جمال العربية

جمال العربية

في شعر المرأة العربية

من الشعر المنسوب إلى ليلى العامرية محـبوبة قيس بن الملوح بيتان جميلان تقول فيهما:

لم يكن المجنون في حالة إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسرّ الهوى وإنني قد ذُبْتُ كتمانا

هذا البوح الذي أتيح لقيس لكونه رجلاً, والكتمان الذي قُدّر لليلى لكونها امرأة- تخضع لحكم التقاليد ومواضعات البيئة العربية- هو السبب في أن كثيراً من شعر الشاعرات العربيات في العصرين الجاهلي والإسلامي لم يصل إلينا, بل لعله لم يصل إلى سمع الرواة ابتداء, وبالتالي فقد وئد هذا الشعر, ولم يبق منه إلا أقله, وهو ما يدور في باب الرثاء والبكاء على الراحلين- أزواجاً وأقارب- وهو المجال الذي كان مسموحاً فيه للمرأة بأن تقول, وبأن يصل شعرها إلى أسماع الآخرين وذاكرة رواة الشعر.

من أجمل هذه المراثي, وأكثرها حرارة وإنسانية, قصيدة السلكة أم السليك- الشاعر والفارس الصعلوك الذي عرّض نفسه للموت حين مارس الصعلكة, مؤثراً التمرّد على قيم القبيلة والمجتمع, والانضمام إلى رفاقه عروة بن الورد- أمير الصعاليك- والشنفرى وتأبط شرا.

تقول السلكة- الشاعرة العربية الجاهلية- في رثاء ابنها السليك الذي كان ينسب إليها وليس إلى أبيه:

طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك
ليت شعري ضلّة أي شيء قتلك
أمريض لم تعد أم عدوّ ختلـك
أم تولى بك ما قد غال في الدهر السلك
والمنايا رصد للفتى حيث سلك
أي شيء حسن للفتى لم يك لك
كل شيء قاتل حين تلقى أجلك

لن يصعب على قارئ تراثنا الشعري أن يتعرّف على كثير من شاعرات الجاهلية والإسلام, لكنه سيفاجأ بطوفان من الدموع- دموع الرثاء والحزن والفقد الموجع- تغرق فيه قصائدهن ومقطوعاتهن, ويحاول القارئ أن يجد لهن شعراً بعيداً عن هذه الدائرة, فلا يجد إلا أبياتاً متفرقة, كالبيتين اللذين استشهدنا بهما لليلى العامرية,

وكقولها في بيتين آخرين:

باح مجنون عامر بهواه وكتمت الهوى فمت بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي من قتيل الهوى تقدمت وحدي

ومن أشهر ما تعلقت به الذاكرة من شعر الشاعرات العربيات قصيدة ليلى العفيفة التي تخاطب بها حبيبها وابن عمّها ومخلصها من الأسر: البراق, الذي نجح في إنقاذها من براثن كسرى ملك الفرس الذي اغتصبها عنوة من أبيها لما رآه من جمالها وفتنتها, لكنها امتنعت عليه, وأبت أن تخضع له بالرغم من معاملتها بالترغيب تارة, والترهيب أخرى, بل إن الروايات تقول إنها حجبت وجهها عنه لا يراه, وخيّرته بين أن يقتلها أو يعيدها لأبيها.

تقول ليلى العفيفة التي نجحت بفضل شاعريتها الفطرية المرهفة, ولغتها السهلة المنسابة في يسر, أن تقدم صورة شعرية لما حدث لها من معاناة, وما تعرضت له من محنة قاسية, وقد ذاعت شهرة القصيدة بعد أن تغنت بها المطربة النادرة الصوت والأداء: أسمهان:

ليت للبراق عينا, فترى ما ألاقي من بلاء وعنا
يا كليباً وعُقيلا إخوتي يا جُنيْداً أسعدوني بالبكا
عُذّبت أختكُمو, يا ويلكم بعذاب النكر صبْحاً ومسا
غلّلوني, قيّدوني, ضربوا ملمس العفة مني بالعصا
يكذب الأعجم ما يقربني ومعي بعض حشاشات الحيا
يا بني تغلب سيروا وانصروا وذروا الغفلة عنكم والكرى
واحذروا العار على أعقابكم وعليكم ما بقيتم في الدنا

الخنساء: شاعرة البكاء والدموع

ولاتزال الذاكرة العربية- على تعاقب العصور والأزمان- تحـتفظ بشـعر الخنـساء- تماضـر بنـت عمرو بن الشريد السلمي- في أخيها صخر- وهو الشعر الذي جعل لصاحبته مكانة متقدمة في شعر الرثاء, كما ضمن لها مقاما رفيعاً بين شعر النساء, وجعل اسمها يقفز إلى اللسان كلما قيل: وأين شعر المرأة العربية? ولماذا لم تنبغ من بين النساء شاعرة تطاول فحول الشعراء من الرجال? فتصبح الخنساء الاستثناء الوحيد, والإجابة التي ليس من بعدها إجابة! وكم بكت عيوننا وتدفقت دموعنا واهتزت نفوسنا تأثراً بقول الخنساء:

يذكّرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمسي
ولولا كثرة الباكين حولي على موتاهمو لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي, ولكن أعزّي النفس عنه بالتأسّي!

وقولها في موضع آخر من شعرها:

وإنّ صخراً لكافينا وسيّدنا وإن صخراً- إذا نشتو- لنحّارُ
وإن صخراً لمقدامٌ إذا ركبوا وإن صخراً- إذا جاعوا- لعقّارُ
أغرّ أبلج تأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

وهي رائيتها الشهيرة التي تقول في أبياتها الأولى مصوّرة وقع المأساة وقسوة الحزن, وفيض الدموع:

ما هاج حزْنك?أم بالعين عوّار? أم ذرّفت أن خلْت من أهلها الدار
كأن عيني لذاكرة إذا خطرت فيض يسيل على الخدّين مدرار

نازك الملائكة: شاعرة العصر العربية

هل يمكن أن نطوي هذه الصفحات من غير أن نتوقف عند أهم شاعرة عربية في القرن العشرين, الشاعرة العراقية نازك الملائكة? صحيح أن لدينا- من جيل نازك- شاعرات عربيات مبدعات, في مقدمتهن: فدوى طوقان وسلمى الخضراء وملك عبدالعزيز وجليلة رضا, لكن نازك تظلّ متفرّدة بالريادة في حركة الشعر الجديد, وفي إبداع النموذج الأنثوي للقصيدة المهمومة بوجدان المرأة وهواجسها وانكساراتها وشجونها الداخلية المكبوتة, وباللغة الشعرية- الشديدة الصفاء والتمكن والاستقرار- التي اكتسبتها نازك بفضل فطرة ذات علاقة حميمة مع اللغة, ومع الموروث الشعري, وبيئة أنضجت من هذه الفطرة النقية, ومنحتها خصوبة وعمقاً وقدرة على التعبير تؤازرها قدرة خارقة على التجسيد والتصوير, فضلاً عن أن رهافة المرأة الشاعرة ونعومة نسيجها المخملي المنمنم تظل منسكبة على شعر نازك, خاصة في دواوينها الأولى: عاشقة الليل وشظايا ورماد وقرارة الموجة.تقول نازك الملائكة في قصيدة عنوانها (ذكريات) تصلح نموذجاً لخصائص شعرها الأنثوي ولأدائها النفسي في مراحلها الشعرية الأولى:

كان ليلٌ, كانت الأنجم لغزاً لا يُحلّ
كان في روحي شيء, صاغه الصمت المملّ
كان في حسّي تخدير ووعي مضمحل
كان في الليل جمود لا يطاق
كانت الظلمة أسراراً تراق
كنت وحدي, لم يكن يتبع خطوي غير ظلّي
أنا وحدي, أنا والليل الشتائي وظلّي
***

لم أكن أحلم, لكن كان في عينيّ شيء
لم أكن أبسم, لكن كان في روحي ضوء
لم أكن أبكي, ولكن كان في نفسي نوء
مرّ بي تذكار شيء لا يُحد
بعض شيء ماله قبل وبعد
ربّما كان خيالاً صاغه فكري وليلي
وتلفّت, ولكن لم أقابل غير ظلّي

ثم تقول نازك الملائكة وهي تبدع في رسم هذه اللوحة الشعرية النفسية, المحمّلة بتصاوير الأنثى وهواجسها, وتحسّسها لفراغ روحي هائل, ووحشة قاتلة مع الليل الشتائي:

كان في روحي فراغ جائع كاللانهاية
كان ظلي صامتاً لا لحن, لا رجْع حكاية
باهتاً يتبع مسرى خطواتي دون غاية
غير كأس عبرت حين صرخت
قطرة واحدة ثم ارتويت
أتراه كان أكذوبة إحساسي المُضل
أو ما كنت أنا وحدي وظلّي
?

وتظلّ المرأة العربية الشاعرة تبدع, وتنطلق من أسر الكتمان وضرورته, إلى حرية البوح بكل طبقاته وتنويعاته.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات