رضيت بعدم الفهم!

رضيت بعدم الفهم!

أنا مملوك, ولكني لست من عصر المماليك, لم يجلبني أحد من خارج حدود المحروسة ولم تخصص لي (اتابكبة) كما كانوا يقولون زمان.

أنا ابن هذا العصر بكل ما فيه من قضايا مثل (من أحق بمنصب زعيم الكوميديا).. ومثل (هل هي قرية خربتا).. أم (خربتها)?!

مملوك أنا, جلبت نفسي من أقصى شمال البلاد إلى العاصمة. جئت ومعي بعض أخلاق (الفرنجة) قبل أن يغادروا مصر نهائيا منذ سنوات. أعتذر للشخص الذي ترتطم كتفي بكتفه دون قصد مني فوق الرصيف. واستأذن قبل أن أدخل أي مكان. مارست هذا السلوك فترة طويلة حتى أجبرت على التخلي عنه. وإذا كنت اليوم قد أتممت ربع قرن بالتمام في العاصمة, فأستطيع القول إنني أمضيت خمس سنوات غريبا عنها, وأمضيت العشرين الباقية واحدا من المماليك!

* * *

أنا مملوك, مصيري ليس بيدي. كانت عندي أحلام واسعة وأهمها أن يكون لي بيت يطل على النيل في الشتاء, وبيت آخر يطل على البحر في الصيف. تحقق نصف الحلم لأن المماليك الآخرين استولوا على البيت الذي يطل على البحر, وبقيت بعيداً عن رماله وأمواجه الهادرة.

بعد موت أبي وأمي انفصمت كل علاقاتي الأسرية. وبعد تكرار أعطال التليفون تلاشت كل صداقاتي. في كل صباح أعيد ما فعلته في الصباح السابق. وفي كل ظهيرة انتظر عودة الذين غادروا البيت في الصباح فنتناول الغداء ونستسلم واحدا بعد الآخر للإرسال التليفزيوني.

مملوك أنا, أمامي باستمرار زجاجة (ميكرو كروم) صغيرة استعدادا لكل جروح مفاجئة ورمزا للمخاطر. بجوار الزجاجة تمثال صغير لأفلاطون أشتريته في إحدى الرحلات القديمة إلى (أثينا). أحس في أحيان كثيرة أن هناك تآلفا بين الزجاجة والتمثال, العقل والجسد, القلق, والجرح, الصراخ والغموض. في آخر مرة قال لي (أفلاطون): (ليس يكفي لفهم اللغة رؤية ألفاظها أو سماعها.. وإنما الإحساس ينبه قوة في النفس لولاها ما كان الفهم أبدا).

* * *

أنا مملوك, الفهم أصبح مشكلتي الرئيسية, ليست قضية الفهم الوحيدة هي (كيف أفهم) وإنما هي (لماذا أفهم).

فالفاهم لا يعرف كيف فهم.. وغير الفاهم لا يعرف لماذا لم يفهم.. كل خيوط (الفهم) معلقة, تبدأ الخطوات ناعمة وشبه مفهومة, ثم تختلط وتتشابك فتترك إلى فهم آخر. والنتيجة الوحيدة هي الرضاء بعدم الفهم.

مملوك أنا, أحاور نفسي التي لا تمتلكني:

* فصيلة دمك?

ـ لا أعرف... و

* لون عينيك?

ـ يقولون إنه بني!

* هل تدرك معنى ما يدور حولك?

ـ أحاول أن أفهم.

* أجمل ما في المرأة?

ـ الكذب..

* هذا شيء معنوي.. حدد.. الشعر.. الجسد.. الشفتان?

ـ كلها أدوات كذب..

* هل تحب الكذب?

ـ الكذابة حين تكذب.. فهي صادقة!

* * *

أنا مملوك, يتكرر في الليالي الأخيرة حلم واحد, أقوم من النوم وأنا لا أتذكر إلا مشهده الأخير. كل الذين عرفتهم ورحلوا إلى العالم الآخر يجتمعون في حفل كبير ويتكلمون في وقت واحد وأنا وسطهم لا أفهم شيئا. الجديد أن كل واحد منهم قد فقد اسمه. هي وهو فقط:

هي: فستان الزفاف لابد أن يكون أبيض.. الأبيض هو سيد الألوان.

هو: نفسي في قطعة جاتوه..

هي: ارتحت من ضغط الدم.. فقدت رأسي!

هو: قطعة الصوف مازالت معي.. يبدو أنني لن أذهب إلى الترزي!

هي: قطعت سيرة الرجال.. أين هم?!

هو: لم نعد نشهد أفلاما جديدة لمارلين مونرو.. هل اعتزلت?!

هي: أنا سأختار الشاليه البعيد عن الشاطئ.. أنا عاشقة الحرية!

هو: ضاعت أوراقي.. كيف سأعرف حسابي في البنك?!

هي: من فضلك أنا لا أحب سماع النكات الخارجة..

هو: لن أقرب الفراخ ما لم أذبحها بيدي..

هي: سيارتي?.. ياه.. لونها الآن أسود!

هو: خذي فنجاني.. ماذا ترين?.. ماذا يقول خط العمر?

هي: بعد إذنكم.. أنا ذاهبة لأستيقظ.. زهقت من النوم!

هو: اللعب كان زمان.. ضاع اللعب من يوم أن ابتكروا التصوير البطئ!

هي: أكذب لو قلت إنني لم أفكر في الزواج مرة ثانية..

هو: أنا كسبت الرهان.. هلموت كول سقط في الانتخابات!

هي: حفيدتي قطعة مني.. لولا أنفها الكبير.

هو: ابقوا معنا قليلا.. لماذا الاصرار على الرحيل.. ابقوا معنا!

هي: متى أذهب إلى طبيب الأسنان وحدي?

مملوك أنا, أفيق إلى إحساسي بأنني فعلت ما أفعله الآن مرة سابقة, بنفس المكان, نفس الزمان, نفس الكلمات.. فهل كنت أنا وقتها.. أم أنا الآن فقط?

يقابلني رجل طويل عريض في الطريق ويعطيني ورقة لأقرأ له العنوان. أكتشف على الفور أنه عنواني أنا. حتى ورقم الشقة في الورقة هو رقم شقتي. أسأله عن الشخص الذي يريده هناك فيقول اسمي. أقول له أنا فلان. يبدو عليه الاستنكار وهو ينزل بنظراته من فوقي إلى تحتي. يتركني ليسبقني إلى شقتي. أراه واقفا في انتظار أن يفتح له أحد الباب. أمد يدي بالمفتاح وأفتح الباب وأدخل ويظل هو واقفا في انتظار الشخص الذي يحمل اسمي. أنتظر قليلا بعد أن أغلقت الباب ثم أفتحه ثانية لأسأله:

* ماذا تريد حضرتك?

يقول كأنه لم يقابلني منذ قليل:

ـ أنت..

أتراجع ثم أتماسك:

ـ أهلا وسهلا.. أي خدمة?

يهجم داخلا دون دعوة للدخول, يلقي بنفسه فوق أول مقعد يقابله ويخرج من جيبه مظروفا أصفر, يناوله لي وهو يقول:

ـ هذه هي الأوراق التي طلبتها.

فتحت الظرف ووجدت بداخله ورقة بيضاء ليس فيها إلا جملة واحدة:

(قيراط حظ أحسن من فدان شطارة).

توقفت مكاني.. هل طلبت أنا هذه الورقة? لابد أنه انسان مجنون أو هارب من مستشفى الأمراض النفسية كما يسمونها الآن.. رجل طول بعرض.. ومقابلة في الطريق وتجاهل.. وهجوم على الشقة. وظرف أصفر. وورقة كبيرة ليس فيها إلا هذا الكلام المحفوظ.. مالي أنا والحظ?. مالي أنا والشطارة?!

ارتفع صوته:

ـ هل ستوقع بالاستلام?

أخرج ورقة طويلة كالتي يكتبون فيها قصائد الشعر ووضعها تحت عيني:

ـ اكتب اسمك هنا..

كتبت اسمي والظرف الأصفر ومعه الورقة البيضاء في يدي الأخرى. رأيته يستعد للانصراف بعد أن وضع الورقة الطويلة التي تحمل اسمي في جيبه. سألته قبل أن يغادر الشقة:

ـ من أنت?

ضحك, لا أعرف, ربما بكى.. فقد أصدر أصواتا مبهمة ثم قال وهو ينحني أمامه:

ـ أنا الحظ..

اندفعت أقول قبل أن يفرد قامته ثانية:

ـ تشرفنا.. مع السلامة!

فرد قامته, واستدار مبتعدا. انتظرت حتى اختفى وأسرعت بإغلاق باب الشقة. حين التفت إلى المقعد الذي كان جالسا عليه رأيت وردة (بلدي) حمراء.. أسرعت بالتقاط الوردة ووجدتها طازجة يفوح أريجها الذي أحبه. أنا لم أشهد هذه الوردة معه في المرتين اللتين قابلته فيهما. من أين أتى بهذه الوردة?!

أحضرت كوب ماء ووضعت فيه الوردة. قريبا من الوردة وضعت الظرف الأصفر الذي يخفي الورقة البيضاء, أحمر, أصفر, أبيض. هي كانت تقول إن الأبيض سيد الألوان!

أنا مملوك, فهمت الآن أنني في مستشفى. كل شيء أبيض في أبيض. يتهامسون دون أن يعرفوا أنني أسمع بأنني (ممسوس). قلت لنفسي لن أعترض لأنني أعلم أن المجنون هو وحده الذي يقول عن نفسه إنه غير مجنون. جاء الطبيب ليحاورني من جديد:

* أمازلت تحتفظ بزجاجة الميكروكروم?

ـ الخطر مازال متوقعا.. ماذا يحدث لو أصبت بجرح فجأة!

* وتمثال أفلاطون?

ـ وقع مرة وفصل رأسه عن جسده. أعدته بالسائل الذي يلصق كل شيء. عاد أفلاطون كما كان أفلاطون!

* والورقة البيضاء?

ـ قيراط الحظ?.. مازال كما هو في الورقة!

* الوردة (البلدي) الحمراء?

ـ وضعتها بين صفحات كتاب.. جفت تماما وفقدت أريجها.. خسارة!

* وماذا عن آخر أحلامك?

ـ يتكلمون في وقت واحد.. غريبة.. مع انهم رحلوا في أوقات متفاوتة!

* الا تعرف أن عصر المماليك انتهى من زمان?

ـ أعرف.. ولكن هل تعرف أنت?

* ماذا تريد بالضبط? كل ما تريده سأنفذه لك..

ـ اخرج من هنا.. اخرج الآن!

* وأنا موافق.. تفضل.. مع السلامة!

مملوك أنا, لن تجئ أحلامي جاهزة. سأصنع أحلامي بنفسي. أنام دون أن أنام حقيقة.. نوع جديد يأتي وسطا بين حلم اليقظة وحلم النوم. اكتشفت أن كلامهم عن الأحلام مزدحم بالأخطاء. كانوا يؤكدون أن الأحلام كلها أبيض في أسود. الأحلام كالتليفزيون أصبحت ملونة.. حددت كل أبعاد الحلم قبل أن أحلم به.. غابة مترامية الأطراف ليس فيها من الحيوانات إلا الخيول الجامحة, وليس فيها من المياه إلا غدير واحد تنساب مياه صافية لها صوت الموسيقى الهادئة. السرير الذي أنام عليه معلق بين فروع شجرة كبيرة, عالية.. أفكر في الطعام الذي اشتهيته فيأتيني في الحال تكون معي المرأة التي أريدها وتختفي فور أن ينتهي كل شيء. يزاملني صوت (الكروان) في الليل, وصوت صهيل الخيول في النهار.

سعيد أنا في الغابة. أحلامي هي ما أعيش فيه دون حواديت أدهش من الذين يخافون من الغابة هذه الغابة غير الغابة التي يعرفونها. كل الألوان تجتمع حولي وان غاب اللون الأبيض. ارتحت في الحوار مع الآخرين وحتى مع نفسي أصبح الكلام كما كنت أتمنى من طرف واحد.. كل خلايا المخ تتلقى فقط ولا تجهد نفسها بالإرسال.. تسمع السؤال.. وتتجاهله ولا ترد عليه الأسئلة كثيرة.. كثيرة.. ربما أكثر من أوراق الشجرة التي أنام بين فروعها.. أسمع الأسئلة ولا أرد:

من أنت ومتى تنوي الرحيل?

مطلوب تغيير عنوانك في البطاقة.. متى ستفعل ذلك?

هناك ظرف أصفر آخر.. هل تنوي استلامه?

الغابة ستدخل في التنظيم.. إلى أين ستذهب?

لماذا لم تحضر معك التمثال الصغير?

الكروان?.. صوت جميل نعم.. ولكنه من الطيور الجارحة, ناهشة اللحوم. هل تعرف ذلك?

الطبيب يبحث عنك.. هل سمح لك بالخروج.. أم أنت هربت?

هناك ضيوف لك.. هل سترحب بهم?!

أنا مملوك ولكني لست من عصر المماليك.

مملوك أنا, قال لي أفلاطون: (ليس يكفي لفهم اللغة رؤية ألفاظها أو سماعها..).

رضيت بعدم الفهم..!!

 

عبدالفتاح رزق

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات