واحة العربي

واحة العربي

الباب

من باب الرضا .. إلى أبواب العشق الجميل

الباب الذي يأتي منه الريح : عليك أن تسكّه كي تستريح, وهو المثل العامي - أو الشعبي - الذي تعرفونه جيداً, وتطالبون بتطبيقه والعمل به جيداً, دون أن يعمل به واحد منّا بالدقة المطلوبة, وربما يكون هذا هو القاعدة الأساسية وراء سياسات دولية قديمة ومعاصرة - (أنا لا أقصد - كما ترى - ما يدور الآن بين البلاد العربية وإسرائيل), والأصلح - في هذه الظروف - أن يكون المدخل : باب النجّار مخلّع : حيث لن نقع تحت طائلة سطوة النجار, فالأبواب عادة تكون مغلقة أو مسكوكة, إنما الذي يجب أن يكون مفتوحاً هو النوافذ إشارة إلى الحرية أي استنشاق الهواء النقي. وكنّا في زمن التقاليد المستقرة نفخـر بأن الكريم لا باب له, إشارة الى هذا الاستقبال الدائم للضيوف أو أصحاب الحاجة, إلا أن الأمر اضطرب الآن فأصبح نفي الباب واستبعاده يعني الفوضى وعدم الانضباط - دخولاً وخروجاً, مع أهمية ألا أفصح اكثر من ذلك.

والعالم - في اللغة والتاريخ, وفي العلوم الأخرى, إضافة إلى السلوك وأمور التربية - يعج بالأبواب, ولعل أرقى وأعظم الأبواب : باب الجنة الذي يحرسه رضوان, حيث الطموح المأمول في البشر بحثاً عن نهاية موفقة (بعيداً عن زبانية دخول جهنم (أعوذ باللّه)), إنه الإحساس النقي الغامر الطاهر الذي يعتمل في صدورنا عند وصولنا أبواب الكعبة المشرفة, ولعل ذلك كان وراء استخدام المصطلح العثماني (الباب العالي) مقراً للسلطان عبد الحميد الأول, أو صفة له, حيث يليه مباشرة (الصدر الأعظم) رئىس وزارئه, وأزعم بأن (الباب العالي) - مع ما تعني به من معاني الأبواب العليا في العقائد, جاءت أيضا لمنافسة سطوة رمز (البابوية) في روما, والتي يمثلها - وفي قمتها - الحبر الأعظم, بابا روما بصفته الرئىس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية, وهي - البابوية - وظيفة شرف وولاية, وهو ما لا يقرّ به البروتستانت والأرثوذكس, وظل مثار خلاف بينهم (المسئولية عن هذه السطور تقع على كاهل الموسوعة التي تعرضت لذلك), المهم هنا أن الباب العالي ينتمي لغويا لأصل مختلف تماما عن أصل كلمة البابا المصاغة من الأبوة, لكن التقارب الصوتي - دون اللغوي - هو الذي يكمن وراء هذا الربط, أو التداخل المقصود.

وفي الحس الشعبي لجميع المجتمعات والجماعات البشرية سوف تجد المعنى المجازي للباب, إنه مدخل للفرج, يؤدي إليه ممر الصبر, وهو المعلن الدائم في أهازيج وأغاني الأفراح في الختان والنجاح والزواج, كما أن أبواباً عديدة تتوالى تباعاً في نصوص (العديد) - أي نصوص النواح والبكاء وتوديع الراحلين, تطلب من الله أن يسبل الرحمة توسيعاً لأبواب المقابر والمدافن تمهيداً للوصول إلى باب الرضا, وثمة عدد مذهل من شعراء المديح - في جميع العصور - جلجلوا بقصائدهم على أبواب الحكام والولاة والعواهل, وكان ذلك من أسباب ثورة الشعر الجديد - أو المعاصر - رفضاً لانحناء القصيدة تحت سطوة هذه الأبواب, لكن ثورة هذا الشعر لم تستطع ان تنقذ الشعراء من الارتماء على عتبة أبواب المحبة - والتي وراءها تقف تلك الفاتنة المتألقة خفراً وحياء, التجربة أثبتت أن المسألة لا تستحق كل هـذه القصائد : شعراً بليغاً أو أغنيات عامية.

وأكثر الأبواب ظهوراً في صفوف الإبداع الحديث : أبواب السجون والمعتقلات ومستعمرات النفي والحصار, وصرير هذه الأبواب بالغ الشجن والعذاب عند الإغلاق أو الفتح : يوسف إدريس وحنا مينه ونجيب محفوظ ولوركا الإسباني والبيركامى وسارتر ونجيب سرور وعبدالوهاب البياتي وناظم حكمت والكونت دي مونت كريستو: أقصد الكسندر دوماس الأب والطاهر وطار وفؤاد حداد وعبدالله النديم, وعدد كبير من هؤلاء الذين أحسوا بالسجون أو وقعوا في براثنها لتتحول الكوّات - أي الفتحات الضيقة - إلى أبواب الاختناق والتوجس والأمل العظيم : خروجاً منها أو موتاً داخلها.

وتحظى البيوت بأكبر عدد من الأبواب, لا يفوقها سوى أبواب الكتب والدراسات التي استخرجت لها نظامها من فن التبويب, غير أن كثيراً من المدن تقيم أبوابها - الحقيقية أو المعنوية - لتصبح جزءاً من خصوصيتها : أبواب طيبة السبعة, (وسوف تجدها في أسطورة أوديب الإغريقية مع أن طيبة فرعونية خالصة), وخلف قصر عابدين في القاهرة باب باريس أو بوابة باريس (والبوابة تأنيث يتيح الإحساس بالوسع أكثر مما يعنيه الباب في الإحساس الشعبي), ثم هناك -في القاهرة القديمة- باب زويلة وباب النصر وبوابة المتولى, وقد انسحب ذلك إلى أسماء عدد من ميادين العاصمة دون أن يكون لها أبواب حقيقية : باب الشعرية وباب اللوق وباب الخلق. كما أن للجسد الإنساني دورته البابية التي يقوم فيها الوريد البابي بتجميع الدم من أنحاء القناة الهضمية, ليدخل الكبد فيتولى تحريكه أو إعادة تصنيعه وتصديره إلى الأجهزة العليا في القلب والرئتين, وربما من ذلك جاءت (البابية) والتي تعني - بعيداً عن الدم وأمور الهضم والتغذية - الأعجوبة, يقال أتى فلان ببابيّة, وبالطبع فإن هذه المعجزة البابية لم تعد تستخدم - لغويا - الآن.

وبعد : فإن الفترة التي قضيتها وراء مصاريع الأبواب في الكتب والمعاجم والمعرفة الجارية, تحول بيني وبين إغلاق هذا الباب, ذلك أن كثيراً مـن الأبـواب لا تنفتح بسهولة لعدم دراية الكثيرين بفن الإغلاق, وهو ما ينعكس أيضاً على تلك الأبواب والتي من دوام فتحها لا نجيد إغلاقها, رجاء استبعاد التربية والفوضى ومفهوم العديدين لمعنى الديمقراطية, وفوضى التفكير أيضاً.

 

محمد مستجاب