أرقام

أرقام

إنسان نهاية القرن

سوف يسجل التاريخ أن القرن العشرين هو قرن الثورات الاجتماعية والسياسية والعلمية, وسوف يسجل التاريخ أن نقطة النهاية في هذا القرن تختلف أشدّ الاختلاف - وبشكل غير مسبوق في القرون الماضية - عن نقطة البداية, فتواتر الاختراعات السريع, وتقدم التكنولوجيا (الهائل), وثورة المعلومات, كل ذلك قد أحدث انعكاساً في السياسة والاقتصاد, في العلاقات الدولية, والعلاقات الاجتماعية.

أصبح هناك ما يسمى عالم النخبة, قلة من البشر يتمتعون بالنصيب الأكبر من الثورة والمعرفة والإنتاج, وكثرة من البشر يزحفون نحو التقدم بالكاد, أو يموت بعضهم جوعاً, ومرضاً, وجهلاً.

إنه عالم مختلف حدثت فيه قفزات هيكلية, وبات السؤال بعد كل هذه القفزات: ماذا يعني التقدم الذي جرى بالنسبة لحياة البشر? هل يعيشون بشكل أفضل? هل يتمتعون بصحة أوفر وعمر أطول ومعرفة أكثر?

نسأل عن عموم البشر, وليس النخبة التي تعيش في الشمال, أو فيما نسمّيها الدول الصناعية أو العالم الأول.

حاول البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أن يقدم (كشف حساب) متوقفاً أمام العقد الأخير من القرن, وبالتحديد: أحوال البشر بين عامي (90-1997), وكانت النتائج باهرة: قدر كبير من التقدم, وقدر كبير من التخلف, الضدان في واحد هو العالم الذي يطل على قرن جديد.

مفاجأة العمر الأطول

تقدم الأرقام, والتي جاءت في تقرير التنمية البشرية عام 1999, مفاجأة سارّة, وهي أن إنسان نهاية القرن بات يتمتع بمتوسط عمر يفوق كل ما سق.

ففي عام (97) كان هناك (84) بلداً يتمتع بتوقعات حياة تزيد على سبعين عاماً, والتقدم سريع, فلم يكن عدد هذه البلدان أكثر من (55) بلداً في عام (90).

قد يلخص متوسط الأعمار الكثير من الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والعلمية, فالناس تعيش أكثر حين تتمتع بصحة جيدة, وهي تملك الصحة حين تمتلك الغذاء والمسكن والعلاج, وتبتعد عن التلوث, في دول الشمال, وفي بعض الدول الخليجية يزيد متوسط العمر على السبعين, ويزحف نحو الخامسة والسبعين, والسبب: وفرة في العيش, وعناية في الصحة.

ولكن, وفي الوقت نفسه, فإن التقدم الطبي قد وفّر الكثير, وبصرف النظر عن العنصر الاقتصادي, تراجعت نسبة وفيات الأطفال, وتراجعت الأوبئة, وبات اختراع دواء بسيط ينقذ الملايين من الموت.

إنها رحلة التقدم تتكامل عندما نرصد بعض جوانب معيشة الإنسان, فبين العامين (90-97) تضاعف عدد السكان الذين يتمتعون بماء نقي, وزاد نصيب الفرد من الإنتاج الغذائي بنسبة (25%), وحقق العالم زيادة في الناتج المحلي تعادل (1%) سنوياً, كما زاد استهلاك الفرد بنسبة (2.4%) سنوياً.

وأصبح ثلاثة أرباع سكان الأرض يعرفون القراءة والكتابة و (81%) من الشريحة السنية التي تدخل مجال التعليم الأولي والثانوي, لها فرصة في التعليم الذي تستحقه.

هناك, إذن, أوجه تقدم سريع, ولكن بطريقة نصف الكوب, تعيش البشرية: (نصف ممتلئ ونصف فارغ).. و.. في النصف الفارغ, نجد أن هناك (1.5) مليار إنسان لن يعيشوا - وفق التوقعات عند الميلاد حتى الستين - ونجد أن (340) مليون امرأة لا يتوقع التقرير أن يتمتعن بعمر يزيد على الأربعين.

وهناك نحو 40% من سكان العالم ينقصهم الصرف الصحي و (880) مليوناً تنقصهم الخدمات الصحية.

الغريب أن رقم (800) مليون يتكرر, يأتي في الخدمات الصحية, كما أشرنا, ويأتي في الأمية (850 مليون أمّي), ثم يأتي في سوء التغذية (840) مليونا, ويُتوّج بالدخل المنخفض, فهناك نحو مليار لا يجدون الحاجات الأساسية للعيش الكريم, وهناك (1.3) مليار يعيشون بأقل من دولار في اليوم!

إنه منطق نصف الكوب لكنه ليس كل شيء.

ظواهر أخرى

في رحلة القرن العشرين, رحلة التقدم والتخلف, تبدو ظاهرة اللامساواة والتي تزداد اتساعاً, فعند نهاية القرن, يبلغ استهلاك الغذاء للخُمس الأكثر ثراء في العالم ما يوازي ستة عشر ضعفاً للخُمس الأكثر فقراً من السكان..و.. في الدخل, فإن الفريق الأول يحوز دخلاً يوازي (74) مرة نصيب الفريق الثاني, أي أن فرصة إنسان العالم المتقدم قد تفوق - وبصرف النظر عن فروق الأسعار وتكاليف المعيشة - فرصة إنسان العالم المتخلف بمقدار (74) ضعفاً يجري ترجمتها في مأكل ومسكن وملبس وعلاج وتعليم وترفيه, إلى آخر حاجات الإنسان المادية!.

ولا يعني ذلك أن العالم المتقدم خلوّ من الأمراض, فهناك مائة مليون أمّي في الدول الصناعية, وهناك نسبة من المرضى بالمرض العضال (الإيدز) والتي تضاعفت في التسعينيات لتصل إلى (33) مليون مصاب عام (97), هناك نسبة في الدول المتقدمة.

وإذا كان هناك (3) ملايين شخص يموتون كل عام بسبب تلوّث الهواء, و (5) ملايين يموتون بسبب تلوث المياه, فإن جزءاً من ذلك - خاصة في تلوث الهواء - يحدث في العالم المتقدم الأكثر استهلاكاً للوقود ووسائل الحضارة.

العالم الصناعي إذن, والذي يمكن أن يتغير وضعه في نهاية القرن إلى عالم المعرفة والثروة, هذا العالم يشاركنا أيضاً في نصف الكوب الفارغ, ولكن مع فروق في إمكان الرصد, والمواجهة, والعلاج.

المشاركة في السلبيات قائمة, لكن الأكثر بروزاً في نهاية القرن هو اتساع ظاهرة اللامساواة, والتي تجد ترجمة واضحة في عبارة (الأثرياء يزدادون ثراء.. والفقراء يزدادون فقراً), أو قد تجد ترجمة بالأرقام: (20%) من سكان الأرض يحوزون (86%) من الناتج المحلي للعالم.

وقد تدخل هذه الأرقام فيما نسمّيه اقتصاداً سياسياً, لكن ترجمته على حياة الأفراد هي الأهم.

.. ومغالطة

و.. يبقى من أخبار نهاية القرن خبر طيب, فقد تراجعت وفيات الأطفال بمقدار الربع في التسعينيات, وزادت مساهمة المرأة في التعليم والنشاط الاقتصادي بما يزيد من مقدار المشاركة لنصف سكان العالم.

ويقدم البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة خبراً آخر, وهو أنه عند نهاية القرن أصبحت هناك نسبة تتراوح بين ثلثي السكان وثلاثة أرباعهم يتمتعون بأنظمة ديمقراطية, هكذا يقول التقرير, وإن لم يتوقف عند حقيقة هذه الأنظمة التي تأخذ بالديمقراطية شكلاً وتهدرهاً موضوعاً, الأرقام هنا خادعة, والمغالطة واضحة فـي عالمنا الثالث على الأقل!

 

محمود المراغي