جمال العربية

جمال العربية
        

في الذكرى الماسية لرحيل شوقي
(1932 - 2007)

          في منتصف شهر أكتوبر الماضي 2007، حلّت الذكرى الخامسة والسبعون لرحيل أحمد شوقي، الشاعر التنويري الذي يجسّد مشروع النهضة الذي بدأ في مصر والعالم العربي مع خواتيم القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.

          من هنا كان طبيعيًا أن يتوهّج شعر شوقي - في مجال الدعوة والرسالة - بالدعوة إلى مؤازرة مشروع الجامعة المصرية، وتعليم المرأة، وبناء الاقتصاد الوطني، وتكريم المعلم، والعامل، واستنهاض النزعة الوطنية والهوية المصرية، التي تمخضت عن ثورة 1919، والتنبّه القومي إلى تيار التحرر والمقاومة ضد المستعمر في سورية وليبيا وغيرهما من الأقطار العربية، بالإضافة إلى استنبات مشروع المسرح الشعري لأول مرة في الشعر العربي، ووضع اللبنات الأولى في ديوان شعر الأطفال.

          شوقي - بهذا المعنى - هو شاعر النهضة الحديثة، وشاعر التنوير، والشاعر الذي استوعبت قصيدته الجماليات الشعرية، التي حفل بها تاريخ القصيدة العربية، كما حملت قصيدته - في الوقت نفسه - الملامح الأولى والإرهاصات المبكرة لتيارات التجديد في الشعر الحديث من بعده، خاصة ما يتصل بالتيار الرومانسي في شعر جماعة أبولو، وفي شعر جماعة الديوان - التي سبقت جماعة أبولو - وحمل أصحابها على شوقي حملة ضارية، تلاشت أصداؤها وبقي شعر شوقي.

          هذا إذن هو درس شوقي العظيم، الذي هضم موروثه الشعري وتجاوزه، وانفتح على موروث العالم من حوله، وتحاور معه وانفعل به، فكان دوره المجدد وصورته المغايرة لشعراء عصره وزمانه، وحجم تأثيره في مسار الشعر العربي من بعده، ونفوذه الواسع في معيار الشعرية والشاعرية، ودوره في استلهام الشعر - بمفهومه الإنساني - الذي تداولته الأمم والشعوب، وجعْل هذا الشعر في خاتمة المطاف، وعاء للتاريخ والطبيعة والكون والنفس الإنسانية، فاستحق أن يقال عنه: خاتمة القدماء وطليعة المحدثين.

          لقد شغل شوقي عصره وزمانه كما شغل المتنبي - من قبله بألف عام - عصره وزمانه، وكلاهما نجم كبير في سماء الشعر العربي، وحلقة مهمة في سلسلة حلقات المتابعة. والذي قيل عن المتنبي وشاعريته وأسباب سيطرته القوية على الذاكرة العربية، واستدعائها الدائم لشعره، وكأنه جماع ما لدى العرب من شعر، كلام كثير. لكنه لم يفلح - حتى الآن - في تشخيص السرّ أو الأسرار الكاشفة عن تجليات الإبداع الشعري لديه، وبقي الأمر وسوف يظلّ مثار تأويلات واجتهادات قابلة للمناقشة، من غير أن تدعي قدرتها على الحسم أو الإتيان بالكلمة الأخيرة. ربما لأنه ليست هناك كلمة أخيرة. وإنما الأمر - في حال شاعر كبير بحجم المتنبي - سيظل مفتوحًا، قابلاً لكل نظر جديد، وتقليب مغاير ومدخل مختلف.

          وما قيل عن المتنبي وانشغال الناس به حتى اليوم، كثير منه يصدق على شوقي. ليس لأنهما متشابهان، فلست أرى ثمة تشابها، بل لأنهما عبقريتان شعريتان حمل كل منهما لواء الشعر في زمانه، على طريقته، وطبقًا لما قُدّر له من رحابة العصر واتساع الأفق الشعري، وقدرة كل منهما على صهر مخزونه من الخبرات والتجارب والمواقف، وسبْر أغوار النفس الإنسانية في سبيكة الحكمة أو منظومة الحكمة، التي جعلت من المتنبي شاعرها في القديم، وحققت لشوقي دوران كثير من شعره على الألسنة والأقلام، في معرض الاستشهاد بخبرة الحياة والاتكاء عليها والانطلاق منها. وفي هذا المجال بالذات، لا نجد شعرًا يزاحم مأثور المتنبي - الذي يتردد حيًا وساطعًا ومؤثرًا - غير ما توهجت به شاعرية شوقي، وأتيح له من السبك المحكم والصياغة الرصينة، واللغة الطيعة، والقدرة على النفاذ، ما جعله يتردد بدوره، ويأخذ مكانه، وبخاصة لدى أصحاب الثقافة الشعرية الحديثة الذين بدأت علاقتهم بالشعر من خلال ما أنجزه البارودي وشوقي وحافظ وإسماعيل صبري ومطران في مصر، ونظراؤهم في العراق وسورية ولبنان وغيرها من الأقطار وفي مقدمتهم: الرصافي والزهاوي والجواهري، وبدوي الجبل وأبو ريشة، وبشارة الخوري وأمين نخلة، ومَن في طبقتهم من الشعراء. من بين لآلئ شوقي الشعرية في ديوانه، قصيدته في حفل تكريمه ومبايعته بإمارة الشعر، وهو الحفل الذي أقيم في شهر مارس عام 1927 - بدار الأوبرا الملكية - وكان تحت رعاية الملك فؤاد وبرئاسة زعيم الأمة سعد باشا زغلول. وهو الحفل الذي وقف فيه شاعر النيل حافظ إبراهيم، ينطق بلسان الشعراء، ويخاطب الشاعر المكرّم بقوله:

أمير القوافي قد أتيتُ مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي


          وقصيدة شوقي في هذا الحفل التكريمي كاشفة عن وعيه بدور الشعر في تجسيد الهوية العربية والانتماء العربي، وحفظ أمجاد الأمة ومفاخرها، ووعيه بدوره هو الشعري في حياة هذه الأمة وهو يقول:

كان شعري الغناءَ في فرح الشرقِ وكان العزاء في أحزانهْ
قد قضى الله أن يُؤلّفنا الجرحُ وأن نلتقي على أشجانه


          يقول شوقي:

مرحبًا بالربيع في ريْعانه وبأنوارهِ وطيب زمانهْ
رفّت الأرض في مواكبِ آذار وشبّ الزمان في مهرجانهْ
نزل السّهْلَ ضاحَك البشر يمشي فيه مشي الأمير في بستانه
عاد جليًا براحتيه ووشيًا طول أنهاره، وعرض جنانه
لفّ في طيلسانه طُررَ الأرضِ فطاب الأديم من طيلسانه
ساحرٌ فتنة العيون مبين فصّل الماء في الربا بجمانه
عبقري الخيال زاد على الطيف وأربى عليه في ألوانه
صِبغة الله أين منها رفائيلُ ومنقاشهُ وسحْر بنانه
رنّم الروض جدولاً ونسيمًا وتلا طير أيكه غصنُ بانه
وشدت في الربّا الرياحين همسًا كتغنيّ الطروب في وجدانهْ
كلّ ريحانة بلحنٍ كعُرسٍ ألّفت للغناء شتى قيانه
نغم في السماء والأرض شتى من معاني الربيع أو ألحانه
أين نورُ الربيع من زَهَر الشعر إذا ما استوى على أفنانه
سرمدُ الحسن والبشاشة مهما تلتمسه تجدْهُ في إبّانه
حسنٌ في أوانه كل شيء وجمال القريض بعد أوانه
ملك ظله على ربْوة الخلد وكرسيّه على خُلْجانه
أمر الله بالحقيقة والحكمة فالتـقتا على صولجانه
لم تثُرْ أمة إلى الحقّ إلا بهدي الشعر أو خطا شيطانه
ليس عزف النحاس أوقع منه في شجاع الفؤاد أو في جبانه
ظلّلتني عنايةٌ من فؤادٍ ظلّل الله عرشه بأمانهْ
ورعاني، رعى الإله له الفاروق طفلا، ويوم مرجوّ شانهْ
ملك النيل من مصبيه بالشطّ إلى منبعيه من سودانهْ
هو في الملك بدرهُ المتجلي حُفّ بالهالتين من برلمانهْ
زاده الله بالنيابة عزًا فوق عزّ الجلال من سلطانهْ
منبر الحق في أمانة سعدٍ وقوامُ الأمور في ميزانه
لم يَرَ الشرقُ داعيًا مثل سعدٍ رجّه من بطاحه ورعانِهْ
ذكّرتْهُ عقيدة الناس فيه كيف كان الدخول في أديانهْ
نهضةٌ من فتى الشيوخ وروح سَرَيا كالشباب في عُنفوانه
حرّكا الشرق من سكونٍ إلى القيْدِ وثارا به على أرسانهْ
وإذا النفس أُنهضت من مريض درج البرءُ في قُوى جُثْمانِهِ
يا عكاظًا تألّف الشرقُ فيه من فلسطينه إلى بغدانهْ
افتقدْنا الحجاز فيه فلم نعثرْ على قُسّه ولا سحبانه
حملت مصرُ دونه هيكل الدين وروح البنيان من فُرقانه
وطدّت فيك من دعائمها الفصحى وشُدّ البنيانُ من أركانِهْ
إنما أنت حلْبةٌ لم يُسخّرْ مثلها للكلام يومَ رهانِهْ
تتبارى أصائل الشام فيها والمذاكي العتاقُ من لُبْنانِهْ
قلّدتني الملوكُ من لؤلؤ البحرين آلاءها ومن مَرْجانِهْ
نخلة لاتزال في الشرق معنى من بداواته ومن عُمرانهْ
حنّ للشام حقبةً وإليها فاتحُ الغَرْب من بني مرْوانَه
وحبْتني بومباي فيها يراعًا أفُرغَ الودّ فيه من عقْيانه
ليس تلقى يراعها الهندُ إلا في ذرا الخُلْق أو وراء ضمانِهْ
أنتضيه انتضاءَ موسى عصاهُ يفرقُ المستبدّ من ثُعْبانِه
يلتقي الوحي من عقيدة حُرّ كالحواريّ في مدى إيمانهْ
غير باغٍ إذا تطلّب حقًا أو لئيم اللّجاج في عدوانه
موكبُ الشعر حرّك المتنبي في ثراهُ، وهزَّ من حسّانهْ
شرُفت مصرُ بالشموس من الشرقِ نجوم البيان من أعيانهِ
قد عرفْنا بفضله كلَّ أفْقٍ واستبنّا الكتاب من عُنْوانِهُ
لستُ أنسى يدًا لإخوان صدْقٍ منحوني جزاءَ ما لم أُعانِهْ
رُبّ سامي البيانِ نبّه شأني أنا أسمو إلى نباهة شانِهْ
كان بالسّبْق والميادين أَوْلى لو جرى الحظُّ في سواءِ عِنانهْ
إنما أظهروا يدَ الله عندي وأذاعوا الجميل من إحسانه
ما الرحيق الذي يذوقون من كرْمي وإن عشْتُ طائفًا بدنانِهْ
وهبُوني الحمامَ لذّة سجْعٍ أين فضلُ الحمامِ في تحنانِهْ
وترٌ في اللهاةِ، ما للمغنيّ من يدٍ في صفائهِ وليانهُ
رُبَّ جارٍ تلفّتت مصرُ تُوليه سؤال الكريم عن جيرانِهْ
بعثتني معزّيا بمآقي وطني، أو مهنّئًا بلسانهْ
كان شعري الغناء في فرح الشرقِ وكان العزاءَ في أحزانهْ
قد قضى اللهُ أن يؤلفنا الجر حُ وأن نلتقي على أشجانه
كلما أنّ بالعراق جريحٌ لمس الشرقُ جنبه في عُمانه
وعلينا كما عليكم حديدٌ تَتَنزَّى الليوثُ في قُضبانه
نحن في الفقه بالديار سواءٌ كلنا مشفِقٌ على أوطانه


***

          وفي القصيدة التفات واعٍ من شوقي إلى الدور والرسالة اللذين جسّدهما في شعره، وكانا سببًا في الإجماع على مبايعته في حفل تكريمه، وفيها أيضًا هذا العناق الحميم الذي تجلّى في صيغة الحفل، وكانت الدولة ممثلة برمزيْها الكبيرين: الملك فؤاد وزعيم الأمة سعد باشا زغلول، بالإضافة إلى كوكبة الشعراء والأدباء والكتّاب وأعلام البيان. كما أنها - في الوقت نفسه - نموذج بديع نتأمل من خلاله فن شوقي الباقي، ودرسه العظيم التأثير والدلالة، ودور

          «الجدّ» الشعري، الرائد والمؤسس، ومُودع الجينات في أبنائه وأحفاده من الشعراء، جيلاً بعد جيل.

 

فاروق شوشة