لحظة تاريخ

لحظة تاريخ
        

الخليفة جائعاً!

          كان قد لبث في الحكم طويلاً، ستين عامًا كاملة، تواصل عهده وامتد ظله حتى عبر حدود مصر إلى سهوب الشام شمالاً، وجبال اليمن جنوبًا، ورفعت الخطب باسمه على منابر بغداد ومكة، وشهد أيامًا من العز لم يشهدها ملك من الملوك، تلتها أيام من الشدة، جفت فيها الضروع وفني الخلق، ثم شاخ عقله، ووهنت عزيمته، وانسحب ظله فلم يعد يحيط إلا ببقعة صغيرة حول القصر الذي يعيش فيه، وسبحان الذي يغير ولا يتغير.

العشر الأولى: سنوات الصبا

          كان المستنصر بالله في السادسة من عمره عندما نودي به سلطانا على مصر، أحاط به الوزراء والقادة الضخام الحجم، وكان العرش أعلى من أن يستطيع الوصول إليه، والحرس يهزون رماحهم ويدقون صدورهم في أصوات مخيفة. ألبسوه عمامة ضخمة، وعباءة واسعة أخذ يتعثر فيها حتى انكفأ على وجهه، ووضعوا له درجًا خشبيًا حتى يصل للعرش. وبينما كان القاضي يتلو كلامًا غامضًا، كان «معد» الصغير يدور بعينيه بحثا عنها، عن وجهها الأسمر وطولها الفارع وشعرها المهوش كرأس نخلة، يتمنى أن تنتهي كل هذه المراسيم المتعبة لتأتي وتأخذه في أحضانها بعيدًا عن الضجة والزحام. وعندما صاح القاضي يعلن أنه أصبح سلطانًا على مصر، وأن لقبه من هذه اللحظة أصبح المستنصر بالله الفاطمي، لم يدر لماذا يغيرون اسمه، ولا لماذا ينحنون أمامه ثم ينسحبون دون أن يديروا ظهورهم له، بل يواصلون التحديق فيه بنفس النظرات الغاضبة. وعندما أصبحت القاعة خالية أخيرًا خرجت هي من وراء الستر، وجهها الأسمر مشرق بابتسامة رائعة، قفز من فوق العرش وارتمى في أحضانها وهو يهتف:

          ـ أمي، أنا خائف منهم جميعًا.

          احتضنته وقبلت جبينه، كان هو كل أملها ورهانها الأخير، قالت:

          ـ لا تخف، سوف نستعين بمن هو أقوى منهم جميعًا، أبو سعد التستري.

          كان جسدها يرتعد وهي تردد الاسم، كانت جارية صغيرة حين جاءوا بها من السودان، وعندما عرضت في سوق الجواري اشتراها اليهودي أبو سعد بثمن بخس، أصبحت محظيته والجارية الأولى في بيته، وفي ذات ليلة أقبل الخليفة الظاهر لدين الله الفاطمي حتى يسهر في مجلسه، ورآها الخليفة وهي تغني وترقص وتقدم أقداح الشراب، فلم يستطع أن يرفع عينيه من عليها، ظل يشرب من يدها ولا يرى إلا ابتسامتها، هلال منير وسط سمرة وجهها، و أبو سعد يراقبه بعين ماكرة، وعندما طلب منه الخليفة أن يبيعها له، قال :

          ـ إنما هي هديتي لك يامولاي، على أن تهديني أرضا مقطوعة بجانب بركة «الرطلي».

          وتمت الصفقة في الليلة نفسها، ظفر الخليفة بالجارية السمراء، واقتنص اليهودي قطعة كبيرة من الأرض، بني عليها بيوتًا لأهله وعشيرته سميت فيما بعد «حارة اليهود».

          اليوم يعاود نجم أبي سعد الصعود من جديد، يدخل قصر الخليفة المستنصر مدججا بجيش من الحرس والكتبة وكلهم من اليهود، تستقبله أم الخليفة بجسد مرتعد وتطلب منه أن يشرف على إدارة أملاكها، ولكن اتباعه ينتهزون الفرصة ويمدون أصابعهم إلى كل مكان تتدفق منه الأموال، الضرائب والمكوس والجبايات، يبحثون خلف أموال الخليفة، وأنصبة العسكر، وريع كل القرى والدساكر، وبدأ الحنق يتصاعد لدى وزير الدولة «العلاجي» ولدى القادة القدامى من الترك والمغاربة، أدركت أم الخليفة ذلك فأنشأت حرسها الخاص، كان حرسًا أسود كلهم من السودانيين، يدينون لها بالولاء المطلق، وأطلقت عليهم تسمية «الحرس الملوكي»، وأضافت سببًا آخر لغيظ القادة وحدوث النزاعات المستمرة، وكان الخليفة الغلام آخر من يعلم بالجمر المضطرم تحت الرماد، أثناء الاحتفالات بسفر الحجيج إلى مكة، سكر الجنود من كل الألوان، وشهروا السيوف وبدأ القتال بين الترك والعرب واليهود والمصريين والسودانيين، ولم تهدأ الفتنة إلا بعد قتل جمع هائل بمن فيهم أبو سعد التستري نفسه، وأحست السيدة السوداء بالحنق والغضب، وبدأت من جديد في الإعداد للانتقام. 

العشر الثانية: سنوات النضج

          كانت سنوات هادئة، ولكن جسد الخليفة كان مضطرمًا، بلغت الدولة أقصى حدها من القوة والمنعة والثراء، ولكن قوته ظلت ناقصة، ظلت أمه تحرك الجميع من خلف الستر، تملي أوامرها، وتختار عشاقها دون أن يجرؤ أحد على معارضتها، وكان المستنصر يلقي على وزيره الأكبر أوامر متضاربة ومتناقضة ولكنها في الأغلب لم تكن تنفذ، كان كل شيء متاحا أمامه، ولكنه لم يدر ماذا يريد، إلى أن رأى «شاهي» أمامه، امرأة فارهة، لم ير أحدا في جمالها، كانت زوجة «معز الدولة» والي حلب، لم يذهب المستنصر إلى مدينتها، ولكنها هي التي جاءت إليه بمفردها بعد أن تركت زوجها يحاول إنقاذ مايمكن انقاذه من مدينته المحاصرة.

          حين دخلت إلى قاعة العرش أدهشها بياض المرمر الذي يكسو الأرض، وحسبت أنها سوف تخوض في بركة من المياه، رفعت ثوبها وكشفت عن ساقيها، بلقيس جديدة، شامية وناصعة البياض، ليست بسواد أمه القاتم، وقف أمامها فرأى صفاء عينيها وسبائك شعرها، قالت وهي تحني رأسها:

          ـ مولاي.. أرسلني زوجي لأعرض عليك السلام.

          ولكنها زادت من اضطرابه، كان زوجها قد حاول أن يستقل بولايته عن سلطة الخليفة، واشتعلت بينهما حروب لا تنقطع، وبالرغم من أن «معز الدولة» قد استعان بالعباسيين وبملوك الروم، فإن جيوش المنتصر كانت له بالمرصاد، حاصرت مدينته وأخذت في دك أسوارها وأخذت تطلب رأسه، ولم تجد الزوجة الوفية من سبيل إلا أن تقطع الصحراء وتقتحم أسوار قصر الخليفة لتنقذ حياة زوجها.

          كيف يمكن رفض طلبها أو رد وساطتها، طلب منها المستنصر بصوت منبهر أن تنزل على قصره ضيفة عزيزة، ووعدها أن يبعث برسالة عاجلة لقائد جيشه حتى يتراجع عند أسوار حلب، وأفرد لها مكانًا خاصًا في الحريم، ظل مذهولا في مكانه على العرش، وعندما جاءت أمه لتستجلي الخبر لم يطق النظر إلى وجهها الأسمر المليء بالتجاعيد.

          في منتصف الليل ذهب إلى غرفتها، وجد «شاهي» نائمة تحت ضوء القمر، أكثر بهاء من ضوء النهار، نهضت فزعة وهي قالت :

          ـ مولاي، ماذا سيقول زوجي؟

          قال وهو يجذب رداءها: هو الذي أرسلك إليّ.

          كانت هذه تجربته الحقيقية التي لم ينسها أبدا، ونقطة تحوله أيضا، لم يكتشف فقط الرجولة الكامنة في جسده الغض، ولكن أيضا مدى السلطة المطلقة التي يتمتع بها أيضا، كان أول مافعله في الصباح أن أمر أمه أن تتوارى داخل الحريم، وأن تكف عن إلقاء أوامرها للوزراء والقادة، وأن ينزع منها لقب السيدة صاحبة المقام، وأمر قائده ناصر الدولة الطفيلي أن يطارد كل السودانيين المسلحين من بقايا جيش أمه، وأن يدخل كل اليهود إلى حارتهم مرة أخرى، ارتفع صوته عاليًا ونافذًا وآمرًا للجميع، كانوا يعلمون بزياراته الليلية لزوجة الوالي، ولم يتصوروا أن يدخل غرفتها غلامًا مراهقًا ويخرج رجلاً ناضجًا شديد الثقة بالنفس.

          كانت مهمة «شاهي» كرسولة قد طالت أكثر مما ينبغي، وأدت من المهمة أكثر مما هو متطلب، لذا فقد أعلنت للمستنصر عن عزمها للعودة لزوجها، ولكنه هتف بها:

          ـ ولكن زوجك هنا؟

          وعندما نظرت إليه في دهشة، سحبها من يدها، سار بها عبر ممرات طويلة، وهبط بها فوق سلالم زلقة، وأدخلها إلى نفق رطب ومظلم، وهناك شهقت من رعب، كان زوجها فعلاً في انتظارها، ولكن لم يكن باقيا منه إلا رأس معلق على أسنة الرماح. 

العشر الثالثة: سنوات القوة

          من فوق كل المنابر، من نهر سلا بالمغرب إلى شط العرب بالعراق، ارتفعت الدعوات بنصرة الخليفة المستنصر، كان في عنفوان شبابه، والدولة في أوج قوتها، ليس ببأس جيوشه فقط، ولكن بواسطة أتباعه الذين كانوا يواصلون الانتشار، استطاعوا أن يصلوا إلى بغداد، وأن يستولوا على عاصمة العباسيين للمرة الأولى، واضطر الخليفة المقتدي بالله للهرب باحثًا عن انصار له وسط الأتراك السلاجقة، ارتفع اسم المسنتصر أيضًا فوق منابر الحرمين في مكة والمدينة، ووصلت أصداؤه إلى جبال اليمن، لم تكن في الأرض كلها ـ في ذلك الزمن ـ دولة بقوته، ولاملك في جاهه وسلطانه، ولا رخاء كالذي حدث في عهده، ولم ينس الناس تاريخهم الطويل مع الجوع والشظف إلا في تلك الأيام، ولكن هذا لم يدم طويلاً، لان النيل كان قد بدأ يغضب.

العشر الرابعة: سنوات الشدة

          غاض النيل، حان وقت الفيضان ولكنه ظل ساكنا أسفل الضفاف، كانت مياهه فاترة رخوة، لا تحمل تلك الحمرة المتوهجة، التي يكتسبها النيل من تفتيت صخور الحبشة البركانية، ولا تتدفق بالغزارة التي تستمدها من بحيرات الزنج، كان أعجز من يصل إلى الارض، التي امتلأت البذور واستعدت لاستقباله.

          لم ترحل السفن للصعيد، ولم تأت الغلال، وسحب التجار كل ما كان معروضًا منها، وتضاعفت الأسعار بين ليلة وضحاها، ولكن كانت هناك بقية من رخاء فائت، أحس الناس أنهم يستطيعون المقاومة حتى تنتهي تلك الغضبة المؤقتة للنهر، وحتى السلطان نفسه، لم ينتبه لما أصاب النيل، كان مشغولاً في الصراع مع وزيره ناصر الدولة، النجم الجديد الصاعد الذي قمع السودانيين وقتل والي حلب، وأعاد اليهود إلى حارتهم، كانت أم الخليفة هي أيضًا، التي اكتشفت مواهبه، أعجبها لون جلده الشاحب، وعيناه الملونتان، فقربته أكثر مما ينبغي، فتحت أمامه كل خزائن الدولة الممتلئة فأخذ يغرف منها، ولكن المستنصر كان قد سئم منها، من تقلب أحوالها، لكنه كان يعرف أن معركته معها خاسرة، لذلك قرر أن يشق جيش ناصر الدولة من حوله، فالجند يتبعون دائمًا قائدًا أوحد هو الذهب، لذا فقد بذل منه الكثير، انشق جزء كبير من الجيش وتخلى عن الوزير، وخاض المستنصر أول معاركه في مواجهة عشيق أمه وانتصر فيها، ولكنها لم تكن هزيمة نهائية، فقد هرب ناصر الدولة للإسكندرية وأخذ يستعد للمعركة المقبلة .

          وفي العام التالي غاض النيل أكثر، ظهرت القيعان الطينية للترع والرياحين، وانكشفت بقايا عظام الغرقى من حيوانات وبشر، حادة وعارية، كأنها تحذرهم من الكارثة المقبلة، اشتدت أيام الجوع، توقفت الأفران عن العمل، وارتفع ثمن الرغيف الواحد في حارة القناديل إلى 15 دينارًا كاملاً، وخلت مخازن الخليفة من الغلال فهبط جنوده يضربون الناس في الطرقات ويخطفون مافي أيديهم من أقوات، أصبح هناك سعر للقطط والكلاب، من ظفر بها فقد ظفر بوجبة شهية وتم القضاء على جميع الخيل والبغال والحمير.

          حتى الخليفة نفسه أصابه الفقر والمجاعة، حاصره الجنود وأخذوا مايقدرون عليه من نفائس قصره وهو عاجز عن ردهم، ثم هبط بنفسه وجلس أمام القصر، وقد كوم خلفه الأشياء الثمينة التى تركها له أجداده من سيوف ودروع مرصعة بالجوهر وأطباق من الذهب والفضة، ثياب وعباءات مطرزة بالذهب وخيوط الفضة، وهو يقول باكيا:

          ـ من يأخذ هذا مقابل رغيف من الخبز، من يتصدق على خليفة المسلمين.

          ونهبت مكتبة القصر التي كانت تحتوي على آلاف المجلدات، مزق الجنود الترك أوراقها ونثروها، أو أخذوا أغلفتها الثمينة، وجعلوا منها نعالاً لهم، خرجت نساء الخليفة هائمات على وجوههن، مكشوفات الرأس حافيات الأقدام، يستجدين الجميع ولو كسرة من الخبز، وعندما سقطن على الأرض من فرط الإعياء كان الجوعى في انتظارهن، وكانت هناك حارة في الفسطاط يوجد فيها عشرون بيتا من أجمل بيوت القاهرة، بيعت كلها في مقابل طبق من الخبز، وسميت حارة الطبق حتى الآن، وهبطت سيدة من الأشراف من بيتها وحلت عقدًا من الجوهر كان حول عنقها وهي تناشد الجميع من أجل رغيف من الخبز في مقابل كل هذه الجواهر، ولكنها لم تجد من هو على استعداد لمبادلتها، فألقت العقد وهي تقول : إذا لم تسد رمقي فما فائدة أي جواهر؟ وسارت ذاهلة، وظل العقد في مكانه على الأرض لأيام عديده دون ان يأبه به احد.

          وجف النيل أكثر حتى أنشقت القيعان، فانتشر الوباء، امتلأت البيوت والقصور والمساجد والطرقات والأزقة بالموتى، في كل يوم كان يموت أكثر من عشرة آلاف نفس جوعًا ومرضًا، لم يكن هناك من يقدر على دفن أحد، وركضت الفئران تنشر الطاعون في كل مكان، وأفرغت قرى ومدن بأكملها من كل ما فيها من بشر وحيوان، تحولت إلى مقبرة مفتوحة لا يسمع فيها إلا دبيب الفئران ولا يشم غير رائحة العفن.

          وعندما جاء ناصر الدولة أخيرًا من الإسكندرية لم يجد من يقاومه أو يواجهه، سار هو وجنوده وسط طرقات مليئة بالموتى، ودخل قصر الخليفة فوجده خاويًا ومعتمًا، لايوجد به حارس واحد، دخل إلى الطرقات الممتدة، رأى الغرف كلها خالية، بلا أثات ولا رياش، قاعة العرش كانت بلا عرش، وكان الخليفة يجلس على قطعة مهترئة من سجادة رومية، وليس أمامه إلا رغيف واحد من الخبز تصدقت به واحدة من أقربائه، وكانت عظامه بارزة ونظراته ذاهلة، ولم يدر من الذي يقف أمامه.

العشر الخامسة: سنوات البعث

          استيقظ النهر أخيرًا، جاء بمياهه الحمراء المتوهجة، ارتفع حتى فاض على الضفاف، ولكن لم يكن هناك من يغرس أو يزرع، القرى خالية والسواقي صامتة، والأرض السوداء، التى تهيأت وتغطت بالطمي تنتظر من يشقها ويخرج ثمارها، كان السيد الصامت الموت مازال يفرض سطوته على الوادي الممتد، لأكثر من عام، والنيل يفيض ثم يغيض دون أن تدور ساقية، أو يشق باطن الأرض محراث.

          ثم حدثت المعجزة المصرية التقليدية، ظهر الفلاحون، بذرة الخلق، سر البقاء في هذا الوادي، الذين لا يملكون ولا يحكمون، ويمارسون إعمار الارض بفطرة وتلقائية، ظهر قلائل منهم، الذين نجوا من الجوع والوباء، خطوا على الارض كأنها الخطوات الأولى في بدء الخليقة، دفنوا موتاهم ورمموا ترعهم وأصلحوا سواقيهم وأخذو يغرسون بذور القمح والذرة والشعير، تلك اللمسة السحرية التي كانت دومًا تنقذ سكان الوادي من الانقراض، وتمكنهم من مقاومة الغزاة والأوبئة والفياضانات وعسف الحكام، وعلى مدى آلاف السنين، في كل يوم مثل دأبهم، كانت أجسادهم تتشرب ندى الفجر ولا يجف عرقهم إلا مع غياب آخر ضوء، بدأ الوادي يبعث من جديد.

          أما في القاهرة فقد كانت الصراعات مازالت محتدمة حول قصر الخليفة، لم تهدأ إلا بعد أن قتل ناصر الدولة ـ كالعادة ـ على يد واحد من أقرب الناس إليه، ثم أقبل حاكم عكا القوي بدر الدين الجمالي كي يهزم كل فلول المتمردين ويعيد بناء القاهرة المخربة من جديد.

أخيرًا.. العشر الأخيرة

          كان السلطان جائعًا، وسيظل جائعًا، انتهت الشدة ولم تغادر جسده وخز آلام الجوع، تكاثرت الغلال، وامتلأت الأسواق بالدواجن والزبد والجبن وسلال البيض، وعادت الحيوانات الضالة للتجول في الحواري، وتبادل الجيران الذين أكلوا لحم أهلهم نظرات خجلى دون لوم أو عتاب، ولكن الخليفة ظل يستيقظ في منتصف الليل وهو يصيح:

          ـ أنا جائع، أنا ميت من الجوع

          وفي البداية كان الطباخون يسرعون بإيقاد النار، وتدب الحركة في المطابخ السلطانية، يعدون سماطا ضخما، ولا ينسون اطباق الفاكهة والحلوى، ولكن ما إن يأكل الخليفة لقمة أو اثنتين حتى تتقلص بطنه، ويحتقن وجهه ويتقيأ كل شيء، ثم لم يعودوا يأبهون بصراخه، كانوا يعرفون أنه سيظل يتلوى من ألم الجوع حتى يأتيه رغيف الصدقة، كانت قريبته مازالت تواصل إرساله، وكان هو اللقيمات الوحيدة الذي تتقبله معدته وتستقر في بطنه، كان يهدأ قليلا، ولكن ما إن يشاهد الأسمطة التي يحتشد بها القصر، ويشم رائحة الطعام القادمة من المطابخ حتى تتلوى أمعاؤه ويعود للصياح من جديد .. أنا جائع.. و تتواصل دورة الصراخ والبكاء.

          وأخيرًا يموت المستنصر جائعًا بعد أن أطال البقاء، وتثاقل ظله فوق أرض الله وعباد الله.

 

محمد المنسي قنديل