عالم الصورة وثقافة العين

عالم الصورة وثقافة العين

نحن نعيش عصر تكنولوجيا الصورة.
فقد تقدمت كل الأشكال الثقافية الأخرى لتصبح تعبيراً وأداة في تشكيل مشاهد الحضارة المعاصرة.

على الرغم من أن الكتابة ضرب من ضروب التصوير بالخط, والرسم بالأشكال, وتندرج ضمن فضاء الخطاب البصري فإنها لم تعد معيارا للتمييز بين الثقافة الشفوية والحضارة في ظل عالم الصورة الذي مثل تقاطع الأنماط الإنتاجية مع الأنماط الاستهلاكية, فهنالك تنافس حاد بين الأسواق الصغيرة وذات المساحات الكبرى من أجل الهيمنة على ثقافة العين واستلابها بالصورة, مما أضفى عليها طابعا من الرخاء المادي, والرفاهية السحرية لا يملك الإنسان المعاصر, أمام وسائلها الجبارة, إلا الانقياد والتسليم مثل: الإشهار, الإعلانات, التلفزيون, السينما, الفيديو وغيرها, حيث لا يستطيع الفرد أن يقاوم إغراء الصورة التي تفرض عليه أحيانا عادات سيئة, وفي هذا المقام نتذكر الإشهار للتدخين في أفلام (رعاة البقر) الأمريكية, والتأثير الضار الذي تركته في صحة الإنسان, وكذلك صورة (المرأة المدخنة) في الأفلام السينمائية, والمسلسلات التلفزيونية في الستينيات بوصفها علامة من علامات التحرر والتحضر.

تغلبت آلات التصوير على آلات الكتابة من حيث التأثير في ثقافة العين, وينطبق ذلك حتى على المواصلات السلكية واللاسلكية, إذ لم يعد الإنسان المعاصر يقنع بالاتصال مع إنسان آخر اتصالا سمعيا, بل يطمح إلى التواصل معه تواصلا بصريا, وتحويل الفضاء الخارجي إلى فضاء داخلي عبر قناة الصورة وتقليص أبعادها الشاسعة إلى أبعاد قياسية محدودة, ثم إخضاعها للتحليل بواسطة أنظمة الإعلام الآلي المبرمجة, مثلما هو الحال بالنسبة للأرصاد الجوية, والتقاط صور لمعرفة ظاهر الأرض وباطنها لأغراض علمية وعسكرية, وكذلك الحال بالنسبة للكواكب الأخرى.

إن شبكة العين الطبيعية أو الاصطناعية أصبحت بلا منافس في رسم معالم الحضارة المعاصرة, ولا تأتي الثقافة المكتوبة, إلا في المقام الثاني. والواقع أن الكتابة بوصفها خطابا بصريا ولغويا لم تزحزح الصورة عن منزلتها فحسب, بل ساعدت اللسانيات المعاصرة على التشكيك في قداستها, والطعن على مكانتها المبجلة. وقد نظرت الفلسفة التفكيكية إلى تراجع سلطة الكتابة على أنها أمارة من أمارات بقايا تأثير الميتافيزيقا في العقلانية الأوربية الحديثة, وأنانية الثقافة الغربية المتمركزة. فأصاب حضارة الصورة العجب بنفسها, والتباهي بدرجة التقدم التي وصلت إليها, حتى تنكرت للإسهامات الحضارية الأخرى, ولم تعد تقبل الحوار مع الثقافات الإنسانية المختلفة.

إن تراجع الكتابة يدل على سيادة المسموع على المرئي, من منطلق أن ثقافة الأذن أكثر اقتصادا في إنفاق الجهد من أجل التلقي, بالقياس إلى ثقافة العين, ولكن لذة العين أكثر حظوة من لذة الأذن, لهذا جاء الأثر النبوي الشريف يعد من فقد حبيبتيه (العينين) ثم صبر بدخول الجنة. وليس أدل على ذلك من التداخل بين الصورة السمعية والصورة البصرية في الأغاني المعاصرة ذات الإيقاع السريع (الأغاني المصورة). فقد خضع المكتوب (كلمات الأغنية) والمسموع (التلحين والإيقاع) إلى التصوير بالعين الاصطناعية (الكاميرا). إن الإقرار بتفوق ثقافة العين لا يلغي أن الحضارة المعاصرة مازالت حضارة ضجيج ممثلة في صخب الموسيقى وأصوات السيارات العادية, والخاصة (سيارات الشرطة والإسعاف والحماية المدنية), والقطارات والطائرات ودوي الأسلحة الفتاكة واللعب الحارقة وأجراس المنازل ورنين الهواتف والإنذارات, فتضاءلت أصوات الطبيعة وصراخ الإنسان أمام ضجيج المدنية المعاصرة.

دلالة الصورة

يدفعنا هذا الواقع إلى توسيع دلالة الصورة لتشمل النشاط الذهني (الصورة العقلية والفكرية), والنشاط النفسي (الخيال والإدراك), والنشاط اللغوي (الصور السمعية Images acoustiques), والمجال الفني (العمارة والنحت والموسيقى والرسم والكاريكاتور والشعر). وهي كلها من مظاهر حضارة الصورة التي تتجلى في الأبعاد المكانية الملموسة والمجردة, وتعمل في المقابل على خلق عالم متطابق مع الواقع (خطاب الصورة الفوتوغرافية) أو عالم بديل للواقع المعيش أكثر سحرا وأكثر صدقا أحيانا, وهو الذي يحظى في الغالب الأعم بامتلاك المتلقي والاستحواذ على بصره وبصيرته.

كل تلك المستويات من الصور تمر عبر قناة العين الاصطناعية إن هي أرادت أن تصل إلى العين الطبيعية (التلفزيون والسينما والإشهار والفيديو, وشبكات الاتصال الإعلامية المرئية كالإعلام الآلي وشبكة الإنترنت). وقد يعد ذلك من مظاهر تراجع ثقافة الكتابة أمام زحف ثقافة الصورة وكأن الحضارة المعاصرة تعيش عهدا جديدا من الشفوية, وتنتج أساطيرها الخاصة, فصرنا نتحدث عن ميثولوجيا معاصرة لا تقل سحرا عن الميثولوجيات القديمة, وتلاشت الفروق بين الواقع والأسطورة أو كادت.

وظيفة الصورة

لم يجانب الصواب من وصف وسائل الإعلام بأنها السلطة الرابعة في المجتمع إن لم تكن أعلى مقاما من ذلك, وهو ما نصح به زعيم الصهيونية لليهود لكي يستولوا على دوائر الإعلام العالمية, ويأخذوا بزمام الصورة. وهم فاعلون, لذلك يقفون وراء صناعة القرار وترويجه وجعله واقعا مفروضا. وقد تفطن العرب, كعادتهم, متأخرين, فأدركوا ضرورة الاستثمار في مجال الإعلام, ولكن إذا تأملنا محتويات الرسالة الإعلامية العربية المرئية ألفيناها بلا استراتيجية ولا رؤية محددة. وإن كانت بعض الفعاليات الإعلامية العربية الموجودة في الغرب أكثر عطاء, فهي تسير في الاتجاه السليم, وتحتاج إلى دعم المال العربي, وتجنب الصراعات الأيديولوجية والسياسية الهامشية للدخول في التنافس المتكافئ من أجل التأثير بالصورة في المتلقي العربي أولا والغربي ثانيا. وهذا لا يتم إلا بإنجاز صناعة إعلامية متكاملة ومتقدمة, يكون فيها للصورة الحظ الوافر, ولاسيما أن دولنا العربية تتوافر على موارد بشرية هائلة, بحاجة إلى استغلال أمثل. كما أنه يتطلب الإحاطة بنظرية التأثير, وإفساح المجال للمزيد من الحرية والإبداع والتحليل, وممارسة النقد الذاتي, ونبذ ثقافة التبرير, والسعي إلى التجانس السياسي, والإعلامي والثقافي والاقتصادي داخل وحدة متنوعة ومتلاحمة, لا تخضع عناصرها إلى منطق (التابع والمتبوع).

يميل الإعلام المعاصر إلى إشباع حاجات المتلقي, وإرضاء رغباته, وتلبية طلباته, وذلك بتحسين الصورة وترقيتها, وجذب عدد متزايد من الجمهور المشاهد, لا يمكن قياسه البتة بعدد الذين يتلقون الرسالة المكتوبة. إن مجتمع الصورة يضم إليه ما تستبعده ثقافة الكتابة, حيث يلتقي المثقف بالأمي في استهلاك منتوجها استهلاكا متباينا بطبيعة الحال, بل تصبح على عاتق مجتمع الصورة مسئولية ترقية مستوى الأمي وتعليمه وتثقيفه. فكثير من المشاهدين العرب يتابعون النشرات الإخبارية والحصص الثقافية والترفيهية التى تلقي بلغة عربية فصيحة, لا يستطيع أن يفهمها العديد منهم, لكن الصور التي ترافق التقديم والتعليق تسد مسد اللغة, وتملأ هذا النقص بخلق سياق معين لفهم رسالة الصورة الإخبارية أكثر من إدراك محتواها. وهذه الظاهرة تحتاج إلى معالجة لسانية واجتماعية ونفسية وتربوية. فلغة الصورة تفسح المجال للتأويل, واستنباط المحتوى الذي تتضمنه,وتفرض نفسها على الإنسان سواء في البيت (التلفزيون, الفيديو, الصور الفوتوغرافية, اللوحات الزيتية) أو في الشارع (الإعلانات والصور الدعائية).

صحيح أن هناك تداخلا بين الثقافة الشفوية البدائية وثقافة المطبعة وحضارة الصورة لا يمكن أن نغفله, وندعي أن الشفوي قد اندحر إلى الأبد أمام نسخ الناسخين وابتكار جوتنبرغ Gutenberg, وأن المطبعة لا دور لها في عالم الصورة. فلكل خصائصه ومميزاته وإسهاماته في تشكيل مشاهد الثقافة الإنسانية. فالرسالة التي تحمل خبرا مدونا ومعلومة مكتوبة تسمح للمؤرخ والمتلقي بإعادة قراءتها وتأملها تأملا دوريا في كل لحظة.هل يمكن المفاضلة بين عالم تنسجه الحروف والكلمات والجمل, وتقدمه في شكل مولفات ومجلدات, وعالم يفيض بالصور الحية؟ وفي أي العالمين تكون فيه الحقيقة ناصعة, والواقع مؤثرا؟ قد تكون الإجابة على مثل هذه التساؤلات ذات منحى فلسفي وجمالي, لكننا قد لا نختلف على أن الصورة التي تناسب انسيابا جيبيا (مثل الدوال الجيبية في الرياضيات) من شاشة التلفزيون أو السينما, أبلغ تأثيرا في العين التي تمتصها امتصاصا إلى درجة الانعكاس السلبي على صحتها وسلامتها إن هي داومت هذه المشاهدة.

التلفزيون يسبق الجميع

تدل الإحصاءات على أن قصبات السبق هي للصورة التلفزيونية أكثر مما لوسائل الإعلام الأخرى كالراديو والصحافة المكتوبة, ففي عام 1985 أجرت بعض الدوائر الإعلامية المختصة إحصاء استكشف أن المشاهدين الفرنسيين الذين تتجاوز أعمارهم خمس عشرة سنة ينفقون خمس عشرة ساعة في رؤية التلفزيون, وعشر ساعات وثلاثين دقيقة في الاستماع إلى الراديو, وساعتين وثلاثين دقيقة في قراءة الجرائد اليومية.

إذا كانت الكتابة تمثل حضارة النسق (ترتيب الحروف ترتيبا خطيا) وبلاغة الوضوح من حيث المقروئية والتمييز بين وحداتها (الحروف والكلمات والجمل) فإن الصورة على العكس من ذلك, قد لا تخضع للنسق والوضوح والتمييز, لأننا قد نشاهد فيضا من الصور المتنافرة في نشرة إخبارية قصيرة وفي زمن محدود. فليس هناك تنسيق خطي بينها ولا وضوح بين أجزائها. وكثيرا ما نتساءل: ما الجامع بين هذه الصورة أو تلك, وبخاصة في أفلام الرعب والتجسس, والصور ذات المنحى السريالي.

قد يفضي بنا هذا التحليل إلى تسجيل خصيصة في غاية الأهمية تميز بين ثقافة الكتابة وحضارة الصورة. فالكتابة تؤطرها النزعة الفردية, فهناك المؤلف/الفرد (وما عداه استثناء) هو الذي يكتب, فلا يمكن أن تدبج أكثر من يد واحدة وفي آن واحد. وهناك المتلقي/الفرد الذي يقوم بعملية القراءة, فلا تستطيع مجموعة أن تقرأ قراءة جهرية مؤلفا واحدا في لحظة زمنية واحدة ما عدا الترتيل والإنشاد الجماعيين. وفي المقابل فالصورة التلفزيونية أو السينمائية يصنعها فريق من الناس (النص والتمثيل والتصوير والديكور والموسيقى والإخراج) وتتلقاها مجموعة من المشاهدين في لحظة زمنية واحدة.

الكتابة تتجه إلى الفرد, والصورة تخاطب المجموعة. إن حضارة الصورة تجاوزت منطق النزعة الفردية, وتبنت خيار النزعة الجماهيرية طلبا للتسويق والاستهلاك والتأثير في الرأي العام, فهي لم تعد تؤمن بقيم النخبة الأرستقراطية, بل بالقيم الاستهلاكية وحدها التي تمليها الفلسفة البراغماتية. ومن هنا راهنت كثيرا على وسائل الإشهار, لأن المدنية المعاصرة قفزت في العقود الأخيرة من سلطة الاقتصاد إلى سلطة اقتصاد السوق, ومن الفردية إلى العولمة, ومن الزعامة التاريخية إلى عهد المؤسسات المستقلة, ومن العالم المترامي الأطراف بحدوده الجغرافية إلى عالم القرية الصغيرة (شبكات الإنترنت).

كانت الكتابة هي التي تحدد طبيعة السلطة السياسية المركزية, وترسم القرارات الحاسمة التي تؤثر في نسيج الجسد الاجتماعي, وتفرض سلوكا أخلاقيا عبر أجهزة الدولة, وعلى رأسها جهاز الإدارة, بعدما نقلت الإنسان من المرحلة الشفوية إلى مرحلة (التاريخ) ثم جاءت حضارة الصورة لتنقل الإنسان من الحداثة إلى ما بعد الحداثة (Post- Modernite) وتقلص ساعة العالم إلى حدود القرية الصغيرة, وتكاد تمتد إلى حد تحطيم مفهوم الدولة القطرية, ولاسيما بعد انتشار الإنترنت (Internet) التي فرضت على عالم الاجتماع السياسي أن يعيد النظر في جهاز مفاهيمه, ويجدد متصوراته النظرية, ويفكر تفكيرا عميقا في السلطة الرمزية التي أنتجها خطاب الصورة لكونه يقدم الواقع تقديما شفافا وحاضرا, ويشترط تفاعل المتلقي مع شفراته تفاعلا انفعاليا. فهو يجمع بين ثقافة الأذن وثقافة العين, وهذا ما جعل الفرد وبمجرد الإحساس بوجوده التلفزيون في البيت بان ذلك كفيل بملء الفراغ.

تروج المؤسسات الاقتصادية والتجارية لمنتوجاتها عبر الصورة الإعلانية التي يستولي التلفزيون على حصة الأسد منها.

الصورة والإثارة

مما لاشك فيه أن الخطاب البصري أبلغ تأثيرا من بقية الخطابات الأخرى في الفرد والمجتمع, ونظرا لخطورة الصورة وفتنتها اشتد التنافس بين وسائل الإعلام المرئية من أجل الإثارة, وخرق المحرمات بجميع أشكالها, وانتهاك حرمة الحياة الشخصية للأفراد وللجماعات وعرضها على الملأ بحجة حق الإنسان في الإعلام, ومعرفة الحقيقة الناصعة, والواقع الحي, وتمس بخاصة الشخصيات المعروفة في عالمنا المعاصر, ولاسيما رجالات السياسة كمثال على ذلك(فضيحة وزير العدل الروسي في مشهد عار مع مجموعة من الفتيات), التي تناقلتها شاشات التلفزيون العالمية التي تبحث دوما عن مواطن الإثارة, وتحطيم الحدود بين الحياة الخاصة للإنسان ـ مهما كان سلمه الاجتماعي ـ والمتفرج.

إن العين الاصطناعية قادرة على أن تقدم للعين الطبيعية ما هي عاجزة عن إدراكه والوصول إليه, وبخاصة ما هو مسكوت عنه, أو ما هو في دائرة المحرمات والأسرار. فهي تمارس العنف الأخلاقي على منظومة القيم الاجتماعية والثقافية وتهجن الذوق العام. فولوع حضارة الصورة بكل ما هو مثير يسم ثقافة هذا العصر بميسم العابر والطارئ (الموضة). ويعطيها طابعا انتقاليا لا تحده حدود, مما يترك الانطباع لدى المتأمل في حضارة الصورة بأن ثقافة العين تمارس جنونا من نوع خاص يمكن أن نسميه ـ تجاوزا ـ جنونا معقلنا, أصبح فيه العقل البشري عبدا مطيعا للنزوات الشرسة, وللغرائز الهائجة.

بدأ جنون الإثارة ينقلب سلبا على مصداقية الصورة, فقد تراجعت ثقة المشاهد فيما يقدمه التلفزيون تراجعا ملحوظا في الآونة الأخيرة. ودلت بعض الإحصاءات أن التلفزيون شهد تراجعا خطيرا في تقديم الصورة الموضوعية الصادقة, إذ يعتقد 49% من المشاهدين في مصداقية الصورة التلفزيونية فقد ضيع الكثير من النقاط التي كان يتوافر عليها قبل عام 1989 في فرنسا.

وإذا شئنا الصدق فإن المشاهد العربي لا يثق كثيرا في العلامة البصرية التي تنقل إليه المعلومات والأخبار عبر شاشات التلفزيون. لهذا يبحث عنها فيما تقدمه له الصحون المقعرة. ولعل ظاهرة انتشارها الواسع فوق سطوح المنازل والعمارات في البلدان العربية وبخاصة الجزائر, تدل على أن اللغة الغالبة على الخطاب العربي تبعث على القرف, وتشجع على طلب سوق إعلامية غير عربية مع ما تحمله من آثار سلبية. لكن هذا الواقع الإعلامي القائم بدأت تتغير ملامحه في الآونة الأخيرة, نظرا لسوق المنافسة الإعلامية العالمية التي تحتاج إلى دراسة معمقة, وتتطلب تغيير الذهنيات وتجديدها, وكذلك البنيات الثقافية ومعايير الحكم لاستقبال القرن القادم بروح جديدة تخرق لولب الصمت الذي ولده الواقع العربي المثخن بالهزائم والانكسارات التي يصعب جبرها في زمن قياسي قصير.

الصورة: الواقع والوهم

تراهن الصورة على البعد الأيقوني للواقع الذي يتحول من المجرد إلى المحسوس, ومن اللا معقول إلى المعقول. فتستدعي الموضوعات المجردة واللا معقولة لتحولها إلى علامات أيقونية, يتجلى فيها الواقع في صور خيالية تضفي عليها القوى الإبداعية الخلاقة للإنسان سمات سحرية وأسطورية وهنا تكمن خطورة الصورة في تحويل الواقع إلى عالم من اللعب يبهج العين ويفتنها, ويخيل إلى المرء بأن هذا الواقع لم يسبق أن رآه, على الرغم من أنه عالم نثري مألوف وغارق في الرتابة اليومية.

هذه الحقيقة تجرنا إلى ضرورة التفكير في خلق متصورات جديدة لبلاغة الصورة أو جمالية الخطاب البصري في ضوء مستحدثات تكنولوجية الصورة التي تستطيع أن تتشكك في خطاب الحقيقة التي تقدمها الصورة, وأن تخدع المتلقي وتزيف الواقع أمام عينيه.

وفي المقابل ارتفعت عقيرة المدافعين عن حقوق الانسان والمستهلك لتعلن عن انتهاك الصورة لحق الإنسان في إعلام موضوعي صادق, وصورة بريئة من التدجيل والتزييف. ويثار جدل حاد بين أوساط الإعلاميين والمثقفين حول الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه حضارة الصورة, والمسلك الذي تتخذه ثقافة العين.

وتكاد تصبح الصورة التلفزيونية والسينمائية مدرسة للرعب وتخريج المشاغبين نظرا لما تبثه من صور العنف والإقبال على أمراض العصر (الجنس, المخدرات, السطو), وإشباع الغرائز العدوانية وتسويق قيم الشر وتشجيع القبح الثقافي الذي يحفز على حب الجريمة وتنمية الانحراف السادي الذي لا يبقي شيئا من الخير والجمال ولا يذر.

وأمام بشاعة صورة الواقع التي يقدمها التلفزيون وقاعات السينما, لم يعد كافيا القول بأن ما هو غير واقعي وغير معقول يرادف السينما والخداع البصري, بل صار يميل إلى محاكاة الواقع وتقليده إلى درجة الإدمان على هذه الصور العنيفة, لأنها تنشط في داخله هرمونات العدوانية. وهكذا اختلط الواقع بالوهم, وتلاشت الحدود بينهما, وضاعت مصداقية الصورة, فلم تعد حاملة لخطاب الحقيقة, ولكنها مازالت تحتفظ بمتخيلها العجائبي, وتنتج أحلاما اصطناعية تجمع بين ذلك الثالوث اللاكاني (الواقعي والخيالي والرمزي) وتمزج بين التقليدي والحداثي, وتؤاخي بين الأزمنة والأمكنة, وتقرب القيم الثقافية المختلفة إلى مجتمع المشاهدين الذين يتواصلون بدون تأشيرات. لقد كان الفيلسوف الألماني فيورباخ L. Feuerbach صادقا عندما تنبأ في القرن التاسع عشر بأن العالم المعاصر يفضل الاصطناعي على الطبيعي والصورة على الشيء, والنسخة على الأصل, ويقدس الوهم على الواقع.

 

أحمد يوسف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات