واحة العربي

واحة العربي

المطر
في حصارالقلوب والمشاعر ونبض حزن القصائد

تهتز الجوانح- لدرجة الوجيف أو الوجل المضطرب- حينما تنصت إلى صوت هطول الأمطار, مجرد الصوت فقط هو الذي يأتيك في حصنك: أقصد بيتك الحديث, الأمر سوف يزداد قلقاً لو أنك نزلت إلى الشارع, عليك الآن أن تخترق هضاب التاريخ لتلجأ إلى الخيمة الإنسانية المبكّرة في الصحراء الممتدة الواسعة لتعرف المعنى الحقيقي للمطر, يكون سلساً هادئاَ ناعماً يتألق نقاطا ذات إيقاع مفعم بالشجن على خدود العاشقين, تحاصره الرياح والتماعات الأسى لينطلق وميض البرق فيقلب كل قوانين الاطمئنان المرتعبة رعداً, علينا أن نوقف المهزلة قبل أن تداهم السيول أفواه الكهوف ومداخل السراديب القديمة, ونمعن في هذه الأحاسيس الإنسانية الحديثة والتي مازالت تطاردنا في عمق النوم: مهما كان الفراش وثيراً, ومهما كانت درجة الحرارة منضبطة بالكيفية التي نرتاح إليها, المطر عنصر أساسي في تكويناتنا النفسية, إنه ضد الجفاف وبشير للخير, وبوادر ظهور الخضرة فوق الوجه الأصفر الكالح, ثم إنه- المطر- الحوار الصارخ مع الطبيعة ليحتل موقعه المتميز في الأشعار المبكرة, في حداء الإبل وفي مراثي الموتى (العديد) وفي زفاف العرائس, وفي ختان العيال, وفي الانتصار على الأعداء, وفي صياغة العالم ليصبح جميلاً ذا إيقاع ساحر, مـع أهمـية أن تغضّ البصر كي لا تداهم سيوله كل تجمعاتنا الفرحة بعد ذلك بقليل.

وكثير من مخرجي الأفلام- في السينما والتلفزيون- يلجأون للمطر كي يساعدهم في إشاعة الجو الدرامي القاسي حول البطلة الجميلة- والجميلة جداً- أثناء بحثها عن المأمن أو المكمن- أي المكان الآمن- الذي تبدأ فيه حياة أخرى تضع فيها وليدها بعد تسعة شهور.

وقد حاصرت الأمطار جيش هانيبال القرطاجي (والذي يعد من أعظم القواد في التاريخ) أثناء اختراقه جبال الألب في طريقه لمحاصرة روما المهيمنة على العالم في ذلك الوقت, ثم تابعته مرات في جبال الأبنين, حيث نجح بعد ذلك في محاصرة روما- ثم لم يلبث أن ظهرت خطة فابيوس التي تعتمد على (النهش السريع ثم الهرب) لينهزم البطل دون أن تبدو في الجو أي أمطار, وقد واجه جيش نابليون بونابرت ليلة ممطرة قبل موقعة إمبابة في طريقه لاجتياح القاهرة, مما أثار دهشته مع أنه قادم من بلاد المطر والجليد, كما أن المغامر الإنجليزي لورنس- صاحب أعمدة الحكمة السبعة- حاصرته أمطار مفاجئة أثناء قطعه طريق السكة الحديدية بين المدينة المنورة ودمشق عام 7191 فاعتبر ذلك فألاً حسناً تغسل به الطبيعة الجسد: أي التطهير من الأدران, وهناك سائحة إنجليزية جاءت إلى مصر في الأربعينيات, وأثناء اختراقها للوادي المصري, أي على حافة مدينة الأقصر ذات الآثار القديمة العظيمة, هالها نوع من المطر السريع الذي رقص بسببه الناس في الشوارع ابتهاجاً, فاعتبرت السائحة هذا المطر النادر دعوة لها للإقامة في (البر الغربي) ليصبح لها دور بارز في رواية (الجبل) لفتحي غانم, وسوف ترى الدور الذي قام به المطر من تواطؤ في الضغوط الناجمة عن الحصار والإحساس بالانقطاع عن العالم في رواية الإيطالي دينو بوتزاني (صحراء التتار).

وكانت كلمة.. مطر.. مطر.. مطر.. من أوائل إشارات التبشير بالشعر الجديد عند بدر شاكر السيّاب, وليس لهذا أي علاقة باسم صديقه الشاعر محمد عفيفي مطر, أو الشاعر- الذي لا أعرفه- أحمد مطر, وهما من أبرز المبدعين العرب الآن, أما المطر الأحمر فإنما هو نوع من الأمطار به صبغ أحمر, وأعتقد أن هذا اللون يرتبط بغبار الحديد, وعندما يهطل هذا المطر على الأرض: يصبغها بلونه, (أما اللون, فيرجع إلى احتباس حبيبات ترابية دفعتها الرياح من الصحراء إلى طبقات الجو العليا وحملتها مسافات بعيدة) هذا ما جاء في الموسوعة العربية من تعريف بالمطر الأحمر, لكني لم أشعر بحرج حين أذكر أنه غبار الحديد, والمطران هو الرئيس الديني عند أصدقائنا النصارى, وخليل مطران شاعر القطرين الذي ولد ونشأ في لبنان وقضى معظم حياته في مصر, وقد عمل بالصحافة ثم رئيساً للفرقة القومية- المسرح القومي المصـري الآن. أما مطير, فهي قبيلة في شبه الجزيرة العربية, تمتد مواطنها حتى الخليج العربي وحدود الكويت, وبوادي الباطن حتى الزلفي, ويكثر أفرادها في ضرما والعشيرة والبكيرية. والمطرية- في مصر موقعان: ضاحية شمال القاهرة, وتقوم مع جارتها (عين شمس) على أنقاض أقدم عاصمة مركزية: أون- مدينة الشمس. أما المطرية الأخرى فهي على ضفاف بحيرة المنزلة شمال الدلتا.

وعلينا الآن أن نخرج من المطر, حتى لا أرتد صبيّاً: يخلع ملابسه ويندفع صارخاً كي يسـتمتع بهذا الذي يندفع من أعلى الأعلى كي يحرّك الأعضاء والمـشاعر, ويطارد الملل, إنني أكاد أفعل ذلك حتى الآن, دون أن يبارحني شعور بأن المطر سوف يظل جمـيلاً- ومشاغباً- ومثيراً, على ألا يصبـح سيلاً.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات