ذكرى أستاذ عزيز: الطناحي ورحلته مع التراث

ذكرى أستاذ عزيز: الطناحي ورحلته مع التراث

لم يدر بخلدي وأنا أستمع إلى حديث الدكتور محمود الطناحي الحلو مع زملاء وأصدقاء اجتمعوا في منزلي أنني سوف أعود من رحلة الحج التي كنت أجهز نفسي لها، فأجد العلم والفضل وكل الصفات النبيلة تتقبل العزاء بوفاته.

عرفته في أواخر السبعينيات استاذاً كريماً وحافظاً متقناً ثبتاً, وقبل هذا هو واحد من حواريي شيخنا محمود محمد شاكر, كان ملازماً له قارئاً عليه كثيرا من كتب التراث, ذكياً سريع اللمحة, مطلعاً على كتب التراث, ومتمكناً من تحقيقها, فقد كان منذ صغره معنياً بها, مشغوفاً بدراستها, وقد التقى في مسيرة حياته عددا كبيرا من العلماء والأساتذة المبرزين في هذا الميدان سواء من خلال عمله في دار الكتب ناسخاً للمخطوطات فيها, أو جهوده في معهد المخطوطات العربية, أو أسفاره إلى أقطار الأرض لتصوير تلك المخطوطات وفهرستها (المغرب, اليمن, تركيا, المملكة العربية السعودية), كما صار حجة أيضا في البصر بتاريخ الطباعة في مصر, وله فيها كتاب مطبوع, وهو حجة كذلك في فنون العربية وآدابها, حافظاً للقرآن الكريم عارفاً وجوه قراءاته كلها, ومع كل هذا فقد كان لطيف المعشر, حلو الحديث, راوياً لطرائف عجيبة, صاحب نوادر, لا يمل منه جليسه, وفوق هذا فقد كانت الكويت من البلاد التي أحبها, وهو لم يتسن له أن يقضي فيها أكثر من شهور معدودة استاذا زائراً في جامعتها, وقد لفت انتباهه النظام الدقيق الذي يضبط الحياة في الكويت, والنظافة في الشوارع والأسواق.

ولقد سطر أحباء الفقيد وأصدقاؤه جملة من المقالات الممتازة حول تاريخ حياته ومؤلفاته وعلمه الغزير, على أن هناك جوانب أخرى عظيمة للفقيد يعرفها جميع من التقاه سواء أكان لقاء مباشراً أم من خلال كتبه وإنتاجه العلمي الرصين, هذه الصفات وتلك الجوانب تحتاج إلى أن تلتقط من سطور تلك الكتب والمقالات, فهي تتناثر في متون كتبه وتتلألأ في هوامشه, ومن هنا رأيت أن أحاول التقاط بعض تلكم الفضائل التي كنا نعرفها في الفقيد, ومن أبرزها: تواضعه وعلو خلقه ووفاؤه, وقد صرفنا عن الحرص على ذكرها والاشادة بها أنه كان يمتعنا بها في حياته, أما وأننا قد افترقنا إلى حين فإن الحديث عن تلك اللمحات المحببة في شخصيته يخفف شيئا ما من مرارة الأسى بوفاته.

فضل الرواد

وفي مقدمة تلك الفضائل ذلك الدعاء الذي يتناثر بين عباراته عندما يذكر أساتذته ومشايخه وجهودهم وخدمتهم للعلم والتراث كقوله عن شيخنا الأستاذ محمود شاكر (حرس الله مهجته, أمتع الله المسلمين ببقائه, أحسن الله إليه وجزاه خير الجزاء) ويدعو لمشايخه الآخرين كلما مر ذكرهم إذا كانوا من الأحياء (أطال الله في الخير بقاءهم) (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي ص 97) و(عبدالسلام هارون حفظه الله) (المرجع نفسه ص 99) و(شيخنا الأستاذ أحمد راتب النفاخ أطال الله في النعمة بقاءه) (كتاب الشعر لأبي علي الفارسي ج1 ص 96).

وعندما يتحدث عن شيخنا الأستاذ محمود شاكر وجهوده في خدمة التراث يقول: (وعذرا من الإطالة فهو كلام نفيس عال لا يحذف منه شيء):
(كيف أكتب عنك أيها الشيخ الجليل?

ومن أين أبدأ, وكيف أمضي, وإلى أين أنتهي? والحديث عنك إنما هو عن تاريخ هذه الأمة العربية الشريفة: عقيدة ولغة وفكراً ورجالا, وآمادا رحبة متطاولة, لا يقدرها إلا أنت, ولا يعرف كنهها إلا أنت, وتاريخ أمتنا حاضر بين يديك, ماثل أمام عينيك, لم يغب عنك لحظة, ولم تخدع عنه لحظة, فماذا أنا قائل فيك? وماذا أنا بالغ من الكتابة عنك?

ومعذرة ثم معذرة شيخي أبا فهر إذ أكتب عنك بهذه الوجازة التي تراها ـ أراك الله الخير كله, ودلك عليه, ورغبك فيه.

ثم معذرة من بابة أخرى: وهو أن كثيرا مما ستقرأه, إن شاء الله منتزع من كلامك, مدلول عليه بفكرك, فأنا إنما أكتب عنك بك, وأتقدم إليك بسابق فضلك وموصول علمك, وإن كنت أعتقد أن هذا لا يعتذر منه إليك, وأيضا فإنك كنت قد شجعتني يوماً على الكتابة عنك, حين أنبأتك ما أصابني من دوار أرضاني وأسخطني يوم خرجت إلى الناس بطبعتك الجديدة من كتابك الفذ (المتنبي) وحدثتنا في الجزء الأول منه, حديثا غريبا عجيبا, عن فساد حياتنا الأدبية, وعن تفريغ عقولنا من كل ما يردنا إلى تاريخنا وأيامنا, وقلت لك يومها: إني أريد أن أدل على ما ذكرت بما شاع في كتاباتك الأخرى, ما دق منها وما جل, وقد أذنت لي في الكتابة عنك, ويومها رأيت نفسي ـ وأنا من أصغر تلاميذك ـ قد ظفرت بما فوق المنى) (مدخل إلى تاريخ نشر التراث ص103).

ومن العلماء الذين كان يحرص على الدعاء لهم الأستاذ عبدالسلام هارون ـ وهو أستاذنا أيضاً تتلمذنا على يديه ـ يرحمه الله ـ في كلية دار العلوم في الفترة من 65 ـ 1969 فيتحدث في معرض انتقاده لشيوع ظاهرة المختصرات لأمهات الكتب في أيامنا هذه والتي قام بها البعض فأساءوا ـ بسبب ضعفهم العلمي ـ إلى الأصول.

ويقول عنه وبعد أن قدم بحديث عن جهود الأستاذ عبدالسلام هارون في خدمة التراث: (وخلاصة ما يقال في الأستاذ عبدالسلام محمد هارون: أنه لم يخط أحد في التراث سطراً إلا ولهذا الرجل عليه منة, وذلك أنك لا تكاد تجد قائمة مراجع تراثية إلا وفيها كتاب من تحقيقات شيخنا, حفظه الله).

خدمة التراث

وكل حديثه عن شيوخه والعلماء الذين عاصرهم كان يجري على هذا النمط, كالشيخ السيد صقر والشيخ محمد عبدالخالق عظيمة وغيرهما, وهو في معرض حديثه عن أساتذته كان يذكر فضل بعض العلماء الذين اجتمع معهم على مائدة التراث كالأستاذ محمد رشاد عبدالمطلب فيقول عـنه (المدخل ص 25 هـ 1): (كان يرحمه الله من العلماء بالمخطوطات وأماكن وجودها وكان لا يجارى في معرفة المطبوعات وأماكن طبعها شرقاً وغرباً, والفرق بين الطبعات وعدد طبعات الكتاب المختلفة, ومن وراء ذلك كانت له صلات وثيقة بعلماء الدنيا, من عرب وعجم, كنت لصيقا به ملازماً له عشر سنوات في معهد المخطوطات وسافرت معه في بعثة المعهد إلى تركيا والمغرب وتعلمت منه الكثير, توفي إلى رحمة الله في غرة المحرم 1395 هـ الموافق 1975م, وقد كتبت عنه كلمة غداة وفاته بمجلة الثقافة المصرية).

وهو لا ينسى كل من يسدي خدمة إلى تراث أمته فيقول عن (حسن عباس زكي): (وقد سقت هذه الحكاية لأدل على فضل هذا الرجل (حسن عباس زكي), ذلك الوزير الصالح, الذي أحب التراث العربي الإسلامي, حباً ملك عليه نفسه, وكان هو على رأس وزارة خطيرة ـ وزارة الاقتصاد المصري ـ معنياً كل العناية بشئون التراث, والمشتغلين به, من علماء وناشرين, يفسح لهم في مجلسه, ويذلل لهم العقبات, ومن أياديه البيضاء نشر كتاب (الجامع الكبير) للحافظ السيوطي, الذي صدر مصوراً عن مخطوطته, وإعادة نشر كتاب, (الأم) للإمام محمد بن ادريس الشافعي, إلى كتب أخرى ساهم في طبعها, أو أغرى الناشرين بطبعها, ومكتبته الخاصة تضم قدراً عظيماً من نوادر المصحف الشريفة, والمخطوطات والمصورات والمطبوعات القديمة. تقبل الله منه صالح عمله, وجعله في موازينه يوم يقوم الناس لرب العالمين) (المدخل ص103).

ومن الملتقطات التي تتلألأ في نظرته إلى الأوائل ـ رحمه الله تعالى وبرد مضجعه ـ أنه كان يحبهم ويعظمهم ويراهم سبباً في شهرة أبناء عصرنا, يقول في خاتمة مقدمته لكتاب منال الطالب في شرح طوال الغرائب لأبن الأثير (ج1 ص 142):

(وغفر الله لنا فقد جئنا إلى هذا التراث: لننال به الشهادات ونرتقي عليه إلى المناصب, ونطلب به المثالة عند الناس, ثم لم نعطه حقا من الدرس والتأمل والاقتداء.

ورحم الله النضر بن شميل, فكأنه كان يعنينا حين قال قولته العظيمة في الخليل بن أحمد, شيخ العربية, يقول النضر: (لقد عاش الخليل بن أحمد في مربد من مرابد البصرة لا يجد قوت يومه, وأصحابه يأكلون بعلمه الأموال).

ويعيب على محققي التراث المرتزقين هذه الأيام حرصهم على أن يملأوا هوامشهم بما لا يتصل بالنص لتضخيم الكتاب.

و في خضم الحديث عن العلماء والشيوخ لا ينسى وراقي العصر الذين كنا نختلف إليهم نبحث في مكتباتهم عن نوادر المطبوع كالطيب وخربوش وغيرهما, ولم أكن أظن أنني سوف أجد ذكرا لهم في كتاب أو مقالة كان لهم فضل في إرشاد كاتبها إلى بعض مادتها, وما أكثر ما وجدنا عندهم مما حفيت أقدامنا في البحث عنه في دور النشر وعند سماسرة الكتب, وفي مقدمة هؤلاء الوراقين الشيخ علي خربوش وزكي مجاهد, ومحمد العبادي, ومحمد الطيب, وحجازي صاحب المكتبة الحجازية بالاسكندرية وغيرهم (المدخل ص 142).

وفاؤه وتواضعه

أما وفاؤه فأنت تراه في مواضع كثيرة مما كتب, وهي طبيعة صاحب النفس الصافية التي لا تحمل حقداً ولا تنسى فضلاً, ويذكر من هؤلاء الذين أحسنوا إليه (الشيخ الأصولي الفقيه عبدالغني عبدالخالق الأستاذ في كلية الشريعة, محقق كتاب آداب الشافعي ومناقبه, لأبن أبي حاتم الرازي, وكان صاحب غرائب وعجائب.. وكان كثير البر بتلاميذه وأبنائه, وقد تخرج على يديه عدة من أبناء الجزيرة العربية, وبخاصة طلبة العراق, والمملكة العربية السعودية, وقد أحسن إلي كثيرا وقربني من مجلسه في أول اشتغالي بالعلم, توفي عام 1403 هـ رحمه الله رحمة واسعة) (المدخل ص142ـ 143).

وقال عن المرحوم محمد رشاد عبدالمطلب إنه (قد تعلم منه كثيراً), وعند حديثه عن الشاعر المحقق حسن كامل الصيرفي يقول: (ولهذا الرجل فضل عليَّ سابغ) (مستقبل الثقافة العربية كتاب الهلال مايو 99 ص56).

ويقول عن فترة عمله في جامعة أم القرى (إنهم أنزلوه آنذاك منزلاً كريماً) (منال الطالب في شرح طوال الغرائب ج1 المقدمة ص 7 , 8 , 9) وشرح هذا في الهامش فقال: (حيث عوملت وظيفيا تحت بند هناك يسمى (كفاءة نادرة) يعامل به الإنسان الذي أكرمه الله بشيء من العلم معاملة (العالم) لا معاملة (حامل الشهادة العليا) ـ لاحظ تواضعه رحمه الله ـ وفي ظل هذا البند كان يعامل الأساتذة: محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي والسيد أحمد صقر والسيد سابق ومحمد قطب). وهذه الأسماء لعلماء عصرنا الكبار تنبئك عن مكانة فقيدنا يرحمه الله العلمية الكبيرة. ثم يفيض وفاء وشهامة فيقول:

(ومن أمانة التاريخ, ومعرفة أقدار الناس أذكر هنا أصحاب الفضل في إرساء المبادئ العلمية الرفيعة: الشريف راشد الراجح, ومحمد بن سعد الرشيد..) ثم يذكر مجموعة من القياديين الذين أرسوا هذه المبادئ..

وهو لا ينسى أن يذكر مذاكرته العلم مع زملاء له وطلاب كانوا يدرسون على يديه, ويرى في هذه المدارسة والمذاكرة فائدة للعالم قبل المتعلم يقول: (وكانت أياما زاكية مباركة قرأت فيها مع إخواني الشباب هناك شيئا من علوم العربية وقد أعطيتهم وأعطوني, أعطيتهم خبرة الأيام, وثمار مجالسة أهل العلم ومشافهتهم والرواية عنهم, وأعطوني حماسة الشباب وتوقده, بل إنهم فتحو لي أبواباً من النظر, ودلوني على فوائد من الكتب لم أكن أقف عليها لولا نظرهم ومناقشتهم, ولازلت أقول: إننا حين نعلم ونخرج أبناءنا الطلبة إنما نقرأ معهم العلم مرة أخرى, بل ربما استفدنا منهم مثل الذي استفادوه منا, ولأمر ما كان التلميذ قديما يسمى (صاحباً) لشيخه: فأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة, والربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي, وابن جني صاحب أبي علي الفارسي.. وهلم جرا).

ثم لا يترك هذا الموضع حتى يذكر في هامش الصفحة أسماء هؤلاء الشباب الذين أفادهم واستفاد منهم, ومنهم: عياد بن عيد الثبيتي, وسليمان بن إبراهيم العابدي, وعثمان بن حسين الصيني, وعبدالرحمن بن سليمان العثيمين وغيرهم.

ولعل هذه الإشارة من عالمنا الجليل إلى توقير واحتفال الجامعات السعودية بأهل العلم والحفظة والرواد, الذين ضاقت بعلمهم الواسع الشهادات الجامعية, فالتقطتهم درراً واستقطبتهم نجوماً, أثرت بهم هيئاتها التدريسية وانتفع طلابها بعلمهم العظيم, هي التفاتة مهمة وتنبيه واجب للقائمين على إدارة المؤسسات الجامعية في بلادنا العربية, فهذه السنة الحميدة, وهي التعيين دون الالتزام بمسميات الشهادات, أسلوب عرفته الجامعات الأجنبية قبل العربية, فاستفادت منه, وبسبب هذا النهج الناجح رأينا العقاد وعبدالسلام هارون وعمر الدسوقي, وغيرهم كثيرين, رأيناهم في أروقة الجامعات يحاضرون ويناقشون ويفيدون وهم لا يحملون لقب العصر وصرعته (الدكتوراه) ولا يعبأون بها, وكان الأمر كذلك في مؤسساتنا العلمية إلى أن ابتليت بالنظام الأمريكي الفج, الذي جعل الطلاب يمتحنون أساتذتهم في بعض المقابلات الخارجية, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

علمه وفضله

أما علمه وفضله فإن الحديث في هذا الجانب (سوف يغرق في بحور إحسانه), (وهي من كلمة الحسن بن رجاء في مدح أبي تمام), وما سطره الإخوة الأفاضل والأساتذة الكبار من محبي الفقيد في مجلات وجرائد مصر والمملكة العربية السعودية والكويت ينبئك عن مكانته العلمية ورسوخ قدمه في علوم العربية, بما لا يتأتي لأحد في هذا العصر إلا القليل, وربما لا تجد عند غيره تلك الثقافة الموسوعية التي حظي بها يرحمه الله, وتلك القراءات الثرية تتلألأ بها مؤلفاته بصورة مدهشة, فأنت عندما تقرأ ما يكتب الدكتور الطناحي تجده تجاهك يحدثك وتحدثه, ويلقي إليك بفوائد جمة تجيئك تترى, والمحب للتراث إزاء تلك الفوائد والغرائب لا يكاد يلتقط أنفاسه من نفاستها وتتابعها, ويكفيك أن الإخوة في المملكة العربية السعودية عرفوا قدره فوضعوه بإزاء الشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ محمد الغزالي والسيد صقر يرحمهم الله وغيرهم.

كما أن فكه لطلاسم اسلوب أبي علي الفارسي في كتابه (الشعر) لدليل على رسوخ قدمه في تحرير النص وتحقيقه (انظر ج1 ص 63 وما بعدها).

وعالمنا الجليل يحرص على تذكيرنا دائما بأنه: (لا يغني كتاب عن كتاب) (الموجز في مراجع التراجم ص42), و: (أن مجاز كتب التراث مجاز الكتاب الواحد, (المرجع السابق ج35).

ولقد اخترمته المنية وقرار اختياره عضواً في مجمع اللغة العربية في سبيله للصدور فخسر المجمع بذلك ابناً بارا من أبنائه الأوفياء, رحمه الله رحمة واسعة.

وبقي فقيدنا عمره كله وفياً لتراث أمته يذود عنه بغي الباغين, وتشكيك المستغربين, ويسوؤه ما انتشر في هذا الزمان من استهانة به وبأصول تحقيقه ودراسته, واندفاع بعضهم في إخراج الطبعات السريعة لبعض كتب التراث لا يعبأ بصحة القراءة, ولا بضبط النص, ويستجلب التعليقات مغيراً على كتب الأئمة الاعلام (ولا بأس من التهويش ببعض الشروح اللغوية التي تعب من المعاجم عبا, وكثيرا ما يقع في نقل هذه الشروح أخطاء فادحة, لعدم التنبه للمشترك اللفظي) كما يقول رحمه الله في (كتاب الشعر لأبي علي الفارسي المقدمة ص ج).

زينة المجالس

وتبقى بعد كل ذلك روحه المرحة وخفة ظله, وتعليقاته الطريفة, فهو زينة المجالس, وريحانتها مع عزة نفس وإباء, وحرص على صيانة كرامته من كل ما يسيء إليها ولهذا فهو يصف هؤلاء الذين يتزلفون لتلاميذهم في أسلوبه الساخر الممتع قائلا: (وإن منهم لفريقا يتهافت على ذوي المناصب من تلاميذه, حتى إذا رأى أحدهم في مجلس طمح ببصره إليه, وأخذ يمد عنقا ويميل رأساً, ويسدد نظراً ليريه مكانه فتلتقي العينان, فيذهب بها غنيمة باردة يحدث بها أهله وولده, فإذا أبصره في طريقه ركض خلفه حتى يكاد يتعثر في أذياله, وشق الصفوف إليه وقد علاه البهر وغلبه النهيج حتى يوشك أن يكتم أنفاسه, فإذا انتهى إليه ابتسم في صغار وانكسار وأخذ يذكره بتلمذته له في ثقل وغثاثة:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما "

(مقدمة كتاب الشعر ص6).

وانظر مقالته في الهلال عدد سبتمبر 95 حول التصحيف والتحريف (هذه النقطة وقضية التصحيف والتحريف) وهو يناقش فيها الخطأ الذي جاء في امتحان اللغة العربية للثانوية العامة في بيت أحمد شوقي:

ولم أخل من وجد عليك ورقة
إذا حل غيد أو ترحل غيد

إذ ورد مصحفاً في السؤال بالعين المهملة, والصواب (غيد) بالعين المعجمة (الشوقيات 2, 119).

فيستهل هذه المناقشة بأن يسوق رواية طريفة حول أشهر تصحيف في التراث, وهو التصحيف الذي جعل والي المدينة في زمن سليمان بن عبدالملك يخصي مجموعة من المخنثين, بسبب تصحيف وقع في كلمة (احص) بالحاء المهملة فصارت (اخص) بالخاء المعجمة, هؤلاء الذين خصوا معروفون بأسمائهم, ويقال في ترجمة كل منهم (وهو ممن خصي بالنقطة).

وهكذا كان رحمه الله في كل ما يكتب أو يقول خفيف الظل والروح, لا يمل مجلسه, وتود لو بقي معك اليوم كله لا يفارقك.

واليوم ونحن نكتب هذه السطور نشعر بالأسى لفقد (جبل من جبال العلم) ـ كما وصفه أخي العزيز عبدالحميد البسيوني ـ حفظه الله ومتعه بالعافية.

وإذا كان الفساد قد ألقي بعاعه في هذه الأيام على حياتنا الأدبية, فإن الدهر قد لا يجود بأمثاله, وإن عزاءنا أنه لم يمت بيننا, وستبقى الذاكرة تسترجع صورته وعلمه ومواقفه النبيلة العظيمة, وسوف تخلده مآثره وكتبه وسيرته في خدمة التراث العظيم لهذه الأمة التي كرمها الله عز وجل بلغتها ودينها, ولهذا فإن الباحثين مدعوون إلى العكوف على دراسة منهجه وقراءة كتبه واستخلاص المعلومات والإشارات حول قضايا التراث المختلفة ونسخ المخطوطات الثمينة والنادرة التي نسخها أو رآها, وقبل هذا تمثل مراحل حياته التي أوصلته إلى هذه القمة العلياء من العلم والفضل والتي تصورها سيرة حياته الثرية بالتجارب, ثم الاستفادة من تلك التجارب التي صقلته, والتي سطر كثيرا منها في كتبه وهوامشه, فعليك رحمة الله يا أبا محمد, وجزاك عما قدمت خير الجزاء الذي يجزى.

 

عبدالله حمد محارب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الراحل.. الدكتور محمود الطناحي