الإرهاص بزلزال التطرف

الإرهاص بزلزال التطرف

قد تخفي بوادر الاهتزازات الكبرى في المجتمعات عن أعين الدراسين والسياسين، لكن بصيرة الأدب والفن لا تفلتها.

من الصفحة الثالثة لرواية الطاهر وطار ـ الزلزال ـ تظهر علامات التغير جامعة بين نقيضين: الإيجاب والسلب. الإيجاب الذي يؤذن بانتهاء عالم الشيخ القديم من منظور الكاتب المضمر, والسلب المرتبط بالعالم الجديد الصاعد الذي يبدو منتصرا. هكذا, نقرأ عن المدنية التي (تبدو أنظف مما كانت عليه أزهى. تعددت الألوان. وقل اللون الأوربي السكري الوقور).

وفي الوقت نفسه, ومع امتداد الأسطر ذاتها, نرى الوجه الآخر من المشهد, فالمدينة (تبدو.. أيضا منحنية, وكأنما تود أن تطل على أعماق هذا الأخدود العظيم). ويؤدي هذا الازدواج في الوصف الاستهلالي للمدينة دوره الدلالي بوصفه إشارة ترهص بتجاور نقيضين: عالم ينحدر إلى الغروب, وعالم يصعد صوب شروقه الجديد. وكل مظهر من مظاهر العالم الجديد الصاعد هو علامة على انحدار نقيضه الغائب. لكن يظل العالم الجديد الصاعد منطويا على التباس يجعل المدينة الواعدة بالجديد الموجب (تبدو.. منحنية) كأنها تتطلع إلى صورتها في أعماق الأخدود بدل أن تتطلع إلى صورتها المشرقة في الأعالي. والالتباس من هذه الزاوية نوع من الإرهاص الذي يوحي بأن العالم الجديد الصاعد لا يخلو من بذرة فساده الخاصة. لكن قبل أن نتوقف عند هذه البذرة, علينا أن نتأمل المظاهر الإيجابية للتغير في الرواية, خصوصا من حيث دلالتها على صعود العالم الجديد الواعد الذي رأته عينا الشيخ بو الأرواح.

هناك, أولا, أقرباء الشيخ الذين انقلب حالهم من الأسوأ إلى الأفضل في صعودهم مع صعود المجتمع الجديد. عمار الحلاق صهر الشيخ بو الأرواح, أخو زوجته الوحيدة الذي طرده شر طردة حين جاء ليقترض منه, انخرط في المقاومة, واستشهد استشهادا بطوليا, وأصبح من أبطال الثورة, وموضع فخر ابنه الذي بلغ السادسة عشرة من العمر. وعبدالقادر الغرابلي ابن العم, تاجر الغرابيل الذي استولى منه الشيخ على مائة هكتار جيدة من الأرض, نصفها على الماء, بعد أن عجز عن فك الرهن, صعد نجمه مع الاستقلال, وعلم نفسه بنفسه إلى أن تخرج في الجامعة وأصبح معلما في الثانوية. وعيسى المتصوف ابن الخالة, مقدم الشاذلية, تحول إلى نقابي, اشتراكي النزعة, يقول إن طريق الله أن تخدم عباد الله, وتقاوم أعداء الله, وتكافح الاضطهاد والاستغلال, وابن الأخ الطاهر, النشال, تدرج في المقاومة إلى أن أصبح ضابطا ساميا يحل ويربط. والرزقي البرادعي ابن عم الأب أصبح إمام جامع. الجميع انتقلوا إلى أوضاع اجتماعية أفضل من الأوضاع التي تركهم فيها الشيخ, وكلهم أصبح منتسبا إلى المجتمع الجديد الذي أصبح يهدد الشيخ بالخطر, ويوشك أن ينتزع منه أرضه تحت شعارات العدل الاجتماعي التي رأى فيها الشيخ علامات الكفر والإلحاد.

لماذا الأسف على الماضي؟

ولا تتوقف المتغيرات الإيجابية عند أقرباء الشيخ وإنما تمتد إلى الآخرين, دالة على أن الجزائر المستقلة أصبحت شعبا واحدا يتطلع إلى حياة أفضل, وأن (الدم الذي لم يربط الأبدان ربط التراب), حتى (نينو) عميل قوات الاحتلال, تخلى عن ماضيه الأسود, ويتحدث عن الحاضر بنبرة من الرضا والاستبشار بمستقبل الأحفاد: (لماذا الأسف على الماضي. ما فات مات. ارتكبنا أخطاء, وأثمنا في حق الناس وفي حق أنفسنا. ولكن كل شيء مر وولى. من كان يظن أن هذا يحصل. أنا شخصيا كنت أومن إيمانا جازما بأن إرادة فرنسا أقوى من إرادة الله. ما كان يخطر ببالي قط أن هذه الإرادة تنكسر ذات يوم, وتذل فرنسا, وتخرج منهزمة ونبقى فيها نحن).

وتتجاور مع ما سبق علامات دالة ترتبط بمسعى الدولة الجديدة لجزائر الاستقلال, سواء في مجالات الصحة والتعليم والإسكان والتصنيع وتحقيق العدل الاجتماعي, فلم تبق تقريبا (دشرة) بدون مدرسة, والحكومة تجبر الأطباء على سعر معين يمكن (الرعاع) ـ بلغة الشيخ بو الأرواح ـ من العلاج, وتسهل لعملة الأرض التداوى بالضمان الاجتماعي الذي تمنحه لهم.

وهناك مشروع الإصلاح الزراعي الذي سيبدأ, والذي سيمس الشيخ نفسه. وأخيرا, شباب الخدمة الوطنية الذين يشقون طريقا في الصحراء. وتتناثر في الرواية علامات أخرى تتجاوب مع هذه المظاهر الإيجابية, لتؤكد المعنى الواعد للافتات من مثل (جهة التحرير الوطني) و(دار النقابات), في علاقة بنوع من الحراك الاجتماعي الجديد الذي أدى إلى تداعي الحواجز التقليدية بين القرية والمدينة, ومن ثم زيادة الحراك السكاني الذي نقل القرويين إلى حال مغاير, رغم كل ما حملوه معهم إلى المدينة من عادات قراهم وتقاليدها.

ونحن نرى كل هذه المظاهر الإيجابية بعيني الشيخ, ومن خلال وعيه الذي رأى فيها علامات على الزلزال الذي أصاب عالم أمثاله بالانهيار, كما رأى فيها دلائل على إثم عظيم يستوجب العقاب الإلهي بزلزال أعظم لا يبقي ولا يذر. ولكن هذه المظاهر الإيجابية التي نراها بعيني الشيخ, ومن خلال وعيه, لا تلبث أن تلفتنا إلى ما تتضمنه من علامات مضادة, علامات تحمل جرثومة دمار المشروع التحديثي الذي أصاب عالم الشيخ نفسه بالدمار. والذي لا يمكن بحكم ما ينطوي عليه أن ينجح في التدمير النهائي لعالم الشيخ, بل يبعده عن المشهد إلى حين, لكن من غير أن يقطع نهائيا ما بينه وبين إمكانات العودة.

واللافت للانتباه من هذا المنظور أن نهاية الرواية لم تقض على الشيخ بو الأرواح قضاء مبرما, وإنما دفعته إلى هوة الجنون, وذلك في وضع مرضي لا يخلو من إمكانات الشفاء. ولذلك يترك الشيخ الصفحة الأخيرة للرواية, في عربة الإسعاف, وصوته يغرد مع الرباب (يا سيدي الطالب داوني نبرا), ويصل إلى سمعه صوت معين في رنة مغربية متوجعة: (الكلام المرصع فقد المذاق, والحرف البراق ضيع الحدة). وتنتهي الرواية بالكلمات الأخيرة, دالة على التباس يدفعنا إلى إعادة النظر فيها من منظور مغاير, هو منظور إمكان العالم الجديد الذي ينبني على كلام مرصع فقد المذاق, وحرف براق ضيع الحدة.

تجاور الأضداد

وإذا أعدنا قراءة الرواية من هذا المنظور الجديد, وهو المنظور الذي تتعدد معه دلالات الزلزال الذي يتحدث عنه الشيخ, اكتشفنا العناصر السلبية التي انبنى عليها العالم الصاعد الذي قام على أنقاض عالم الشيخ بو الأرواح, بل نكاد نكتشف أن العالم الجديد ورث آليات حاسمة من العالم القديم, وأن بنيته الواعدة ليست في حقيقتها سوى مقلوب البنية القديمة بعلاقاتها التسلطية ومستويات تراتبها القمعي. وإذا لم تكن علامات هذا النوع من الاكتشاف واضحة في النص لأنها مضمرة غير مباشرة, مختبئة وراء تعدد توسطات الدلالات المباشرة, ففي النص علامات سلبية مباشرة في دلالتها على العالم الجديد, نراها بعيني الشيخ, ومن خلال الأصوات التي يسمعها, والتي ينقلها إلينا السرد في تداعيات تيار وعيه.

هكذا, نرى بعدسة مغايرة حشود الناس الذين لا عمل لهم في قسنطينة إلا المشي, ولا مهنة تشدهم في أماكن واحدة, وذلك بسبب البطالة التي تتميز بها العواصم الفلاحية, حيث (يد تنتج وألف فم يستهلك, واحد يقبض والآلاف تتفرج, ستون يوما عملا في السنة, وثلاثمائة يوم بطالة). ونسمع عن تعذيب العمال الذين يطالبون بحقوقهم الإنسانية البسيطة, حيث تصبح مطالبة العالم بحقه العادل مصدرا للاتهام بالشيوعية والعمالة للخارج, وذلك في دولة تحلم بأن تبني مجتمعا اشتراكيا جديدا. ونسمع كذلك عن قائد الدورية الذي يقوم مقام البائع, وعن فساد الشرطة الذي جاوز الحد, وعمليات التعذيب التي تقع على الأبرياء, أو الذين يحتجون على الفساد من الذين تحملهم أجهزة الأمن إلى حيث لا يعلم أحد. ويترتب على ذلك سؤال شاك يطرحه شاب على قرين له فيما يصل إلى سمع الشيخ حول (تقدم الجزائر). وتأتي الإجابة جامعة بين السلب والإيجاب: (نعم ولا), كاشفة عن تجاور الأضداد في مشروع تحديثي يحمل في داخله بذرة فنائه, ويتيح لأعدائه إمكان النمو تحت عباءة شعاراته, في حين يضطهد حماته الحقيقيين, ويقمع الحريصين على تقدمه, فلا يرى الواقع من مصداق شعاراته سوى (يد تبني وعشر تهدم, الدولة تبني المعمل وأبناء الكلب لا يشغلون فيه إلا بالرشوة والمحاباة).

وتكون نتيجة ذلك ما نسمعه بأذني الشيخ بو الأرواح من محاورة بين طالبين جامعيين, تحمل معنى النذير, وتوحي بإمكان تخلق زلزال خطر يزلزل كل ما بناه مشروع التحديث الاشتراكي الجديد. ويقول أحد المتحاورين لقرينه: (إذا لم تحصل المراجعة الدقيقة, على ضوء المعطيات العلمية, وبروح ثورية لا تعرف التردد أو المساومة فسيكون الانهيار الكبير). ولا يترك قرينه المحاورة تنتهي إلا بعد أن يؤكد: (لابد من مراجعة عاجلة, عملية دقيقة وجريئة).

ولكن لم يقم أحد بالمراجعة الدقيقة, والروح الثورية التي لا تعرف التردد والمساومة سرعان ما أصابها النحات, وضاع جهد حسني النوايا بواسطة المفسدين والمرتشين, فكانت النهاية الأخرى التي أرهصت بها الرواية, وكان (الزلزال) الآخر الذي كان لابد أن يقع بعد سنوات من نشر رواية الطاهر وطار, خصوصا بعد أن تزايدت العناصر السلبية التي أشارت إليها الرواية, والمظاهر التي جعلت سوس الفساد ينخر البنيان الذي سرعان ما انهدم فيما يشبه الزلزال, مفسحا السبيل لعودة أمثال الشيخ بو الأرواح كالطوفان, ومن ثم ظهورهم من مكامنهم, وانتقالهم إلى موضع الصدارة الذي عملوا من أجله طويلا.

ويعني ذلك أن دلالة الالتباس في نهاية الرواية تنفك على نحو مبين, ونعرف معنى العلامة في صورة المدينة التي تبدو منحنية في مطلع الرواية, المدينة التي كانت تتطلع إلى أعماق الأخدود العظيم تحتها, كما لو كانت تطل على نهايتها. وندرك معنى عدم الدمار الكامل للشيخ بو الأرواح, وسر غيبته التي غدت مؤقتة فحسب. ويبدو الأمر كما لو كان الشيخ بو الأرواح قد ذهب إلى المستشفى ليعود منها مرة أخرى, بعد صحوته من هلوسة مرضه المؤقت. وكان ذلك بعد انتهاء صفحات الرواية بالطبع, وبعد نشرها بأعوام وأعوام, أعني بعد ظهور الشيخ, في هيئة جديدة مغايرة لا تفارق عناصرها الثابتة وأصولها الجامدة, متجسد في المئات من أشباهه أو أبنائه الذين نهضوا من السياقات المتسعة لأفكاره, وتولدوا عنها, كي يحققوا ما لم يستطع تحقيقه, ويضيفوا إلى مبدأ الرغبة التدميرية الذي انطوى عليه مبدأ الواقع الذي يتجلى في ممارسات العنف العاري للإرهاب الذي تعاني منه الجزائر باسم الدين. والنتيجة اغتيال المثقفين, دعاة الدولة المدنية, من الأدباء والفنانين والمفكرين في جزائر اليوم, جنبا إلى جنب مئات الأبرياء من الأطفال والشباب والشيوخ, فمن تخرجوا في المدارس الثانوية التي كان الشيخ بو الأرواح مدير إحداها تضاعف عددهم مرات ومرات, وتخرج أكثرهم في الجامعات التي تغلب عليها أقران الشيخ بو الأرواح, فكان طوفان الدم والإرهاب الذي لم ينقطع بعد.

دوائر الغياب

المفارقة الدالة في رواية (الزلزال) أن المؤلف المضمر فيها أراد لها أن تكون كشفا عن انهيار عالم الشيخ بو الأرواح, وتداعى كل شيء حوله, فإذا بالرواية تنتهي إلى أن تبرز نذر الخطر الذي يمكن أن ينتج عن سلوك أعداء الشيخ بو الأرواح أنفسهم, وذلك من خلال الإشارات السردية والعلامات الحوارية التي لا تبدو ملحوظة للوهلة الأولى. ومؤكد أنها لم تلفت الانتباه وقت صدور الرواية, لأن آليات الاستقبال الجمعي والفردي في ذلك الوقت كانت مشبعة بتوقعات انتصار المجتمع الجديد للحرية الوطنية والعدل الاجتماعي, ومن ثم كانت أجهزة الاستقبال مبرجمة في عمليات التلقي بما لا يستقبل إلا ما يتوقعه الوعي الجمعي من انتصار العالم الصاعد مع صعود موجات التحرر الوطني وتتابع قيام دول المشروع القومي.

وساعدت الذهنية المهيمنة على دولة المشروع القومي في تأكيد هذه البرمجة, وذلك من حيث هي ذهنية لم تكن تعرف منطق وضع الأشياء والأفعال والأحداث موضع المساءلة, ولم تكن تعرف سوى الطاعة لأوامر قادة المجتمع المنتصر على أعداء الأمس, الاستعمار وأعوانه,والتصديق للرسائل الهابطة من القمة إلى السفح, ومن ثم عدم رؤية إلا ما تؤكده دلالات هذه الرسائل, واقصاء ما عدا ذلك إلى دوائر الغياب التي يغفلها الإدراك عادة.

ولذلك بقيت العلامات السالبة في رواية (الزلزال) بعيدة عن بؤرة الرؤية في دوائر الاستقبال التي دخلتها رواية (الزلزال) في علاقات إعادة إنتاجها, حيث خضعت لمواصفات القراءة السائدة المنشغلة بعلامات انتصار المجتمع الثوري على الشيخ التقليدي. ولكن ظلت العلامات السالبة في الرواية باقية كصوت النذير الذي لا يريد أن يسمعه أحد. أو الذي لا يلتفت إليه أحد في ضجيج أصوات الانتصار على الاستعمار والرجعية نهائيا وإلى الأبد, وارتفاع درجة يقين التفاؤل بالمستقبل الذي تتحدث عنه الشعارات, والذي بدا قاب قوسين أو أدنى من التحقق, رغم أن المجتمع الثوري الجديد أبقى على مكونات المجتمع القديم في صلب بنيته متعددة الأبعاد. وتكمن قيمة رواية (الزلزال) في هذا الجانب تحديدا, أعنى جانب الكشف ـ من خلال تيار وعي الشيخ المتطرف ـ عن نذر انهيار المجتمع الذي سعى إلى القضاء على أمثال الشيخ بو الأرواح, محتفظا في الوقت نفسه بكثير من صفاته, كما لو كان هذا المجتمع يحكم على نفسه بالنهاية نفسها الذي يحكم بها على غيره, ما ظل منطويا على علاقات البنية نفسها, ومن ثم منطويا على بذرة الكارثة التي كان لابد أن تنتهي إليها أحلام التقدم لدولة وضعت ثقتها في أعداء التقدم, ولذلك لا تخفي الرواية نقدها القاسي للدولة, وتكشف عن الفساد الكامن في علاقات مؤسساتها, مبرزة الأسباب الرئيسية التي أدت إلى عجز هذه الدولة عن مواجهة دمارها الذاتي, بعد أن عملت ـ دون أن تدري ـ على الصعود الجديد لأمثال الشيخ بو الأرواح, وأسهمت ـ ولو على نحو غير مباشر ـ في تفجير زلزال الإرهاب الديني الذي لزلزل هذه الدولة, وكان بالدرجة الأولى تعبيرا عن عدم المراجعة الدقيقة بروح ثورية لا تعرف التردد أو المساومة.

وما حدث في الجزائز حدث في غير الجزائر, نتيجة طبيعية للعلامات التى أرهصت بالنهاية, وأشارت إلى تراكم المسببات التي تصاعدت إلى أن أحدثت الانهيار الكبير للزلزال الآخر, ذلك الذي عايشناه بعد سنوات من نشر هذه الرواية العلامة, على الأقل في إرهاصها بالقوى التي زلزلت أحلام العدل والديموقراطية والتقدم, معتمدة على غلبة العناصر التقليدية في الثقافة العربية السائدة, فأدخلتنا في دورة أخرى من دورات العنف العاري التي لن تنتهي توابع زلزالها المدمر في المدى القريب.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات