إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي

إذا اعلولى الصياح

إلى وقت غير بعيد, كانت الكلمة ذات شأن في دولة الأدب. فقد كان الشاعر يُمضي أيّاماً وليالي في البحث عن عبارة ضائعة أو عن قافية عصيّة. وكان الأديب لا يُفرج عن عمل أدبي له إلا وقد استوى في أحسن تكوين. كانت الألفاظ عند هؤلاء الأدباء بمنازلها تجمل وتقبح. فاللفظة القلقة كان من شأنها أن تجعل البنيان الأدبي كله قلقاً. أما اللفظة الواقعة في موقعها, فقد كان من شأنها أن تجعل هذا البنيان متيناً مرصوصاً.
وقد روى أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني) أنهم تذاكروا يوماً في حضرة الجاحظ شعر أبي العتاهية, إلى أن جرى ذكر أرجوزته (ذات الأمثال) فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:

يا للـشباب المرح التصابي روائح الجنة فـي الشباب


فقال الجاحظ للمنشد: قفْ! ثم قال: انظروا إلى قوله: (روائح الجنّة في الشباب), فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب, وتعجز عن ترجمته الألسنة!

ويُروى أن حافظ إبراهيم, شاعر النيل, وقد كان حريصاً على البيان المضيء, قال مرة في بعض مجالسه في دمشق, أنه طالما استظهر طوالاً وقصاراً لسْن بشيء من أجل لفظة بارعة, أو قافية نازلة موضعها. وحول ذلك ذكر هذه الأبيات الثلاثة وهي لواحد من شعراء الحماسة, وقال: إني أحفظها عن ظهر قلب من نحو ثلاثين سنة أو تزيد, حبّاً للفظة (وندّعي) في آخر الأبيات:

أسميّ: ويحـك! هـل سـمعـت بغـدر رُفع اللواء لنا بها في المجمع
أنا نعـفّ, فلا نريب حلـيـفـنا, ونكفّ شحّ نفوسنا في المطمع
ونقي بآمـن مالنا احـسابنا ونجرّ في الهيجا الرماح, وندّعي...

ثم روى خليل مطران, وكان إلى جانب حافظ إبراهيم في المجلس قصة (اعلولى) في قصيدة حافظ: (بنات الشعر بالنفحات جودي), قال خليل مطران: أنشدنا حافظ قصيدته, على عادته في عرض شعره على إخوانه قبل أن يخرجه في الصحف, فلما انتهى في القصيدة إلى قوله:

إذا ارتفع الصـياح فلا تـلـمنا فإن الناس في جهد جهيد


فقلت له: أنا ما أحببت (ارتفع) هذه, فحبّذا لو يكون لك ما هو آنس منها... فقال: وأنا, والله, ما أحببتها, ولا تزال عيناي إلى غيرها. ثم مضت بضعة أيام , فجرى في خاطري: (إذا اعلولى الصياح)... وصادفت في بعض الطريق محمد امام العبد الشاعر, فقلت له: إذا رأيت حافظاً فقُلْ له عني انني وجدت اللفظة. ولم أذكر اللفظة لإمام... فلما مضى النهار, وكاد ليله ينتصف, إلا قليلاً, جاءني حافظ يقرع عليّ وقد تعب وأعيا, وإلى جانبه إمام, فصاح بي بصوت متهّدج: أدركني فقد خربت بيتي! إذ إن هذا الأسود الماكر شرب الليلة, وأكل, وسمر, على حسابي, وبقي قائماً على رأسي إلى الآن. وهو مازال يداورني ولا يذكر لي اسم الشاعر الذي وجد اللفظة المنشودة حتى أتمّ حيلته.

كان هذا هو الوضع عند الأدباء العرب, وعند الشعراء العرب, على الخصوص, في النصف الأول من القرن العشرين. فهل كان كذلك في النصف الثاني منه? وهل هو على هذه الصورة الآن?

 

جهاد فاضل