذلك فقد بدأت حرب أخرى هي (حرب الجوع) والرحلة مستمرة لسنوات قادمة!

وربما تكون هناك رحلة أخرى قطعها إنسان دول الشمال ببراعة, بينما تعثر فيها إنسان دول الجنوب واعتبر ما يجري (قضاء وقدرا). أعني: الكوارث الطبيعية وما ترتبه من آثار.

في الولايات المتحدة - على سبيل المثال - أنفقت هيئة إدارة الطوارئ الاتحادية الأمريكية خلال العقد الأخير من القرن الماضي (25) مليار دولار لمساعدة الناس على إصلاح وإعادة بناء المجتمعات بعد وقوع الكوارث الطبيعية واستجابة وكالات حكومية أخرى وشركات للتأمين بمزيد من مليارات الدولارات, وشملت تكاليف الطوارئ الأرواح التي تزهق, والوظائف وفرص العمل التي تضيع, ولكن إزاء التكلفة العالية للمواجهات, وابتداء من عام (1995) بدأ وضع استراتيجية قومية للتخفيف من آثار الكوارث الطبيعية تعقد على عدة محاور وتقيم - على سبيل التجربة ــ مائتي مجتمع مقاوم للكوارث, وتستهدف الاستراتيجية الجديدة تغيير مصادر الخطر, فإذا كان الخطر هو الجفاف, فتكون المعالجة استمطار الغيوم وإسقاط أمطار صناعية, وإذا كان الخطر هو الفيضانات فيكون العلاج بناء السدود أو نقل أجزاء من المجتمعات المحلية إلى خارج مناطق الفيضان, أما إذا كان الخطر المتوقع زلزالاً فالحل جاهز: مبان مقاومة للزلازل.

الخروج من النفق

هل من وسيلة للخروج من هذا النفق المظلم? هل من وسيلة لإزالة هذا التناقض بين ثروة تتزايد وفقر ينتشر? وهل يعتمد ذلك على جهد ذاتي داخل المجتمعات, أم على تضامن دولي يقدم العون ويقدم سبل التقدم في الوقت نفسه, وهل من وسيلة لئلا يتكرر ما حدث خلال الأربعين عاماً الماضية والتي تضاعفت فيها الهوّة بين الفقراء والأغنياء فبات نصيب الفرد من الناتج في المجموعة الأخيرة (37) ضعفاً لما يتمتع به الفرد في المجموعة الأولى عام (95), بينما كان هذا الفارق (18) ضعفاً فقط عام 1960, وذلك في المقارنة بين أغنى عشرين دولة وأفقر عشرين دولة?

يرى البنك الدولي أن هناك - إلى جوار التنمية الاقتصادية - ثلاث وسائل لتخفيف حدة الفقر والتي يعتبرها - كما تقول أدبياته في الوقت الراهن - مهمته الأساسية, أما الوسيلة الأولى, فهي تدعيم فرص الفرد بأن يمتلك أصولاً مادية ومعنوية تبدأ من الأرض وتنتهي بالتعليم والصحة, والوسيلة الثانية هي ما سماه التقرير (التمكين من أسباب القوة) وهو طريق طويل يبدأ بمشاركة الفقراء في اتخاذ القرار وإخضاع جهاز الدولة للمساءلة وإزالة الحواجز الاجتماعية التي تنتج عن التمييز بين رجل وامرأة, أو التمييز وفقاً للعرق أو الدين, ثم تأتي الوسيلة الثالـثة وهي توفير شبكة للأمان ضد المرض وضد الأزمــــات الاقتصادية وضد الكوارث.

و... يبقى سؤال رئيس: إلى حد يعنى العالم المتقدم بقضية الفقر في الدول النامية? إلى حد القضاء على الفقر, أم إلى شاطئ يحقق قدراً من الأمن والاستقرار وتـوفـير قـاعـدة أوسـع مـن المسـتـهلـكـين لمنتجـات الـغـرب?

إنها قضية القرن: عالم يتقدم, وشعوب تخرج من التاريخ, وجهد غائب من أجل خيارات جديدة, ومن أجل صحوة شاملة في العالم الثالث.

ورقــم
الـخـائـفـون!

كفيضان النهر في أوقات محددة من السنة يكون طوفان اللاجئين الفارين من أوطانهم أمام الحرب, أو القهر, أو العنف... آلاف, مئات الآلاف, ملايين يفرون من الجحيم إلى المجهول لا يحملون زادا يكفي بضعة أيام.

وحين بدأ اللجوء الجديد في أفغانستان على إثر هجوم أمريكي كاسح في خريف (2001), تذكر العالم الخلاف الذي حدث عام (1951) حول تعريف كلمة لاجئ, والذي انتهى لكلمات فضفاضة تقول إن اللاجئ هو (مَن لديه خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد).

خلال خمسين عاماً من الاتفاقية والتي باتت عضويتها تضم (140) دولة تحققت نبوءة الطرف الثاني, فبات اللجوء يشمل عشرات الدول, وباتت الأسباب مختلفة أمنيا واقتصاديا وعرقيا ودينيا, وخلال هذه السنوات والتي شملت رعاية (50) مليون لاجئ تمت التفرقة بين اللجوء - إلى خارج الحدود - والنزوح داخل الحدود... و... في هذا المجال يتنافس اللاجئون الفلسطينيون مع اللاجئين الأفغان, والذين تجددت قضيتهم على إثر أحداث (11) سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.

في ذلك التاريخ, وقبل القيام بأي عمليات عسكرية قامت الدولتان الرئيسيتان المضيفتان للاجئين الأفغان بإغلاق حدودهما تحسّباً لهجرة جديدة وأحداث متوقعة, لكن ذلك لم يمنع التدفق الذي قابلته إيران بالاستعداد لتقديم المساعدة في معسكرات داخل أفغانستان وقابلته باكستان بفتح الحدود... و... كان تقرير مفوضية اللاجئين أنه لابد من استضافة (300) ألف لاجئ جديد.

قبلها, كان عدد اللاجئين الأفغان - ونتيجة للحروب والصراعات - قد بلغ (5ر3) مليون: (5ر1) مليون بإيران, مليونان في أفغانستان.

المأساة تشمل اللاجئ والبلد المضيف وأسباب اللجوء في العالم مازالت مستمرة: الجوع والخطر اللذان تصنعهما أزمات الحروب والصراعات, إنه الفرار من الجحيم... ولكن إلى المجهول!

 

محمود المراغي