جمال العربية
جمال العربية
من بكائيات الخنساء الخنساء هي كبرى شواعر العرب في تراثنا الشعري, لا يكاد يقترب منها ـ في القيمة والمنزلة ـ شاعرة أخرى في الجاهلية أو في الإسلام. وبالرغم من انحصار شعرها في دائرتين لم تتجاوزهما هما التفجع والبكاء على أخيها (صخر) والإشادة بأخلاقه ومكارمه وشمائله, فإن ما اتسمت به قصائدها من عاطفة صادقة شجية, وافتنان وتنويع في التعبير والتصوير وإحساس موسيقي عال ولغة محكمة, أفسح لها مكاناً متقدماً في ديوان الشعر العربي وجعل منها الاسم الوحيد المتفرد عندما يلتفت الباحثون والدارسون بحثاً عن شاعرية المرأة العربية في القديم, بالرغم من وجود عشرات الأسماء الأخرى التي لم تكن لصاحباتها حياة شعرية ـ بالمعنى الحقيقي ـ كالتي عرفناها للخنساء. والخنساء لقب عرفت به شاعرتنا, والخَنَس صفة مستحبة في وجه الظبية, أما اسمها الحقيقي, فهو تماضر بنت عمرو بن الحارث, وتماضر معناه الجميلة البياض. ويذكر شارح ديوانها ـ في طبعته اللبنانية ـ الدكتور محمد حمود أنها نشأت وترعرعت في بني سليم, وهي قبيلة نبغ فيها عدد من الشعراء المشهورين في مقدمتهم: زهير بن أبي سُلمى, وأن المؤرخين والدارسين يشيرون إلى أن أباها كان من ذوي الجاه والثراء, ومن ذوي العزة والمَنعة, فقد كان يأخذ بيديْ ابنيه صخر ومعاوية في المواسم ويقول: (أنا أبو خَيْريْ مُضر), فتعترف له العرب بذلك. وهو خبر منقول عن (الشعر والشعراء) لابن قتيبة. أما أبو عبيدة فيضيف أنهما كانا أجمل رجلين في العرب. لكن الأمر اللافت للانتباه في شعر الخنساء وبكائياتها على أخويها صخر ومعاوية, هو إيثارها صخراً بالعديد من القصائد, وتذكّره في العديد من المواقف والمناسبات, وتوهج شعرها في صخر بالعاطفة الملتاعة والشعور الحقيقي بالفقد, على عكس شعرها القليل في معاوية, الذي لا يكاد يقارن بشعرها في صخر. وهذا الأخير ـ أي شعرها في صخر ـ هو الذي ذاعت شهرته, وبسببه ذاعت شهرة الخنساء شاعرة الرثاء والبكائيات. كذلك, مما يثير الدهشة ويتصف بالغرابة, صمت الخنساء أمام فاجعة مزلزلة من شأنها أن تمزق قلب أي أم وتفجر كوامن حزنها وشعورها بهول المصاب حين استشهد أبناؤها الأربعة في وقعة القادسية ـ في السنة السادسة عشرة للهجرة ـ وكانت تصحبهم وتوصيهم من أول الليل قائلة: يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله تعالى سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين, وبالله على أعدائه مستنصرين. فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها واضطرمت لظى على سباقها وجلّلت ناراً على أوراقها فتيمموا وطيسها, وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها, تظفروا بالمغنم والكرامة في دار الخلود والمقامة) صمتُ الخنساء أمام هذه الواقعة المزلزلة ـ وهي ترى أبناءها الأربعة يستشهدون واحداً بعد الآخر ـ حتى إنه لا يروى لها بيت شعري واحد ترثي به فلذات كبدها, جعل الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها عن الخنساء ترى في هذا: (موقفاً شاذاً منكراً مصدره انحراف في طبيعة تماضر جعل عاطفة الأخوة فيها تطغى على عاطفة الأمومة التي هي جوهر الأنوثة والعنصر الأصيل في مقومات الفطرة لحواء). بينما يرى الدكتور حمود في موقف بنت الشاطئ كثيراً من المبالغة, مستشهداً بالنادرة المتوارثة عن السلف من أن حاكماً طاغية استدعى امرأة لم تقدم له الاحترام اللائق وقرر معاقبتها بقتل زوجها أو ولدها أو أخيها وطلب إليها أن تختار فجاء ردّها صاعقاً: الزوج موجود والولد مولود أما الأخ فمن أين يعود? فاستحسن الطاغية الرد, وعفا عن المرأة ولم يقتل أحداً. أيا ما كان السبب أو التفسير فإن شعر الخنساء في أخويها يظل هو شعرها الحقيقي, الباقي, والمتصل. وتظل قصائدها في أخيها صخر أهم شعرها كله وأفضله. ويبدو أن صخراً أيضا كان شاعراً, فقد روى كل من (العقد الفريد) و(الأغاني) أبياتاً لصخر في ثنايا قصة مقتله: غزا صخر بن عمرو بني أسد بن خزيمة واكتسح إبلهم فوصل الخبر إلى بني أسد فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل فاقتتلوا قتالاً شديداً. فطــعن ربيعة بن ثور الأسدي صخرا في جنبه, وفات القوم بالغنيمة. وجرى صخر من الطعنة فظل مريضاً قرابة الحول ـ أي العام ـ حتى ملّه أهله, فسمع امرأة من جاراته تسأل سلمى امرأته: كيف بعلك? قالت: لا حيٌّ فيرجى ولا ميت فيُنسى, لقد لقينا منه الأمرّين. وكانت تُسأل أمٌّه كيف صخر? فتقول: أرجو له العافية إن شاء الله. فقال صخر في ذلك مقارناً بين موقفي امرأته وأمه:
ما زلت أذكر أول أبيات طالعتها من شعر الخنساء في رثاء أخيها صخر, كانت من بين محفوظاتنا ونحن في مدارج العلم الأولى نتشرب في شغف النصوص الشعرية والنثرية في كتاب (المنتخب من أدب العرب). وبالإضافة إلى العاطفة الشجية في شعر الرثاء والبكاء التي كانت تستهوينا وتستثيرنا في هذه السّن الباكرة, فقد كان لشعر الخنساء وقع جميل في النفس وجرس موسيقي مطرب, ولغة شفيفة صافية, لا إعنات فيها ولا معاظلة, تنسابُ في رهافة وتدفق وإيقاع آسر:
(في رواية أخرى لهذا البيت: على قتلاهمو بدلا من على إخوانهم).
ـ وكانت تجاورها مقطوعة ثانية, تؤكد ـ بدورها خصائص شعر الخنساء وسماته الأساسية التي جعلته قريباً إلى القلوب نافذاً إلى الوجدان:
وحين يمضي بنا العمر, ونتقلب في مدارجه, وصولاً إلى ما لم يُتح لنا ـ ونحن صغار ـ من شعر الخنساء, نجد بين أيدينا عدة طبعات من ديوانها, مصرية ولبنانية ـ وتستوقفنا قصيدتها الطويلة التي تتضمن أشهر أبياتها في صخر وأكثرها دوراناً على الألسنة والأقلام:
(في بعض الطبعات: ذَرَفت بدلا من ذرّفت وإذ خلت بدلا من أنْ خلت).
(ما عمرت: أي ما عاشت ومفتار: أي مقصرة. تقول لو بكيت عليه طول عمري فإني أظل مقصرة في حقه).
(أبو عمرو: كُنْية أخيها صخر)
(النخيزة: الطبع والتكوين, المهصار: الذي يدق الأعناق).
(السبنتي: الجريء الشجاع والكلمة من صفات النمر)
(الردينى: الرمح, الأُسوار: السَوار. لم تنفد شبيبته: أي لم تذهب حدّته ومضاؤه).
(الدسيعة: القِدر. العزاء: الشدة والموقف الصعب. النقيبة: المجد والشرف).
(فرع لفرع: أي رأس لرأس. المؤتشب: المخلوط الحسب, المريرة: العزيمة والإرادة والقوة).
(المقمطرات: الصخور العظيمة. اللحد: القبر)
(ذو فَجر: ذو خير ومعروف. الدسيعة: العطاء الموفور. أمّار: كثير إصدار الأوامر أي أنه زعيم القوم).
(المقتر: الفقير, والإقتار: الفقر. حريبته: ماله وثروته).
(المهلكة: الأرض القفر يضل فيها المسافر. الطخية, الغيمة التي تخفي النجوم فلا يُهتدى بها).
(سالوه أي سألوه, الخلعة: أفضل ما يمتلك أو لعلها ما يلبسه ويضعه على جسمه, المُرّار: من يمرون به عابرين, ولا يجاوزونه أي ينزلون ضيوفاً عليه ولا يذهبون لغيره). ولقد بقي لنا بكاء الخنساء, ورثاؤها لأخويها. أمّا صمتها الشعري عند استشهاد أبنائها الأربعة فقد دخل في عِداد المسكوت عنه في شعرنا العربي ـ وهو كثير ـ يلفت انتباهنا بعْضَ الوقت, وسُرعان ما تزول الدهشة, وتَجرفنا الحياة!
|